لقد أشكلت الفلسفة على الإنسان أيما استشكال واستعصت على الفهم أيما استعصاء سواء من جهة العبارة أو الفكرة أو المنهج أو الموقف. ولقد زاد هذا الغموض عند قيام الاتجاهات الفلسفية وبروز الفلاسفة الكبار واكتساح المدارس الفكرية والمذاهب العلمية واندلاع نزاع العمالقة حول الوجود.
إذ تبدو الفلسفة من جهة أولى تجربة فكرية صعبة تجلب الحيرة والارتياب وتوقع الذهن في الكثير من المزالق ومن جهة أخرى يمكن حفظ قواعدها واستعمال طرقها في الحياة والتعويل عليها في التطور.
لم تقل هذه الحيرة ولم يتناقص هذا الالتباس إلا عندما تم اعتبار الروح الفلسفية هي بلوغ نصيب من المعرفة بشكل متأني بالاعتماد على مسالك منهجية معلومة والتمتع بجرعة من سعادة الحكمة المرحة.
لقد ربط الفلاسفة حينئذ التفكير بالحياة والمعرفة النظرية بالاهتمام بالمعلومات المفيدة وجعلوا عملية اكتساب الحقيقة مقترنا بإنتاج المنفعة وصناعة الذكاء وابتكار الآلة واختراع القانون وإضفاء القيمة.
بيد أن الفلسفة ليست مذهبا تام التكوين ولا عقيدة جامدة تشكلت بصورة مكتملة ولا تتضمن نسقا مغلقا وإنما هي فلسفات أوجدها العديد من الفلاسفة وتوجد في التاريخ وترتبط بالواقع وتعرف حدوث عدة تغيرات والكثير من المراجعات بحيث تتجدد فيها المفاهيم وتنمو عبرها المناهج وتتوالد المقاربات.
بهذا المعنى تحبذ الفلسفة التفكير الحر عبر آليات السؤال والحوار وتمارس النقد والتفكيك والتأويل والتغيير وتشيد النظريات المعرفية وتبني الأنساق المفتوحة وتدفع اللغة إلى وصف الواقع الطبيعي.
غير أن تاريخ الفلسفة شهد ظهور مجموعة من الأزمات وبروز الكثير من الظواهر الملغزة والمسائل المستعصية مما دفعت بالعقول إلى الاستنجاد بالتجربة التطبيقية حينا أو الاعتصام بالرياضيات أحيانا.
في هذا السياق يعتبر أرسطو 384- 322 قبل الميلاد من أول الفلاسفة الإغريق الذين كانوا على وعي تام بحدة الأزمة التي عصفت بالمدينة وعجلوا بتوجيه الفلسفة نحو تفقد مقولاتها للرد على التحديات.
تبدو الملامح الأولى للأزمة بشكل واضح في نوع علاقة التلميذ أرسطو بالأستاذ أفلاطون أو في علاقة فيلسوف سابق بفيلسوف لاحق التي تدعو إلى ممارسة الابتكار والإضافة والخروج عن السابق من ناحية أولى والى الوفاء والالتزام والإيمان باستمرارية وتواصل القيم الفلسفية من ناحية ثانية.
بعد ذلك تكمن أهمية أرسطو، ثانية، في وضعه جملة من المباحث الأساسية كالميتافيزيقا والمنطق والإيتيقا والسياسة والفيزياء ولكن الأكثر استشكال هو طرحه قضية العلل الأولى ومبادئ القصوى.
من جهة ثالثة انتمي أرسطو إلى اللحظة التأسيسية للفلسفة الإغريقية التي دفعت بالعقل إلى القطع مع الخرافة ولكنه ظل يُعتَبرُ أول الفلاسفة الإغريق الذين حاولوا أن يكونوا طبيعيين بلا حاجة للأساطير.
على مستوى رابع تبني أرسطو تصورا موسوعيا للفلسفة وأنتج نظرة كونية للأشياء واحتلت مسألة الكلي منزلة محورية في فكره ولكنه دعا إلى التعمق في دراسة الظواهر ودافع على التخصص وكان أول الذين قسموا المعرفة إلى علوم دقيقة وميزوا حقل التجربة إلى دوائر معلومة وأدراج متصلة.
على هذا الأساس تطرح العديد من الأسئلة حول نظريته في المعرفة وفكرته عن الطبيعة ونظرته للكون والمنهج المنطقي للتفكير وعلاقة النفس بالجسم ومنزلة المادة من الحياة وتصنيف العلوم لديه. إذ كيف يكون واضع علم مابعد الطبيعة وعلم الطبيعة في الآن نفسه؟ وبأي معنى قام ببناء المنطق من مقولات عن اللغة والفكر والوجود وأصناف من الكائنات الحية والتاريخ الطبيعي مثل النوع والجنس؟
1- الحكمة النظرية:
لقد انطلق أرسطو من الآراء اليقينية حول الأشياء المجهولة والمدركة والمظاهر الموثوق بها من قبل عدد كبير من الناس واعتبرها حقائق تقودنا إلى إدراك الوقائع و معرفة منزلتنا في الكون والتفلسف.
لقد اعتبر الحياة الإنسانية تتضمن ضرورة الحاجة إلى البحث والتحرك ومطلب تحصيل كل المعرفة وممارسة التفلسف والنظر في الطبيعة والاعتبار من الظواهر الكونية وبلوغ الحكمة من خلال التفكر.
لقد تصور الحكيم على أنه الإنسان المتحصل على معرفة بجميع الحقائق لكل الأشياء في كل الأزمنة والقادر على بلوغ السعادة من خلال الرغبة في المعرفة وليس عن طريق انتماء سياسي لنظام عادل.
لقد قاد الفكر الموسوعي الذي تبناه أرسطو إلى بناء معرفة شمولية تنظر في الكون من جميع جوانبه الظاهرة والخفية وكذلك الأجسام الهائلة والأجسام الدقيقة وأيضا الظواهر البعيدة والظواهر القريبة.
لقد ارتكزت المعرفة الفلسفية عند أرسطو على التأمل النظري وطاردت الكلية وبحثت عن المطلق ولكنها في ذات الوقت أدخلت الملاحظة إلى الفكر وعولت على حركة اليد المتجهة إلى الأرض من أجل الاحتكام إلى التجربة والعودة إلى التاريخ الطبيعي واستعان بالسبر والاستقراء بعد الاستنباط.
