في بداية سبعينيات القرن الماضي تجلّت ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي لم تكن مألوفة عليه في السابق، وألقت بظلالها على كل الإحداث الراهنة، السياسية والاجتماعية، وطفحت فوقها، وألهت الشعب عن همومه ومشاغله.
ظاهرة اسمها (عدنان القيسي)، ذلك المواطن العراقي، القادم من أمريكا، فأشاع لعبته الدخيلة والغريبة هذه بين العراقيين وهي: (المصارعة الحرة غير المقيّدة-(wrestling أو ما تعرف بــ (الرياضة الاستعراضية للترفيه، مدفوعة الثمن ومتفق على نتيجتها).
إذا كان أبو طُبر، وعصابته قد شغل بغداد وأثار الرعب بين أهلها لأشهر عديدة، فأن عدنان القيسي، في زمن متقارب، قد شغل أهل العراق وأمتع كل العراقيين لفترة أطول.
حاز المصارع عدنان القيسي، في حينها على اهتمام إعلامي غير مسبوق، وتناقلت أحداثه أول بأول الوكالات والإذاعات والتلفزة، وأخباره تداولتها كلِّ الألسن، وصارت صورهُ تظهر، وبشكل وارف أيضاً على صفحات الجرائد والمجلات، فانتشرت هذه اللعبة كالهشيم في النار، واجتاحت شعبيتها شعبية لعبة كرة القدم، اللعبة الأشهر في العراق، ودخل القيسي، بيت كل موطن من أوسع الأبواب وذاع صيته في كل مكان، كما طُبعت ملامحه على كثير من وسائل الدعاية من مناديل وصحون وأكواب شاي وغيرها. وانطلت هذه اللعبة المتطفّلة، والشخصية المثيرة على كل شرائح المجتمع، وآمَنَ به كل الناس على سجيتهم، بدون استثناء، وأُعجبَ بشخصيته ولعبته، الكبير والصغير، المثقف والعامل، السياسي والمدني، واستطاع أن يسلب عقولهم بحركاته وسكناته البهلوانية، والكل يترقّب نزالاته الدورية وينتظرها بشغف، على حلبات بغداد والمحافظات، التي تُمتلأ مدرّجاتها، وتكتظ الجماهير بها، قبل بدايتها، وصار التجّار يغلقون محلاتهم حين يبدأ موعد النزال، والكسبة يتوجهون إلى تلفزيونات المقاهي، والموظفين يختلقون الأعذار للخروج من دوائرهم.
بلغ عدد المصارعين الذين حضروا إلى بغداد لملاقاة القيسي، ومنافسته على حزام البطولة، ثمانية مصارعين أجانب من دول مختلفة.
كاتب هذه السطور أحد اللذين انبهرَّ بهذه الشخصية (العظيمة) وولع بها، منذ طفولته وصباه، وقبل يفاعته، وراقت له هذه اللعبة حد الهوس والجنون، بحيث ظّلت نقطة فارقة في حياته وعلامة سلبية انعكست على دراسته وسلوكه بل وحتى بمستقبله، وغيرت مجرى حياته وتفكيره، فيما يبدو، أو كما يظّن هو ذلك.
أصبح هذا الصبي سليطاً وسفهً مع زملاءه في المدرسة ذكوراً وإناثاً، وأصدقاءه وجيرانه في المحلة والشارع، وحتى مع شقيقه، وصار يُقلد سلوك هذا (المقدام) ويحاكي حركاته الغريبة مثل ضربة (العكسية) بكوع اليد …! ولوي الذراع والرجل …! وغيرها من المسكات الفنية الغريبة، غير آبه بنتائجها الخطرة، مع هؤلاء وذاته أيضاً،
استمرت هذه الشقاوة حتى ناهز البلوغ والمراهقة واشتدَّ عوده، وإلى أن اضمحلّت هذه المرحلة وتلاشت من الحياة العامة، فتغيّرت الصورة والهيئة له مع مرور الزمن، بل أصبحت إيجابية البتّة والحمد لله …!
