كانت إقامتي في مبنى الموقع الثاني لهيئة الإعلام والاتصالات لأكثر من اربعة سنوات وهي فترة غير قليلة تجمعت فيها الكثير من الكتب والحاجيات والأغراض الشخصية. باشرت بجمع كل ذلك تدريجيا إستعدادا لمغادرة المكان وكلي رغبة لأن أغادر وإلى الأبد كابوس الهيئة ومنظمتها السرية. كنت أنتظر في هذه الاثناء تسوية موقفي الإداري والمالي والقانوني حتى تنجز الهيئة الإجراءات الادارية والقانونية الخاصة بانهاء عملي وعودتي الى عملي السابق. إن الإجراءات المطلوبة من الهيئة روتينية وبسيطة وهي عبارة عن نسخة من الأمر الديواني الخاص بالاعفاء وشهادة براءة الذمة وشهادة آخر راتب وكتاب الإنفكاك وإرسال إضبارتي الشخصية إلى دائرتي اللاحقة. بعد يومين أو ثلاثة أيام على إعفائي من عملي جائني السيد مهدي وهو من حراسات الهيئة يطلب إخلاء الموقع وتسليم مقتنيات الهيئة وأكد على (البندقيتين) التي كنا قد أخذناها سابقا من الهيئة والتي كانت بذمة احد العاملين بمعيتي وليست بذمتي الشخصية. أبلغته بانني أريد المغادرة ولكني بانتظار تزويدي بالأوراق والكتب الرسمية الخاصة بتسوية موقفي مع الهيئة ونقلي إلى دائرتي السابقة. وذكرت له بان كل شيء جاهز للتسليم وكشاهد على ذلك ادخلته الى الغرفة الوحيدة الموجودة في الطابق الأرضي الذي أشغله وشاهد البندقيتين مطروحتين على الارض وجاهزتين للتسليم. أخذ البندقيتين ودلف الى غرفة مجاورة للحرس وشرع بتفكيكهما أمام عدد غير قليل من الحرس والسواق لغرض التأكد من سلامتهما وعدم وجود نقص في عدتهما، وعندما هم بالخروج سألناه عن ( وصل بالاستلام) فقال مجرد أن اذهب للموقع الاول وأعود لكم (بالوصل). لم نشك في ذلك ولم يخطر في بالنا بان في الموضوع نوع من الإحتيال والمكيدة. وعلى طريقة (خرج ولم يعُد) فقد ذهب مهدي ولم يرجع لا هو ولا (وصل استلام البندقيتين).
لقد سلمنا كل شيء وكنت انتظر وبشكل طبيعي جدا أن تنجز الهيئة اجراءاتها الادارية والقانونية وتُسلمنا اوراقنا الخاصة بذلك لنغادر(هذا المكان) ونرحل إلى عالم جديد ربما يكون أفضل وننسى الماضي والهيئة وتعاستها وآلامها ومعاناتها. في اليوم التالي انقطعت الكهرباء عن المبنى وكان الأمر عادي جدا أن تنقطع الكهرباء في العراق بسبب ازمة الطاقة الكهربائية. وكانت للهيئة في الشارع العام وأمام المجمع مولدات كهربائية ذات سعات كبيرة تشتغل أوتاماتيكيا حال انقطاع التيار الكهربائي الوطني . كان شهر آب وكان الجو حار جدا لاحظت إستمرار إنقطاع التيار الكهربائي وبتفكير خال من الشك والريبة توقعت أنه لم يتم تشغيل المولدات او قد تكون المولدات عاطلة عن العمل، لكن عندما اقتربت من الشباك الذي تركته مفتوحا من شدة الحر سمعت صوت المولدات ولا حظت عمود الدخان يصعد من عادم المولدة. خرجت لاسأل الحرس عن سبب انقطاع التيار الكهربائي عن هذا المبنى، تردد الحرس في كلامه وربما تلعثم وقد اصابه الخجل لكني شجعته على الكلام فقال ( ستاد تريد الصدوك دكتور صفاء بلغنه بقطع الكهرباء عنك من يطلع ستاد سالم مشكور ونرجع الكهرباء من يرجع ستاد سالم بس) يعني الكهرباء بس من يتواجد ستاد سالم مشكور ومن يطلع يقطعون عني الكهرباء. طبعا دكتور صفاء يقصد به صفاء ربيع رئيس مجلس الامناء في هيئة الاعلام والاتصالات ومديرها التنفيذي العام وحسب تعبيره ( رئيس الجهاز التنفيذي).