لقد اعتمد أرسطو على الرياضيات في مقاربته الفيزيائية والمنطقية للطبيعة التي استقاها من العلماء الإغريق الذين سبقوه على غرار فيثاغورس وطاليس وأرخميدس وإقليدس وديمقريطس وهرقليطس. ولكنه ظل مشدودا إلى أستاذه أفلاطون في تعويله على مبدأ اللّوغوس من حيث هو تفكير عقلاني قادر على النظر إلى الطبيعة من جهة العلاقات التي تتكون منها الوقائع والتعبير عنها عبر خطاب متماسك.
في المقابل خالف فيلسوف الأرض أرسطو فيلسوف السماء أفلاطون- حسب الرسام رافيال في لوحته الشهيرة- بمنح الرأي والخطابة والشعر والمجاز منزلة في الشغل المعرفي الذي يؤديه الفكر الفلسفي.
من المعلوم أن أفلاطون جعل الفلسفة في قطيعة جذرية مع الرأي واعتبر محب الرأي فيلسوف مضاد والآية على ذلك أن الرأي هو مجرد عتمة يجب على النفس جبه من أجل الشروع في التأمل والتفكر، واعتبر السفسطائيين شياطين ومهرجين لزعمهم امتلاك الحكمة واستعمالهم اللغة للخداع والهيمنة.
إذا كان أفلاطون قد أجاز اعتماد التفكير الفلسفي على جل الأساطير من أجل بلورة الأفكار وتوضيح المفاهيم فإن أرسطو ابتعد عن ذلك وعَوَّلَ على تجميع ملاحظات عن الحياة المشتركة واللغة الجارية.
علاوة على أن أرسطو تفلسف بشكل مغاير حيث اعتبر الأفكار المشتركة وألفاظ اللغة المتداولة نقاط انطلاق نافعة من أجل بناء معرفة يقينية بالكون واتخذها أصلا ومصدرا لكل حكم عقلي على العالم.
كما أعاد الاعتبار للسفسطائيين حينما أخذ محمل الجد الدور المعرفي لتقنيات الكلام في فن الخطابة وثمن التوازي بين النحو كنظام اللغة والمنطق بوصفه نظام التفكير، بين حسن القول وحسن النظر.
لقد جعل أرسطو من تجربة التفلسف مقترنة بالدهشة والتعجب عند النظر إلى الموجودات وطرح سؤال لماذا؟ وقام بتفريع ذلك إلى أسئلة أخرى على غرار ماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ ومن؟ ولمن ؟…
من هذا المنطلق يقر أرسطو بوجود ترابط أصلي بين بنية الوجود وبنية الفكر وبنية المعرفة، ولما بقي الوجود يقال على أنحاء عدة والفكر يقطن بين الكلي والجزئي فإن المعرفة تقال على أنحاء عدة أيضا.
كما أن الوجودêtre إلى دلالة واحدة لا يشير وإنما يتم الإشارة إليه من زوايا مختلفة والتدلال عليه بطرق شتى وهذا الرأي ينطبق على كل نوع وكل جنس بنفس الكيفية. لكن إذا كان أفلاطون قد بحث عن كيفية إرجاع كثرة الموجودات وتعدد الأشياء إلى مبدأ موحد أسماه الأيدوسeidos أو المثال وأقر بوحدة الحقيقة والقيمة والأصل ووضع معايير كونية وخصائص عامة تميز المعرفة العلمية عن الظن والرأي والوهم وفتش عن ماهية الفضيلة في حد ذاتها عند كل تحديد واستقر به الأمر على إعلاء قيمة العدالة عند الحكام والجشاعة عند الحراس والاعتدال عند العامة من أجل بلوغ السعادة فإن أرسطو على العكس من ذلك أبقى على حركة الموجودات في تنوعها واعتبر الاختلاف الموجود بين الفضائل أمرا لا يقبل الإرجاع إلى أي مبدأ أول مهما كان شرفه وحتى إن زادت منزلته أو نقصت.
من ناحية ثانية إذا تعذر على الفكر الفلسفي بلوغ معرفة موحدة وشاملة يفترض أرسطو وجود علم أسمى أطلق عليه تسمية علم الوجود بماهو موجود وتم نعته في مقام آخر بالفلسفة الأولى والميتافيزيقا.
لقد ميز أرسطو بين خمسة فضائل هي التقنيةtechné والمعرفةepistimé والحذرphronésis والحكمةsophia والعقل nous ، كما قسم أرسطو ميدان المعرفة إلى ثلاثة مجموعات كبرى:
– علوم نظرية théorétiquesتدرس المعرفة الخالصة مثل الفلسفة الأولى والمنطق أو الفيزياء
– علوم تطبيقية pratiques تتعلق بقوى الفعل وأغراضه وخاصة الأخلاق والسياسة والاقتصاد.
– علوم إنشائية poïetiques تمس عناصر الإنتاج والخلق في التقنية الصناعية والفنون التشكيلية.
في الواقع ، يفرق أرسطو هنا بين théorétiques وthéoriques وذلك لوجود تقارب كبير في المعنى بينهما ويرى أن النظري لا تنطبق هنا على العلم بقدر ما تنطبق على موضوعه. كما أنه يفرق بين المتقاربين poïetiques و poétiquesويرى أن الجذر الإغريقي poïesie قد تفرع عنه لفظ الشعرpoésie والذي يعني الإنتاج بينما العلوم التشكيلية يمكن أن تدل على العلوم الموهوبة بالشعر.
بعد ذلك يرفض أرسطو القول بوحدة الحقيقة وينفي وجود معيار كوني ويبرر ذلك الرفض باحتمال إسناد صفة التقريب والمرجح والممكن والجائز والعرض على بعض جهات الوجود ومناطق المعرفة.
كان أفلاطون قد اعتبر الجدل صعود روحاني للنفس نحو المثل فإن أرسطو قلل من وظيفة هذا المنهج وذلك لما أطلق تسمية منطق الاحتمال على الجدل بالتعارض من المنطق الذي يعالج الحقيقة اليقينية.
فماهي الفروقات التي يكشف عنها أرسطو بين منطق ضعيف للاحتمال ومنطق قوي للبرهان؟
والحق أن المنطق البرهاني هو الفكر القادر على الحكم في القضايا والبت في الأحكام والتمييز بين الحقائق. وبما أن الوجود يقال على أنحاء عدة ولما افتقد فعل الوجود المعنى نفسه بين عبارة “هذا أبيض” وعبارة “انه إنسان” وعبارة “انه جالس” فإنه يجب تعريفه عبر المحمولات الممنوحة له.
في هذا الصدد يميز أرسطو بين عشرة محمولات التي لا تعني لوحدها شيئا ولذلك ينبغي أن تدخل في علاقة مع محمولات أخرى ويجب أن تخضع إرادة القول لبنية الخطاب عن الوجود لكي تمتلك معنى.