كانت أمنيتي، وأنا في هذا العمر الطفولي، أن يَطوفَ بيّ الخيال والتقي يوماً ما بالمصارع عدنان القيسي، مثلي الأعلى وقتئذ، لأكون عن قرب من هذه (الأسطورة)، واستنشق منه عزم القوة الخارقة التي يمتلكها، والتمعّن بفخامة جسمه المريعة، والنموذج الجاذب لجيل عصره وخاصةً النساء منهم.
لكن كيف ستتحقق تلك الأمنية …؟
وكيف أُثبتْ ذلك الحُلم الوردي …؟
كنت تلميذاً في مدرسة المنصور الأهلية التأسيسية، تلك المدرسة العريقة بهياكلها، وكوادرها التعليمية، وصفوة تلامذتها، وإدارتها المتمثّلة بمديرتها العتيدة اللبنانية (صوفي مبارك)، التي تُهيّم على أجواء المدرسة وتمنحها الرصانة العلمية وأجواء الهدوء التام المطبق أثناء الدوام، وإذا ما سارت هذه المديرة في أروقة المدرسة فأن أصوات أقدامها تهز الأرض من تحت، أو إذا نادت وتحدثت مع أحد بعصبية فأن صوتها الجهوري يرجُّ جدران المدرسة رجاً، وحينما أسمعها من بعيد وأنا في الصف يبدأ قلبي بالخفقان، ولسان حالي وإحساسي يقول إنها متوجهة بجبروتها نحوي لتوبّخني وتزجرني أو ربما تخبطني، على ضوء شكوى من ولي أمر أحد التلاميذ، الذي لابد وأن ذاق مني الأمرّين، (بصطة وكَتّلة حسب الأصول). وإذا خفَّ ذلك الصوت وابتعد عن مسمعي عادَ قلبي لوضعه الطبيعي وبدأت أتنفس الصعداء تنفّساً طويلاً.
في أحد الأيام وأثناء الدرس سمعنا على غير العادة هرج ومرج خارج الصف، لم نعرف مصدره ولا أسبابه، وما أن دق جرس الفرصة الاعتيادية حتى خرجنا إلى الساحة، فوجدنا أن العجيج والضجيج قد زاد، ما دفعني الفضول لمعرفة مصدر هذا الصخب، فالتقيت في طريقي بمسؤول الساحات والرياضة المدعو (بثيو)، لأستفسر منه عن ذلك، وإذا به يقول: إن عدنان القيسي وصل مدرستنا قبل قليل زائراً، وهو الآن جالس في غرفة المديرة، ولا نعرف سبب تلك الزيارة!
أخذتني الغبطة والسرور لهذا الخبر المفاجئ وأحسست أن حلمي اقترب من واقعه، فتوجهت مُسرعاً صوب غرفة المديرة، وما أن وصلت قسم الإدارة حتى صُدمت حينما واجهت أكواماً من طلاب الثانوية المجاورة متجمهرين عند باب المديرة وبيدهم مُفكرة تواقيع شخصية (Autograph) ليحظوا بمشاهدته وينالوا توقيعه.
لم أستطع اختراق هذا الجدار العالي من البشر لأصل إلى جموحي، ولا معاينته من قرب ولا حتى ببهجة النظر في عينيه من بعيد، ولا هو أيضاً ترفّع عن نفسه قليلاً وخرج من الغرفة لتحية المعجبين من كتل الشباب. مرّت الثواني والدقائق مسرعة ودقَّ جرس انتهاء الفرصة وعدت إلى الصف خائباً مكسوراً، بعد أن ضاعت فرصة سهلة للقاء هذا (المغوار)! وغادر القيسي المدرسة بعد ذلك.