وعندما دخل الغروب أخذ المبنى يغط بظلام دامس وحر شديد فيما كانت مباني المجمع من حولي بما فيها مبنى حرس وحمايات الهيئة مضائة وتتمتع بنعمة التيار الكهربائي، كان يجب أن أنتظر عودة السيد سالم مشكور اذ بعودته فقط سيعود التيار الكهربائي. وفي حدود الساعة الحادية عشرة أو الحادية عشرة والنصف قبل منتصف الليل عاد التيار الكهربائي فعرفت أن السيد سالم مشكور قد دخل لتوه الى المجمع. نمت تلك الليلة بعد نهار طويل من الحر والتعب ولكن الطامة الكبرى كانت في الأيام والليالي اللاحقة. صباح اليوم التالي تشائمت كثيرا ذلك ان السيد سالم مشكور حزم حقائبه وذهب الى مدينة النجف دون ان اعرف متى يعود مما يعني قطعا تاما للتيار الكهربائي حتى عودته. انقطع التيار الكهربائي بمجرد خروج السيد مشكور من المجمع لكن ليس عندي من خيار سوى الإنتظار حتى الحصول على أوراقي الرسمية من الهيئة لأن خروجي من المجمع يعني استحالة الحصول على تلك الاوراق. لذلك كان يجب أن اصبر وان اتحمل كل هذا الحر والألم والمعانات. كان الحر شديدا جدا في الليل أو النهار ونفذ أو فسد ما عندي من مواد غذائية وكنت لا استطيع الخروج من المجمع لتوفير بعض المستلزمات الغذائية والحياتية لان مجرد خروجي يعني عدم استطاعتي من العودة مرة ثانية للمجمع حسب أوامر (الأخوين صفاء ربيع وعلي الخويلدي) والتي ابلغني بها الحراس على استحياء. إستمر هذا الوضع لخمسة أيام بلياليها بحرها وشدتها وقسوتها، إلى أن نفذ صبري مع نفاذ مؤونتي وقررت مغادرة المجمع حتى وان لم أحصل
على اي أوراق أو وثائق أو مستلزمات. جاء بعض الاصدقاء لمساعدتي في نقل كتبي واغراضي وحاجياتي الى خارج المجمع غير ان المفاجئة ان الحرس كان يمنعنا من الخروج الا بعد تفتيش حقائبي وأغراضي وحاجياتي وبأمر من ( الأخوين صفاء ربيع وعلي الخويلدي)، وعندما رفضت ذلك جائت مفرزة شرطة لمنعي من الخروج دون تفتيش. اتصلت تلفونيا بشخصين ولكن مع الأسف الشديد كان موقفهما باهتاً جدا وغير جدي ولا يليق بهما. أخذت حقائبي وأغراضي بعد التفتيش وأنا أسأل الله السلامة والعافية واستعيذه من السقوط فيما سقط به الآخرون وأسأله حُسن العاقبة.
لم اتوقف عن محاولة الحصول على اوراقي القانونية من الهيئة لذلك كنت ابعث احد الشباب الذين كانوا بمعيتي بالعمل لغرض متابعة انجاز براءة الذمة. عند وصوله للهيئة كان يُعاني من الكثير من الإساءات المقصودة والتي كما هو معروف عنها لدى الخاصة والعامة من داخل الهيئة أو خارجها بانها توجيهات من ادارة الهيئة. أصبح ذهاب هذا الشخص للهيئة غير مجدي إذ يمنعوه من دخول الهيئة فضلا عن عدم السماح له بان يلتقي أحدا من المعنيين بالهيئة أو أن يستقبله أحد. كان يصرف ساعات النهار وحتى إنتهاء الدوام الرسمي أمام باب الهيئة الخارجي دون أن يقول له أحد ماذا تريد. وباستثناء مرة واحدة قالوا له ان بذمتكم بندقيتي كلاشنكوف عليكم تسليمها باسرع مايمكن. قال لهم لقد سلمنا البندقيتين بيد مهدي من شعبة الحراسات وليس علينا اي شيء آخر. حاولنا الاتصال مع مهدي عدة مرات لتأكيد التسليم ولكن دون جدوى فلقد اختفى مهدي تماما وضاع من الوجود. بعد أيام وصلتنا (فيكة) جديدة كما يقولون فقد ابلغوا هذا الشخص الذي يراجع لانجاز شهادة براءة الذمة اننا سلمنا بندقيتين فقط من مجموع اربع بنادق كانت عندنا ولا يزال بذمتنا بندقيتين علينا تسليمها.
ياللهول تحولت البندقيتين إلى أربع بنادق ودخلنا اذا لعبة الكذب والتزوير والاحتيال والادعاء علينا ببندقيتين إضافيتين لا وجود لها على الإطلاق.
ولأنني اعرف كيف كان يجري سوق التهم والإفتراءات وأختلاق القصص والفبركات على الناس في الهيئة وتهديدهم بالمادة 4 إرهاب تارة أو تهديدهم بالقتل المباشر عن طريق الإتصالات التلفونية تارة أخرى إن لم يستقيلوا من الهيئة فقد إستطعت أن افهم اللعبة الوسخة هذه جيدا وأُدرك خطورتها ومايريدون.