تتبلور قائمة المقولات العشرة على النحو التالي: الجوهر، الكم، الكيف، العلاقة، المكان، الزمان، الوضع، الملكية، الفعل ، الانفعال. وتمثل هذه المقولات أجوبة على الأسئلة التي يمكن طرحها حول أي كائن بالشكل الآتي: من؟ ماذا؟ كيف؟ كم؟ مع من؟ أين؟ متى؟ بأي طريقة؟ من ماذا؟ وبماذا؟
يتكون المنطق الأرسطي من تعريفات وقضايا واستدلالات ونتائج، ويتمثل الاستدلال في التفكير أو الإحالة إلى مرجع واقعي من أجل استخلاص قضايا معينة تتكون من جملة من الملاحظات التجريبية والأوليات الرياضية التي يتم استنتاجها من قضية بديهية أخرى تكون لازمة بصورة ضرورية عنها.
إن الاستدلال هو مرور من المعلوم إلى المجهول ومن الضمني إلى المعلن ومن الباطن إلى الظاهر عبر آلية القياس التي تتكون من ثلاثة عناصر مترابطة فيما بينها بشكل منطقي ومتساوق: وهي المقدمة الكبرى تشير إلى القاعدة العامة التي والمقدمة الصغرى التي تمثل الواقعة الخاصة والنتيجة.
يبلور القياس ترابطا بين طرفين يشكل الطرف الأول الموضوع ويمثل الطرف الثاني المحمول على النتيجة وبعبارة أخرى يجب إيجاد الحد الأوسط بين ذات القضية الكبرى ومحمول القضية الصغرى.
إذا كان الاستنباط عملية ذهنية خالصة تتم داخل التجربة الفكرية بالانتقال من العام إلى الخاص فإن الاستقراء هو تعميم عقلاني يجري داخل التجربة الميدانية ويقوم على استخلاص الكلي من الجزئي.
لقد رفض أرسطو نظرية المثل الأفلاطونية التي تفترض وجود معقول مغاير للوجود المحسوس وبين أن الكائنات تتكون بامتزاج وتشاكل بين المادة والصورة في كيفيات الليونة والسيولة والتجمد والتبخر.
لقد كان أرسطو المنظر الأول لعمل التجريد عن طريق انتزاع صور المحسوسات من الأشياء المادية والاستنجاد بالتذكر والتخيل والتصور والانتقال من حال الوجود بالقوة إلى وضع من الوجود بالفعل.
إن الفكرة أو المثال بالنسبة إلى أرسطو لا يتنزه لوحده في السماء العقلي بمرافقة الآلهة وإنما يكمن في الوجود ذاته ويقوم بتحديد نوعه و ضبط جنسه ضمن نظام الوجود بواسطة الخاصة والعرض الذاتي.
المعرفة الفكرية تتطلب استخلاص الصور من المحسوسات بتجريدها من مواد الأشياء دون الاعتقاد بإعادتها إلى عالم مثالي وقع افتراضه مسبقا والاجتهاد بإخراجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
من هذا المنطلق تبدو الفلسفة الأرسطية فلسفة غائية لأن الأهم من وجود الموجودات ومعرفتها هو الغاية التي تصل إلى تحقيقها وتتشوق إلى محاكاتها ولذلك عرف الفلسفة بأنها علم المعلوم الأسمى.
يفهم أرسطو كلمة غاية بمعنيين: الهدف الذي يتطلب توفير جملة من الوسائل قصد بلوغه والعلة التي تمنح الوجود وتفسره ولذلك كان قد صرح أن الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا وأنها تتحرك من أجل غايات.
إذا كان أنكساغور قد رأى بأن الإنسان يفكر لأنه يمتلك يدين فإن أرسطو قد تصور العكس وقد أقر بأن الإنسان يحوز على يدين لأنه يفكر وبالتالي لا يكتفي بابتكار جملة من الأدوات والوسائل وإنما يتبع سلم تراتبي من الغايات ويحول غايات نسبية إلى وسائل بغية بلوغ غايات أسمى وأهداف مطلقة.
بطبيعة الحال ترتب عن ذلك تغيير في نظرة الفلسفة إلى وجود الله فإذا كان ما قبل السقراطيين يؤمنون بتعدد الآلهة على غرار ديونوزوس وأبولون وزوس ويدرجوها ضمن تصورات أسطورية فإن أرسطو في كتاب الميتافيزيقا يتحدث عن الله في المفرد لا في الجمع ويعرفه وفق ثلاثة صيغ ملغزة: محرك أول يحرك بقية الكائنات وهو لا يتحرك، العقل الذي يعقل ذاته، الحركة الخالصة. بهذا المعنى تم نفي الطابع المشخص للألوهية الذي كان موجودا في معظم التصورات الإغريقية الخرافية ولم يعد الله شخصا ولا يملك أي خاصية أخلاقية ولم تعد له قدرة خلاقة للكون وبقي له دور تنظيمي.
لقد أبقى أرسطو لله وظيفة كوسمولوجية بحيث يمثل الضرورة الفكرية وأساس السببية الطبيعية وأصل حركة الأشياء والعلة الأولى ومصدر التناغم والانسجام والنظام في الكون والمعشوق الأول للكائنات.
من جهة ثانية قدم أرسطو فكرة عن عالمين ينتميان إلى حقيقة فيزيائية واحدة ويوجد الأول فوق القمر وتكون حركة الأجسام فيه دائرية وكاملة وترمز إلى الأبدية بينما ينتمي العالم الثاني إلى ما تحت القمر وتتحرك الأجسام الأرضية بصورة اضطرارية بالدفع أو الجذب في وضع ناقص باحثة عن كمال أول وفق مسارات متنوعة وتكون من الأسفل إلى الأعلى أو العكس ومن اليمين إلى الشمال أو العكس.
لقد كان أرسطو قد ميز بين أربعة أنواع من الحركة: الأولى هي العلة الغائية وتتمثل في اكتمال مشروع التمثال ، الثانية هي العلة المادة وتتمثل في المادة التي صنع منها التمثال، والثالثة هي العلة الفاعلة وتتمثل في يد النحات التي قامت بصنع التمثال، والرابعة هي العلة الصورة ويمثل في الشكل.
تمثل العلة الفاعلة ، في التصور العادي، العلة الحقيقية لإحداث الشيء أو الفعل وتظل العلل الأخرى مجرد ظروف محيطة وشروط محددة ووضعيات معينة تحدث فيها الأشياء وتقع الأحداث والأفعال.