قبلَ لقاء عدنان القيسي، مع جون فريري، -ذلك المصارع الفرنسي العملاق والمخيف-على حلبة ملعب الشعب الدولي، قررت وزارة الشباب إقامة حفل استقبال وعشاء للضيفين الكبيرين في نادي المنصور، فانبسطت أساريري فرحاً واستبشرت خيراً لهذا الخبر السار، وأخذتني قدماي إلى النادي-الذي يبعد مسافة 250م عن داري-لأستفسر من الإدارة عن موعد الدعوة وساعة الوصل وطريقة الدخول مع المدعوين، لكن الجواب كان مخيباً لآمالي وصاعقاً على رأسي! إذ قال لي كبير عمال النادي المدعو (حميد، أبو مجيد): إن الدعوة خاصة جداً والمدعوين محدودين، إضافة إلى أن الإدارة تمنع بقاء أولاد الأعضاء في النادي بعد الساعة الثامنة مساءً …! مع العلم أن والدي كان في حينها سكرتيراً لمجلس إدارة النادي، وأمره نافذاً بقوة فيه، لكن التعليمات واحدة، ولا أتجرّأ أن أطلب من والدي مخالفة ذلك.
اعتراني حزن عميق وعدتّ أدراجي خائباً، لكنني قررت أن أشاركهم حفل الاستقبال وأتناول العشاء معهم من بعيد من خلال مشاهدتي إياهم من على شاشة التلفزيون وانا في بيتي، حتى تلتمع عيني على الأقل برؤية القيسي بحالة ثانية. وبهذا أخفقتُ مرة ثانية وفرصة أخرى أسهل في تلاقي هذا الرجل (الجسور)!
كانت لـ (بطل المصارعة العالمي) عدنان القيسي، علاقات متينة وقوية مع أعلى السلطات في الدولة وعلى رأسهم رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين، ونائب رئيس الجمهورية صالح مهدي عماش، ووزير الدفاع حماد شهاب، وغيرهم، وجميعهم من أشد المعجبين به والمساندين له، والمودّة فيما بينهم واضحة لدى الجميع.
وبسبب إنجازاته الباهرة وتأثيرها على الجماهير وعلى الشارع العراقي، فقد أغدق الرئيس البكر، عليه بقطعة أرض سكنية فسيحة في منطقة المنصور، باشر ببنائها وانجز إعمارها بوقت قصير، وظلّت الدار قائمة بنفس شكلها حتى وقت قريب ولكن لمالكين مختلفين
اعتدّتُ في عطلة كل سنة دراسية الاستجمام وقضاء وقت الصيف في مسبح نادي المنصور من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً وبشكل روتيني وشبه يومي. في أحد أيام ذلك الصيف اللاهب أحبَّ عدنان القيسي، زيارة والدي بمكتبه في نادي المنصور، ليرتشفا فنجاناً من القهوة ويتبادلا أطراف الحديث، وفي هذا اللقاء تلمّس القيسي، من والدي التوسط لدى أمين العاصمة لتزويد حديقة داره الجديدة، بالتراب النقي(زميج) من نهر دجلة، ولا نعرف كيف عرفَ القيسي، مدى علاقة والدي الطيبة بزميله وصديقه أمين العاصمة حينذاك إبراهيم محمد إسماعيل، حتى يبتغي منه ذلك؟
أُجري له اللازم وزوّدته الأمانة بما يريد فيما بعد. في تلك الأثناء استغل والدي وجود القيسي، في مكتبه، فطلب من النادل أن يستدعي أبنه (صفوة) من المسبح على وجه السرعة. لكن من سوء حظي أني في ذلك اليوم عدّت مبكراً للبيت، وقبل الوقت المقرر على غير العادة، فعاد النادل ليخبره أن صفوة، قد خرج للتو عائداً للبيت. والفترة الزمنية بين خروجي من النادي ووصولي للبيت، اتصل والدي هاتفياً مع البيت يطلبني لمعاودة الرجوع، لكن الشغّالة ردّت عليه بأن صفوة، لم يصل لحد الآن. وبعد وصولي بثواني أخبرتني الشغّالة بتلك المكالمة. تفاجأتُ حينها، حيث لم أعتد منه ذلك مسبقاً، فما كان مني إلا أن تغافلت عن معاودة مهاتفته وتناولت الغداء وأخلدت للنوم، والشك يداعب ذهني ويخبرني أنَّ شكوى قد وصلت لوالدي من أحد أعضاء النادي عن مشاجرة جديدة حدثت مع أحدهم في المسبح، ما جَعلته يلح في طلبي.
