في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وضمن مسؤولية شبكة كهرباء المنطقة الشمالية، نقل ما معدله 500 ميجاواط إلى مناطق بغداد العاصمة بموجب الخط الرئيس (التأميم – شرق بغداد بجهد 400 كيلو فولت), وفي حالة عطل هذا الخط فأن نصف مناطق بغداد سوف تُحرم من التغذية الكهربائية .
في ليل شتائي لا نحسد على ساعاته الطويلة، بعد ان علمنا بخروج هذا الخط المهم عن الخدمة وفشل محاولة إعادته يدوياً وأوتوماتيكياً مما يعني أن هناك عطباً مستمراً …
كنت والعاملون معي من المناوبين والهندسيين في مركز السيطرة الشمالي الواقع في ناحية تازة في محافظة التأميم وكذلك العاملون في مديرية شبكات المنطقة الشمالية، التي كانت ادارتها الفنية مسؤوليتي، بانتظار ساعات الفجر لنعرف حقيقة الأمر عن طريق مفرزة عمل لكشف الخطوط والاستعانة بإحدى الطائرات السمتية، وبعد سويعات من ساعة الفجر وردنا خبر صاعق: (سقوط ستة أبراج ضغط فائق في المنطقة المجاورة لمركز قضاة طوز خرماتو بفعل أعمال تخريبية حيث فُجرت قواعد هذه الأبراج مما أدى الى سقوطها).
بعد تسلم الموقف من مقر المديرية العامة لتوليد ونقل الطاقة الكهربائية, اتصل بي المدير العام المهندس وليد سليم محمود الخياط، الذي كان مثالاً رفيعاً للقائد الميداني المتمكن يضفي على العاملين معه قيم العطاء والتضحية ومعانيهما من خلال ما يحمله من دماثة خلق وشجاعة.. كان سؤاله الأول: كم من الوقت يكفيك لإعادة بناء هذه الأبراج.. هل تحتاج الى اسناد محدد ؟ مؤكداً أن حالة المنظومة الكهربائية أصبحت حرجة جدا بسبب الحادث، وأبلغني بتوجه مجموعات عمل من كهرباء الوسط والجنوب لإسناد عملنا في الاعادة، وضعت أمام خيارين:
الاول: طلب استيراد قطع حديد لهذه الابراج وتوفير امكانيات فنية لا تمتلكها ملاكاتنا العاملة… وتأمين ساحة عمل تتجاوز الشهرين، بعد توفر المتطلبات لغرض إعادة تشييد هذه الأبراج
الثاني: التفكير ببديل وقتي لإعادة هذا الخط إلى العمل، وهنا بدأنا بتنفيذ الحل البديل المؤقت …
لدينا عديد من الرافعات (الكرينات) ماذا لو وزعنا هذه الرافعات وعلقنا العوازل الكهربائية على أذرعها لرفع الاسلاك عن الارض بعد حساب ما تتحمله كل رافعة من اوزان؟
وفعلاً، بدأنا بالعمل على ذلك بعد ان تم تأمين المنطقة بحمايات من شرطة الكهرباء ووحدات الجيش القريبة من موقع العمل واخرى من الهندسة العسكرية لكشف الالغام او المتفجرات وشرعنا بالخطة الغريبة واتممنا العمل في اليوم نفسه، وعندما حل المساء اتصلت بالمدير العام، الذي كان ينتظر بفارغ الصبر ما تحقق من عمل اليوم الاول، بعد سقوط هذه الابراج, اعلمته بإمكانية اعادة الخط للعمل الان… فوجئ بكلامي وسألني: ماذا عملت؟ أنت تعلم أن الاعادة وتشغيل الخط، بنحو خاطئ، له خطورة على عمل المنظومة الكهربائية الوطنية ونحن الان في وقت حمل الذروة.. زادني هذا الكلام اصراراً وتحديا فأجبته: (أستاذي اعط أوامرك بالإعادة وانا اتحمل المسؤولية تجاه ذلك), خيمت على العاملين في مركز السيطرة الشمالي لحظات ترقب، واذا بمحاولة الاعادة المؤقتة تتم بنجاح واذا بموجات التصفيق تسيطر على قاعة التشغيل في مركز السيطرة, فعلا كانت لحظات احتفالية.. وقد حظي هذا الانجاز بتكريم خاص من وزارة الصناعة والمعادن، وبدأت أعمال بناء الأبراج الساقطة بسياقاتها الفنية المعتادة ووصلت إلى مرحلة الانجاز وسحب هذه الرافعات المسكينة من العراء حيث علقت الأسلاك على الابراج الدائمة ليعود الخط إلى حالته السليمة .