بيد أن أرسطو يخالف الموقف المعتاد ويعتبر العلة الغائية هي الأكثر أهمية بينما يطلق تسمية الأسباب على العلة المادية والعلة الصورية ويبرر ذلك بأن السبب هو الذي يمنح الشيء وجوده ويتيح معرفته.
اللافت للنظر أن التصور الأرسطي للعالم يندرج ضمن نظرية السطوح التي صاغها أيدوكسedoxe الذي جعل الكون متشكلا من مركز الأرض ومن مجموعة من السطوح الصغيرة التي تدور حولها.
لقد أخذ أرسطو كذلك عن بارمنيدس وأفلاطون نموذج الكون المسطح الذي يتضمن جملة من الأبعاد والعناصر والأحجام التي تكون صورة العالم من جهة كليته وكماله وتناهيه وأبديته وانغلاقه وتساوقه.
بناء على ذلك كان لأرسطو السبق في تشييد علم جديد اصطلح على تسميته فيما بعد بالميتافيزيقا ولقد تراوح معناها بين الفلسفة الأولى التي تدرس الوجود من حيث هو موجود وبالتالي الأنطولوجيا التي تهتم بمعرفة الماهيات والجواهر و مابعد الطبيعة تماشيا مع ما كان أندرونيكوس الروديسي قد قام به عندما وضعها في ترتيب المباحث بعد الفيزياء وجعلها تعني العلم الذي يدرس حقائق الوجود الواحد.
بهذا المعنى يفيد لفظmeta ما بعد الطبيعة وما وراء الظواهر وما فوق المحسوس ولقد عني هذا التقدم المجال الزمني والبعد المكاني والنظام المنطقي واقتصر في النهاية على الله والروح والعالم.
لقد أشار أرسطو إلى أن طبيعة الفلسفة من حيث الأصل الذي تنبع منه هي دهشة النظر في الوجود ونقد نظرية المثل الأفلاطونية التي تستمد موضوعيتها من قسمة الموجودات إلى المحسوس والمعقول واعتبر الشيء الحسي هو صورة الموجود الواقعي وأقر بالمحايثة بين الفكرة الحقيقية والشيء المادي. ولقد تعامل مع الفلسفة الأولى من حيث هي معالجة ليس للوجود كماهو وإنما للوجود بما هو موجود وللوجود بصفة عامة ، ويتضمن هذا المبحث أيضا مبادئ الاستدلال التي تتحكم في كل فكر إنساني وتتمثل في مبدأ عم التناقض الذي يقر باستحالة تضمين محمول إلى نفس الموضوع ونفيه في ذات الوقت وضمن نفس العلاقة ، ومبدأ الثالث المرفوع الذي يؤكد على أن قضيتين متناقضتين تكون واحة منهما صائبة وتكون القضية الثانية كاذبة ، ومبدأ الهوية الذي يقر باستمرارية تطابق الشيء مع نفسه.
بعد ذلك قام أرسطو بالتمييز بين ثلاثة أنماط من الأنفس تماشيا مع ما يوجد في الطبيعة من النباتات والحيوانات والبشر وأوضح أن النفس النباتية حساسة والنفس الحيوانية محركة والنفس العاقلة مدركة.
إذا كانت النفس النباتية تسمح للكائن الحي بالتغذي والنمو والتكاثر وإذا كانت النفس الحيوانية أهم منها لأنها تسمح بالحركة والتنقل والتأقلم مع الظروف فإن النفس العاقلة أكثر أهمية بالنظر إلى أنها تسمح للكائن البشري بالتفكير والمعرفة وتمنحه الإحساس بالكرامة والحرية والكلام والوعي بالكمال.
إذا كان النموذج الرياضي يهيمن على فلسفة أفلاطون ويمنح المثل صور تامة التشكل ويجعلها حقائق أبدية ويمنح الكيانات العقلية أسبقية وجودية ويطلب من الكيانات الحسية محاكاتها والتشبه بها على قدر استطاعتها فإن النموذج العلمي المهيمن على فلسفة الحياة عند أرسطو هو النموذج البيولوجي الذي يجعل الصورة نتيجة تكوين معرفي وإدراك تجريبي للواقع الخارجي ويعطي قيمة للبعد المادي.
هكذا يميز أرسطو بين العضو والأداة ويرى أن العضو لا يصبح عضوا إلا إذا استكمل وظيفته على أحسن وجه وأن اليد البشرية تختلف عن اليد الصناعية من حيث صورتها وحركتها وفاعليتها وغايتها وينتبه إلى أن الجسم هو أكثر كلية من الكل وأنه يتفوق على عدد العناصر التي يتكون منها مجتمعة وبالتالي يفرق بين الكل والمجموع الذي يتكون من عدة عناصر مجموعة مع بعضها البعض فحسب.
بطبيعة الحال يضع أرسطو الكل الطبيعي في مرتبة متقدمة على الكل الاصطناعي وذلك للتداخل والاندماج في العناصر التي يتكون منها في حين يمكن إنقاص أو زيادة عنصر في تكوين الثاني. وتجدر الإشارة إلى أن الفن الكلاسيكي عند الإغريق يرى أن الثر الفني لا يكون جميلا إلا إذا شكل كلا تاما ولذلك ظل الفن رهين الطبيعة ضمن نظرية المحاكاة وظل الكل الطبيعي مرجعا أولا للجمال، في حين تم معاملة الآثار اللاّمكتملة والناقصة والمبتورة والمشوهة بوصفها غير جملية وغير لائقة.
غاية مراد الحكمة النظرية عند أرسطو هي نفي وجود اللانهائي على المستوى البيولجي والفيزيائي والإستطيقي وذلك بالنظر إلى أن اللانهائي مترامي الأطراف وهوته متسعة بينما النهائي تام ومكتمل.
لكن ماهي تبعات الحكمة النظرية في المجال التطبيقي؟ وكيف أسس أرسطو الحكمة من حيث الفعل؟
2-الحكمة العملية:
لقد قام أرسطو بتقديم الإيتيقا على السياسة والقانون على التربية وميز في المستوى الأخلاقي بين الفضائل العقلية التي تتطلب تربية فكرية والفضائل الأخلاقية التي تبقى ناتجة عن الإيتوسethos أي من العادة.
لقد تناول أرسطو المسألة الأخلاقية في عدد من المؤلفات والرسائل، ولعل أهمها هي رسالة إيتيقا إلى إيديم التي كتبها في الفترة التي سبقت تأسيسه المعهد ودرس فيها قضية الموضوعات السلوكية بطريقة مبسطة ومقتضبة ، ثم رسالة إيتيقا إلى نيقوماخوس التي جمع فيها جملة المقاربات التي حلل بها المشاكل الأخلاقية ووضع فيها دراسة متأنية عن طبيعة الفضيلة والخير الأسمى والطبائع الضرورية لبلوغ هذه الفضيلة.