عصراً وبعد تيقّظي من النوم، وثبْتُ بهدوء إلى والدي وهو جالس في حديقة الدار وانا في حالة وشوشة وارتباك، مستفسراً منه عن الأمر وما إذا كان قد حدث شيء ما؟ فأخبرني بكل برود: (إن عدنان القيسي، كان في ضيافتي ظهراً في النادي وودت أن تلتقيه بلا عناء وتشاهده عن قرب وتحاوره بما تريد، لكن لم أحظِ بك، ولم تحظِ أنت به، ولم يحظِ هو بك …!).
تلقّيت الخبر كالصاعقة على رأسي، وندبت حضي السيء، وقدري المحتوم، واغرورقت عيناي من ضياع فرصة ذهبية ثالثة في لقاء ذلك (الهُمام)!
في بداية ربيع السنة التالية دعاني زميلي وصديقي (ذواليزن هشام منير) مع عدد من تلاميذ صفّنا لحضور حفلة عيد ميلاده المقامة في الجمعية البغدادية في منطقة الصليخ (منزل رئيس وزراء العراق الأسبق حكمت سليمان). لهذا البيت حديقة كبيرة وفتّانة، نبتهج بها نحن الأولاد ونعتبرها فرصة لنستمتع بلعب الكرة على مروجها الخضراء، قبل أن يسدل الليل وإطفاء شمعة الميلاد وتناول العشاء.
لدى وصولي إلى الجمعية لتلبية هذه الدعوة، وجدت بعض الأولاد المدعوين الذين سبقوني في الوصول، متجمعين عند الباب الرئيسية، لا كالمعتاد يلعبون الكرة في الحديقة، ويبدو أنهم آثروا انتظاري متلهّفين بدلاً من لعب الكرة. وما أن دخلت بهو الجمعية حتى انقضّوا عليَّ وعيونهم تلمع وتنطق بشيء ما، وصاحو بصوت واحد: إنَّ أنيسي وملهمي عدنان القيسي، هنا في الجمعية وفي الغرفة المجاورة …! في الوهلة الأول اعتبرت الموضوع مزحة صبيانية منهم، لكن بعد تأكدي من صحة ذلك لم أتمالك نفسي أو أضبط أعصابي من هول هذا الخبر، فتوجهت مسرعاً كالصاروخ إلى هذه الغرفة لأرى عدنان القيسي …! أخيراً رأيته بأم عيني لا بخيالي، صورة حيّة أمامي لا فوتوغرافية، بلحمه وشحمه، وبطوله وعرضه! سرّرت جداً بهذا اللقاء العفوي غير المقصود
بعد انتهاء هذا المشهد العاطفي والمشاهد التراجيدية السابقة، انتهت صفحة قاسية من مكابدتي الصبيانية، ومحنة شاقة من أيام عمري، واُزدلت الستارة الحمراء على الفصل الأخير من جَلَدي.
بعد فترة من الزمن انكشفت كلّ الحقيقة وبانت ألاعيب وأكذوبة هذه الضربات والحركات، فأدبر القيسي عائداً إلى أمريكا عن طريق الكويت، مبتدئاً حياة أخرى وحلبات جديدة، وانقضى زمن المسرحية وانتهت اللعبة وتلاشت هذه الظاهرة حتى اختفت من الساحة ومن حياة العراقيين وإلى الأبد.
وبالعودة إلى قلب الموضوع، وربما الأهم في هذه السطور، وحتى تكتمل صورة مسرّتي في هذا الحدث من مساء ذلك اليوم ومع إطفاء شموعه، فمن جميل الصدف أن تواجد عَرَضاَ في الجمعية البغدادية في تلك اللحظة، مصور فوتوغرافي طارئ، فما كان منه إلا أن تبرّع وأرّخ الوقع الفريد لي من خلال هذه اللقطة الفوتوغرافية التاريخية، وأوفى هذا المصور بأمانتها لي في حينها، وسلمني الصورة فيما بعد، وصرتُ استردّ ذاكرة تلك الأيام الحلوة منها والمرّة كلما تأمّلتها، مهما أكل الدهر عليها وشرب منها.
وهكذا انتهت حكايتي مع المصارع عدنان القيسي.