لقد حدد أرسطو الإيتيقا بوصفها حقل العلم العملي وراهن على دراستها من أجل السماح للكائنات البشرية من أجل قضاء حياة جيدة بالتقيد بالفضائل الأخلاقية مثل العدالة والشجاعة والاعتدال على الرغم من مزج عناصر متنافرة من البعد العقلاني مثل التعقل والبعد الغرائزي مثل العواطف والبعد الاجتماعي كالعادات.
لقد اتجهت الإيتيقا تماما مثل السياسة والاقتصاد نحو البحث عن الخير واصطبغت بنزعة طبيعية تعتبر المدينة مجرد خلية عضوية لا تستطيع أن تتطور وتحافظ على كيانها الوجودي بلا عدالة ومحبة وصداقة.
إذا كان أفلاطون قد ظل يعتقد في أن دراسة العلوم والميتافيزيقا هي التي تمنح الإنسان فهما عميقا بطبيعة الخير والفضيلة فإن أرسطو صار ينظر إلى أن الحياة الجيدة هي التي تستوجب على المرء اكتساب القدرة على فهم نوعية الأفعال المطابقة للعقل في كل حالة والالتزام بقيمها وتطبيقها وفق الوضعيات المناسبة.
ماهو هام بالنسبة إلى المرء ليس إتباع قواعد عامة في وضعيات خاصة وإنما العمل على تحصيل عن طريق استعدادات تداولية وعاطفية واجتماعية اقتدارات لفهم أعمق بالوجود الأحسن في المجال العملي.
بهذا ليس الهدف من الإيتيقا معرفة ماهية الفضيلة وغايتها وإنما بيان الكيفية التي تجعل المرء يكون سعيدا ولا تعد الإيتيقا نسقا من الأوامر والنواهي بل تمثل حقلا مستقلا لا يحصل على أي خبرة من حقول أخرى.
لقد أمن أرسطو بأن الإنسان في حياته لا يرغب إلا في أن يكون سعيدا وبالتالي كان تفكيره الأخلاقي منصبا على تحصيل هذه الغايةّ، ولكن إذا كان جميع الناس يرغبون في السعادة فإنهم اختلفوا حول الوسائل التي يمكن إتباعها من اجل بلوغ هذا المطلب، فالبعض طالب بالمواطنة الفاعلة في المدينة، بينما البعض الأخر اعتقد في الحياة المنعزلة عن الناس والتمتع بالملذات الجسمانية، من جهة ثالثة حذر فريق آخر من الاستغراق في تجرد التصوف أو طلب منافع مادية تدور حول راحة الجسم لما تجلبه من ضرر وشقاء.
لقد أعلن أرسطو أن كل فعل بشري يرنو إلى الخير الذي هو غايته وما تم تسميته خيرا أولا أو خيرا أسمى اعتبره أرسطو في ذات الوقت منبع السعادة والحياة الجيدة ولذلك لأن الوجود السعيد هو الغاية القصوى للكائن البشري بالمقارنة مع الغايات الأخرى التي تحقق خيرات جزئية مثل امتلاك الثروة والصحة واللذة الجسمانية والسلطة والشهرة تبقى تابعة للخير الأسمى وتظل مجرد غايات جزئية مشروطة بالغاية التامة.
على هذا النحو يتصف الخير الأسمى بثلاثة خصائص وتتمثل الأولى في أنه مرغوب فيه لذاته والثانية في أنه غير مرغوب فيه من أجل خيرات أخرى والثالثة هي أنه لا يرغب في الأخرى إلا من أجل بلوغه هو.
بهذا المعنى تعتبر الإيتيقا هي المرجع التكويني للسياسة عند أرسطو وذلك لأن التحكم في الحياة يستوجب المعرفة بالخير الأسمى ويتطلب امتلاك علما معماريا بامتياز هو السياسة التي تحدد الضروري للمدينة.
إن الغاية الجوهرية للكائن البشري هي مهمته في الحياة ووظيفته في المجتمع والتي تتمثل في استعماله للقسم العاقل من ماهيته لشكل متطابق مع الفضيلة ومن أجل تحقيق الأسمى بالنسبة إلى الوجود البشري، وانه لكي يعيش المرء حياة جيدة مطالب بأن يمارس الأنشطة طوال حياته تحين فضائل العاقلة من النفس.
توجد تصورات مختلفة عن السعادة وربما الصورة الأكثر عمومية هي التي تقع في الخلط بينها وبين اللذة ولكن هذا التصور عن السعادة هو الخاص بالغالبية العظمى من الناس ويشتركون فيها مع معظم الحيوان. بعد ذلك هناك شكل أعلى من السعادة يرتكز على التقدير التي يمنحه المجتمع من خلال الاعتراف بالنجاح ويحقق للمرء الرضا والراحة والإشباع ويعتبر بمثابة اللذة المطلقة من حيث هي لذة خالصة وليست مادية.
بيد أن شكل آخر من السعادة أكثر سمو من السابق يظل ممكنا بالنسبة إلى الكائن البشري ويتطلب التأمل من أجل البحث عن الحقيقة والسعي إلى ماهو ثابت وأبدي وذلك بالارتقاء إلى مستوى بلوغ الغاية السامية ويتعلق الأمر في هذا الشكل بتحصيل الأشياء الإلهية والعناصر الكونية والقيم المطلقة والمبادئ الأساسية.
لقد رفض أرسطو النظرة المثالية الزهدية عند أفلاطون التي تحصر السعادة في الغبطة النفسانية ولقد قادته نظرته الواقعية إلى التفكير في أخلاق الممكن بالانطلاق من الرغبة في السعادة من حيث هي مطلب كوني تجمع بين هدوء النفس وسلامة الجسم وتربط اللذة بالحركة وتشترط إتباع الفضيلة لتحصيل السعادة.
على أثر ذلك طرح أرسطو في كتبه الأخلاقية الصريحة إيتيقا الحد الأوسط التي تعترض على أخلاق القداسة وتعتمد فضيلة التعقل والحذر قصد إصابة الحد الأوسط في كل مسألة دون إفراط أو تفريط والتي تتفادى الزيادة أو النقصان وتكتفي بالضروري والمطلوب واللازم والمتاح والممكن والطبيعي والمعقول.
كل الناس الأحرار يولدون ولهم الإمكانية لكي يصيروا فاضلين أخلاقيا وذلك لأن الفضيلة ليست مجرد اقتدار في حالة معينة وفي ظرفية خاصة وإنما هي تحقيق لفعل مستمر في كل حالة وفي جميع الظروف. إنها ترتبط بالموضع والمقام والطبع والعادة على الفعل الجيد وحسن التصرف التي يتقنها المرء في حياته.
إذا كانت الفضائل العقلية تتقوم بالتعليم الذي يتحصل عليه المرء أثناء تجاربه الحياتية فإن الفضائل الأخلاقية تظل من إنتاج العادة وتتطلب ممارسة الأفعال العادلة بالتعقل والتروي والحذر وقوة التمييز.
وإذا كانت الفضائل العقلية تتضمن المعرفة التي تستند على الاستقراء وتشتغل على القياس والتقنية التي هي فن يعمل من خلال استعداد مرافق للقاعدة الصحيحة على غرار المعمار وإذا كان الحذر هو التروي الصائب حول الأعمال الجيدة والمفيدة وإذا كان الفهم بالحدس هو التجربة المدركة للمبادئ بشكل مباشر فإن الحكمة النظرية تعتبر أكثر الفضائل الفكرية علوا وأكثر صور المعرفة قربا من الحقائق اليقينية. لهذا السبب يحتل الحذر عمليا مركز الثقل في شبكة الفضائل الأخلاقية وذلك لأنه يعد الحكمة العملية بامتياز.
لقد تفطن أرسطو إلى أهمية فضيلة التعقل في سبيل إصابة الحد الأوسط في جميع الأعمال وبرر ذلك بأن الشخص غير المعتدل لا يتبع العقل وإنما يتصرف وفق الانفعالات المتقلبة ويظل عرضة لتأثير الأهواء، بينما الفضيلة الأخلاقية تستلزم الاعتدال وتختار التوسط بغية تفادي الوقوع في رذائل التفريط والإفراط.
اللافت للنظر أن أرسطو استخرج أربع أشكال من الغلو وهي التوتر الناتج عن الإفراط اللذة والغضب والعجز الناتج عن التفريط فيهما ، وأقر بأهمية التربية الذاتية التي تقويها العادة ويقودها العقل وتشحذها الإرادة ويتحكم فيها ميزان الاعتدال وحذر من لعبة الأهواء وفوضى الباثوس المضاد لنظام اللّوغوس.
توجد ثلاثة عوامل مهيمنة هي التي تحدد الفعل والحقيقة وتتمثل في الإحساس والعقل والرغبة ويقر بأن الرغبات لا تقود إلى الخير في أغلب الأحيان ولكنها تقدر على قيادة المرء إلى توفير الإشباع المباشر.
لكي يفعل المرء بطريقة جيدة كان لزاما عليه أن يتبع أوامر العقل وأن يتروى في الاختيارات ويتفحص في الإمكانيات المتاحة أمامه ويدرس الوسائل التي يستطيع استعمالها ويفضل الغايات الممكنة التحقيق.
يلخص أرسطو العوامل الثلاثة التي تمثل حوافز من أجل الفعل وهي الجميل والنافع واللذيذ ويطلق على أضدادها تسميات القبيح والضار والمؤذي ويترك المجال للتروي في الوسائل والاختيار العقلاني منها.
لا يتم التعقل حول الغاية في حد ذاتها بل يدور حول الوسائل الممكنة التي تفضي إلى بلوغها ولهذا تتمثل جودة الروية في الاختيار التفضيلي الصائب وحسن التمييز بين الرذائل والفضائل واستهداف الغاية التامة.
لا يستعمل أرسطو مفاهيم حرية الاختيار والمسؤولية طالما أنها اختراعات الذات الحديثة بل يقتصر عمله على الإرادة والتفضيل والتعقل من خلال الدراية وبواسطة المعرفة وليس عن جهل وفي ظل غلبة التقليد.
التفضيل يتطلب فعلا إراديا وميزة إنسانية وتعقلا واعيا ومقصدا غائيا وليس أمرا مشتركا عند جميع الناس بما في ذلك غير العقلاء الذين ينقادون نحو الميولات والأهواء ويتبعون الغرائز ويتأثرون بنداء العواطف.
على هذا النحو تقود الإرادةُ المرءَ إلى الغاية المنشودة ويقود التفضيل نحو فرز الوسائل التي تستهدف هذه الغاية والإنسان يطلب غاياته ويفاضل بين وسائله بالتعقل والتروي وليس بالجهل أو إتباع الغرائز العمياء.
اللافت للنظر أن الفرونيزيس عند أرسطو لا يدل فقط على الحذر بالمعنى الذي صار عليه عند اللاتينيين فيما بعد وليس نتيجة انشطار داخل العقل واعتراف بهذا الانشطار من حيث هو شرط لعقلانية نقدية جديدة وإنما متطابق مع فضيلة التعقل الذي هو قسم من النفس يتدبر كل ماهو حادث واحتمالي وجائز وعرضي.
إذا كان أفلاطون قد تصور العلاقة بين المثل والأشياء على منوال العلاقة بين الأصل والنسخة وانتهى إلى ضرورة حضور الوسائط لردم الهوة بين المعقول والمحسوس والسماح بالمشاركة بين المثالي والمادي فإن أرسطو يقسم العالم الواقعي نفسه إلى قسمين يسميهما الضروري والحادث أي الجوهري والعرضي وبعبارة أحرى الكلي والجزئي ويمنح التعقل الشرعية الفلسفية لردم الهوة بينهما بعد العجز الذي وقع فيه العلم عند محاولته معرفة الجزئي والحادث بالرغم من كونهما الميدان الخاص بالفعل والتجربة والتاريخ.
بهذا المعنى يقيم التعقل صلة وثيقة بالحدس من أجل إحراز الحد الوسط وتحقيق سرعة الانتقال من المعلوم إلى المجهول ويجمع بين التفكير الثاقب والفعل الحصيف ويلقي النظر بشكل دقيق على المنشود والمتوقع.
بناء على ذلك توصل أرسطو على الصعيد الأخلاقي إلى نظرية في المقيس تعتمد على الاعتدال في الحكم والتوسط عند اتخاذ القرار والتروي عند التفضيل وتستهدف الفاضل اللائق من جهة التربية والفن والطبع.
لكي يصير المرء فاضلا ينبغي أن يبلغ هدفا يتنزل في مقام وسط بين احتمالين مستبعدين بصورة واسعة. زد على ذلك تساعد نظرية الكيل mesureعلى فهم خصائص الأفعال الفاضلة وتقوم بتمييزها عن الأفعال الشريرة وتفرض احترام الأسرة التي تعمل على التربية بإتباع الفضائل وتولي عناية بالشيم الاجتماعية .
من هذا المنطلق يعتبر أرسطو الفضيلة وسط بين رذيلتين، فالشجاعة هي فضيلة تتوسط رذيلة أولى هي التهور الذي ينتج عن الإفراط والزيادة في الثقة ورذيلة ثانية هي الجبن الذي ينتج عن التفريط في القوة.
اللافت للنظر أن الحد الأوسط ليس موقفا ضعيفا ولا يسير إلى تعليق الحكم كما الشأن عند الريبيين وإنما يمثل الحكمة العملية بامتياز ويتطلب دراية بالظروف وإحاطة بالكليات والجزئيات وقدرة على التصميم.
من هذا المنطلق كل الذين لا يمنحون الفضائل قيمة يسقطون في أفعال مشينة ويوصفون بأبشع النعوت وينحرفون نحو الرغبة في الهيمنة والبهرج ويسقطون في رغبات غير قابلة للإشباع ولا يعرفون حدودا ويفقدون القدرة على العيش في تناغم مع الكون وفي سلام داخلي مع النفس وفي تلبية غاية الحياة الجيدة.
يبرهن أرسطو على ذلك بقوله: ” أن عصفور واحد لا يصنع الربيع” ويشير بذلك إلى أن فضيلة واحدة يتمتع بها المرء لا تجعل منه متخلقا وكائنا فاضلا على الدوام بل يجب أن يكون الخير صادرا عن تعقله وترويه صدورا بديهيا ويفترض أن يحوز على الشيم الأخلاقية بصورة دائمة وليس بشكل عرضي.
يضرب أرسطو من أجل أن يستدل أيضا على ضرورة الفضيلة وحقيقة الخير في الاجتماع البشري في جميع الأحوال مثالا عن خضوع عصابة من السرّاق إلى مبدأ عدالة تقسيم المسروق على الأعضاء.
على هذا النحو تختلف العدالة عن المنفعة العامة وتعتبر أقل منها درجة في السلم المعياري، لأن العدالة يطلبها الإنسان من أجل نتائجها وتبعاتها في الوجود الاجتماعي بينما تطلب المنفعة العامة من أجل ذاتها.
بيد أن معنى العدالة يختلف عن معنى المساواة، ولذلك يميز أرسطو بين المساواة العددية الكمية التي تعترض أن يحصل الجميع على نفس الحصة والمساواة الهندسية التناسبية التي تقر بحصول كل واحد على حصة تناسب وظيفته واستحقاقه ، وبعد ذلك بكثير صارت العدالة الجزائية تفيد المساواة المطلقة وأصبحت العدالة التوزيعية تعني المساواة النسبية أي الإنصاف من حيث هو حق وليس وفق القانون.
على هذا الأساس يتضمن النسق القيمي للحياة الاجتماعية عدد كبير من الفضائل التي تتعارض فيما بينها وتطرح على المرء العديد من الإحراجات ولذلك يلجأ إلى المداولة والتروي والاختيار التفضيلي للأحسن.
على خلاف أفلاطون الذي افترض وحدة الجميل والحسن والنافع والحقيقي ضمن إطار أحدية مثال الخير الأسمى يسجل أرسطو التعارض الممكن بين الفضائل المختلفة وخاصة عندما يكون المال النافع أحد منابع الخسائر والأضرار وعندما يتحول الكاذب والزائف والوهمي في المحاكاة إلى مصدر لتشكيل الجميل. فإذا كان أفلاطون مبدئيا بجعله الخير الأسمى أساس الحياة الأخلاقية ومصدر الأفعال الحسنة فإن أرسطو اتخذ خيارا استتباعيا وأسند صفة الخير إلى الأفعال التي ترنو إلى السعادة في غاياتها وتتجنب الضرر والشقاء.
من هذا المنظور ربط أرسطو بين الأخلاق والسياسة من خلال فضيلة المحبة وأضاف إليها مبدأ الصداقة وكانت النتيجة هي اعتماد أخلاق المحبة وسياسة الصداقة وفي شأن آخر أخلاق الصداقة وسياسة المحبة.
من المعلوم أن أرسطو لا يمنح مشاعر الحب أي قيمة في فلسفته ولا يترك لها أي مكان في نسقه القيمي ولكن المحبة كانت حاضرة بقوة على اعتبار أنها فضيلة شاملة وقيمة أخلاقية وسياسية في ذات الوقت. ويبرر ذلك بأن المحبة تسمح للمرء بالتقيد بالفضائل المرادفة على غرار الحلم والطيبة والتآخي والعفو والتواضع والنصيحة والتعارف وتشكل فرصة للجود ومناسبة من أجل البذل وتقوى من تلاحم الاجتماع وتشيد أرضية مشتركة يتقاسمها الناس المتساوون والأحرار وتترجم نجاح التواصل البشري بامتياز. لكن ماهو النظام السياسي الأمثل عند أرسطو؟ هل هو المدينة الدولة الإغريقية أم يفيد الحكم السياسي الفاضل؟
لقد تراوحت البحوث السياسية عند أرسطو بين تحليل ظواهر المدينة والعبودية والمواطنة والتأكيد على أهمية التربية والقوانين والعدالة ولقد وقعت في النظرة الطبيعية إلى المؤسسات المدنية والأفعال السياسية ولقد أثمرت نظرية عامة في الحكم عملت على التمييز بين عدة دساتير وحكومات ولقد أعطت الفاعل السياسي الدور الطليعي من أجل قيادة الاجتماع البشري نحو التحضر والمدنية وترسيخ القيم المواطنية.
إذا كان العلم السياسي عند أرسطو هو علما مدنيا عن الخير والسعادة لكل المواطنين وإذا كانت الدولة الأكثر اكتمال هي التي يتسنى فيها لكل مواطن أن يمارس الفضيلة ويبلغ السعادة على أحسن صورة فإن السياسة لا تقتصر على الفلسفة السياسية بل تضم التربية والإيتيقا والاقتصاد وتعالج طرق وشروط خلق ووضع وتشييد وبناء الأنظمة السياسية المتوازنة وتفتش عن وسائل وأدوات من أجل تقويتها والمحافظة عليها وتدمج في برامج عملها ميادين علم القانون وفقه القضاء وفن الحرب وتدبير المنزل وفن الخطابة.
لكي ينتج النظام السياسي مجتمعا سليما ينبغي أن يمارس حكما عادلا وأن يجعل من مبدأ العدالة فضيلة اجتماعية تنظم العلاقات بين الأفراد وأن يُرفِقَهَا بفضيلة المحبة من أجل البحث عن الخير للعين والغير.
كما يجب أن تكون القوانين التشريعية صائبة وجيدة وواضحة في تفريقها بين العدل والظلم وبين الجائز والممنوع وأن تتحول العدالة من مجرد قيمة أخلاقية الى معيار تشريعي من اجل وضع قوانين دستورية.
لقد أقام أرسطو فكره السياسي أيضا على مبدأ الصداقة أو المحبة وميز بين ثلاثة أنواع منها وهي الصداقة التي تبنى على المصلحة وتبادل الخدمات بين الطرفين وثانيا الصداقة التي تبنى على المنفعة المادية واللذة وفي مستوى ثالث الصداقة الحقيقية التي تخلو من التبادل ويحب فيها الصديق صديقه لذاته ودون غرض.
إن الصداقة الحقيقية هي المحبة الخالصة التي ترتقي إلى مستوى الفضيلة السياسية التي يبنى عليها النظام السياسي والقانوني وتمكن الجميع من المشاركة في الحياة العامة وتقاسم بصورة عادلة المنفعة المشتركة.
إذا حضرت المحبة الخالصة في المدينة بقوة وظهرت للعيان بصورة ملموسة في مستوى العلاقات بين المواطنين وانعكس ذلك في مستوى علاقات القربى والمجاورة والضيافة فإن الحكم يزدهر ويتقوى وإذا غابت بشكل ملحوظ وحلت محلها العداوة والبغضاء في العلاقات فإن النزاعات تتكاثر والحكم يتهاوى.
تلعب التربية دورا هاما في نظرية أرسطو السياسية ولذلك خصص في مؤلفه السياسة عدة فصول بهذا الموضوع وطالب المشرع بأن يضع أوامر صارمة يكون غرضها تربية الناس وتحثهم على طلب العلم وجعل مسألة تربية الأطفال والعناية بهم منذ الصغر من مسؤوليات المشرع ولقد تعارض مع النزعة الجماعية عند أفلاطون ونظر إلى التربية على أنها الوسيلة التي تصل الفرد بالجماعة وتمنح الدولة التي تتكون من كيانات فردية وعناصر كثيرة الوحدة والانسجام ولذلك حرص على توحيد نظم التعليم فيها.
من المفيد هنا الإشارة إلى التمييز الأرسطي بين تربية العقل وتربية الجسم وثنائه على التربية الفنية وعنايته بالرياضيات والموسيقى من جهة نظرية روحية وبالألعاب الرياضية من جهة مادية وجسمانية.
لقد كانت الألعاب الأولمبية أحسن مثال عند أرسطو لكي يضمن الرياضة بعدا تربويا ولكي يمنح التربية دورا سياسيا ولقد انتبه إلى حيازة المشاكل السياسية في المجتمع على حلول رياضية ومخارج تربوية.
لقد تعامل أرسطو مع المدينة والقوانين الذي تنظمها بوصفها أشياء طبيعية وفسر تشكل المجتمعات والدول بالعوامل الطبيعية التي تساعد على النمو والتي تخضع لها كل الكائنات الطبيعية وبالتالي قد رأى في تقابل الذكر والأنثى فرصة للتزاوج والتوالد وتكوين الخلية الاجتماعية الأولى التي هي الأسرة والتي عندما يتكاثر عددها تتكون الاجتماعات الصغرى والوسطى والكبرى وتظهر العديد من القرى والمدن والدول.
لقد وجد أرسطو في انقسام الناس إلى عبيد وأسياد من الأمور الطبيعية وذلك لأن هناك من وجود ليعمل بالجهد العضلي وهناك من وجد ليحكم بصفة طبيعية بالجهد الذهني ويأمر بإتباع العقل واحترام القانون.
من هذا المنطلق الإنسان حيوان سياسي ويصيح كائنا يعيش في مدينة ويشكل مع غيره من الناس مجتمعا سياسية يتكون من شبكة من العلاقات تتسم بالتعاون والتبادل وتنظمها فضيلة العدالة وتقاسم الخير العام. غير أن مفهوم الطبيعة البشرية مازال غائبا عن الفكر السياسي زمن أرسطو ولذلك انحصر الاهتمام بالبعد الإنساني الذي لا يتم تحقيقه إلا عندما يقع تحويل الإنسان من عبد بالطبع إلى إنساني نصف اله أي مواطن.
على هذا ينبغي أن يتصف المواطن بصفات القاضي والحاكم وأن يكون في مقدوره الحكم على الأفعال والتمييز بين العمل المحمود والعمل المذموم وقادرا على إتباع مبادئ الفضائل وتفادي ارتكاب الرذائل.
بهذا المعنى تتكون المدن العادلة التي ينظما دستور وتشرف عليها حكومة متوازنة من مواطنين فاضلين ولكن المواطن يمكن أن يظل مواطنا حتى خارج المدينة وفي ظل غياب الحكومة وعدم التقيد بالقانون.
هكذا يحمل أرسطو تصورا تراتبيا للاجتماع البشري يقصي فيه الطفل والمريض والنساء والغريب من المواطنة ويحرم فيه المواطنين من ممارسة الحكم إذا لم يحوزوا على القيم الفاضلة ويبتعدوا عن المفاسد ويضع فيه الناس الأحرار في الدرجة العليا ويمنحهم قيادة المجتمع ولذلك لما يتمتعوا به من إرادة وتعقل.
إذا كانت مهمة الطبقة السفلى من العامة هي الشغل من خلال الجهد الجسماني من أجل المحافظة على البقاء فإن مهمة الطبقة العليا هي تحقيق وظيفة القيادة والحكم ونيل السعادة من خلال الحكمة والعمل بها.
لهذا كانت المهمة الأكثر أهمية عند السياسي هي وضع النواميس وعملية التشريع nomothetês ولذلك شبه أرسطو السياسي بالحرفي والصانع الذي يبدع في عمله ويتقن حرفته ويجعل الموضوع يبدو جميلا وكذلك السياسي يعمل على إصلاح ماهو ضروري في النظام واستعماله بصورة مشروعة وان تعذر عليه يحرص على تغييره ووضع مكانه نظاما سياسيا أكثر مواءمة وتناسب وانسجام مع الظروف والأوضاع وذلك بتطويع المبادئ الكلية والقواعد العامة مع تحولات التجربة وتغيرات التاريخ وتقلب أمزجة الناس.
إن المواطن حسب أرسطو هو من يحوز على حق المشاركة في الحياة العامة ويؤدي دورا بارزا وأساسيا وينخرط بصورة طوعية في الأنشطة التي تفيد الناس من جهة التربية والثقافة ومن جهة التمدن والتطور..