(1)
حال وصولي، في مطلع عام 1982، إلى القاعدة الأنصارية في قرية ناوزنك التي تأسست في العام 1979. وتقع على الحدود العراقية الإيرانية، والتابعة لقضاء رانية بمحافظة السليمانية. لم أنتظر طويلاً في غرفة “الضيافة” بنوكان، كما كان معتاداً، حيث يستريح الملتحق الجديد لبضعة أيام، ثمّ ينتقل بعدها إلى أحد المقرات الثلاثة الموجودة في المنطقة. إذ بعد حوالي الساعة من وصولي تم تبليغي بوجوب الالتحاق بمقر قيادة الحزب الشيوعي العراقي، حيث المكتب العسكري والإعلام.
مشيتُ، مع أحد الرفاق المسلحين، وصعدتُ مرتفعاً حاداً إلى أن وصلتُ إلى غرفة الرفيق أبو سرباز الطينية، وجدته واقفاً ينتظرني، فقد كان القيادي احمد باني خيلاني (أبو سرباز) عضو اللجنة المركزية للحزب يعرفني تمام المعرفة منذ السبعينيّات، حينما كنتُ، قبل أن أسافر إلى موسكو للدراسة عام 1975، أعمل في المكتب الصحفي لقيادة الإقليم، ومراسلاً لجريدة “طريق الشعب” في أربيل.
كان متوسط القامة، أشيب الرأس، مبتسماً رغم الصرامة البادية في سيمائه، وتنم هيأته عن العزم وفي وجهه تجاعيد ظاهرة، هادئاً خفيض الصوت، ويتدلى مسدسه حول وسطه. رحب بي وسألني عن صعوبات الطريق الطويل الذي قطعته مع رفاق آخرين مشياً على الأقدام من مدينة القامشلي السورية، عبوراً الى الأراضي التركية، ثم إلى الأراضي العراقية. ثم أبلغني أن قيادة الحزب والمكتب العسكري ترى أن مكاني الأنسب هو في الإعلام، وأن الرفيق أبو ليلى (الدكتور نزار ناجي يوسف)* هو الذي يشرف على عمل الإعلام.
وبينما كان يومئ لي بالجلوس، دلف الى الغرفة الرفيق (أبو ليلى) فتقدم نحوي وصافحني مرحباً. كان على مشارف الأربعين من عمره، متوسط القامة، ودوداً ولطيف الشكل والمعشر وصوته خافت، وبدا سعيداً باللقاء. أخذني إلى غرفة طينية بدون نوافذ أو تجاويف، مخصصة للرفاق العاملين في الإعلام المركزي، وقام بتعريفي إلى الرفاق: أبو آزاد (الشاعر الكبير احمد دلزار) الذي كنت أعرفه، فقد عملنا سوياً في المكتب الصحفي للإقليم أواسط السبعينات، أبو بشير (الدكتور كاظم الموسوي)، وشاخوان (هاشم كوجاني)، وأبو داستان (حمه رشيد هه ورامي) ودارا (تحسين عثمان).
كانت مهمتنا، في الإعلام المركزي، تحرير البلاغات العسكرية، وإصدار جريدة “نهج الأنصار” باللغتين العربية والكردية، إضافة إلى “الخدمة الرفاقية”،أو “الخفارات”؛ وهي عبارة عن تهيئة وجبات الطعام حسب الجداول والأيام المحددة لكل رفيق أو رفيقة، والحراسات الليلية، والتدريب على الأسلحة الخفيفة، وتهيئة الفوانيس النفطية والوقود، والاحتطاب، وتجميع الصخر، وتقطيع أشجار السبندار لاستعمالها في التسقيف والبناء في موسم الصيف، وتنظيف الثلج من سطح الغرفة، ودكّها بالمحدلة في الشتاء.
وكنا أحياناً، خاصة عندما نقبض المخصصات التي تدفع لنا شهرياً والبالغة 5 دنانير، نقصد الفروشكا (سوق شعبية) القريبة من مقراتنا، بسقوفها الصفيحية، والواقعة في الطرف الإيراني على الحدود، وهي مركز للتجارة الحرة، والتهريب، وتبديل العملات، وتجد فيها كل ما تحتاجه، من الخيط والإبرة، إلى الأسلحة النارية الخفيفة والمتوسطة، وفي السوق مطاعم صغيرة.
في إحدى ليالي الربيع، بينما كانت المصابيح الزيتية مطفأة، ولم يكن قد بقي في الغرفة سوى بصيص يسير لشموع تتوهج، سمعنا نشيج تدفق الماء من باطن الأرض وسط الغرفة، وكأنه خرير نبع اندفع من الأرض، وسال الماء فجأة، شاقاً طريقه ليشكل، على امتداد الغرفة، ساقية انساب ماؤها من تحت الحائط الطيني.
يُعتقد أنّ الغرفة كانت قد شيدت في المكان الخطأ، لهذا شق الماء طريقه وتدفق من المياه الجوفية، أو كان ذلك على إثر ذوبان الثلج والجليد تحت الأرض على شكل ينبوع، ليتحول إلى ساقية توسطت الغرفة وشقت أرضها الترابية الطرية الرخوة إلى نصفين، ثم توسعت مياه الساقية وامتدت إلى غرفة مشجب الأسلحة المحاذي لغرفتنا لتصيبها بالأضرار.
بعد فترة بدأت، على جانبي الساقية، تنمو فطريات ونباتات وأحراش وطحالب. وقد كانت مناسبةً للرفيق دلزار، وهو الشاعر الرقيق والخبير الموسوعي بالنباتات، ويعرف جميع أنواع الأزهار والأعشاب البرية، وكل ما ينبت في الأرض، وعلى سفوح الجبل، ان تتفتح قريحته ويكشف عن موهبته الفذة، فهو يعرف خصائص الأعشاب وطبائع النباتات، ويتحدث لنا عن الأزهار والأعشاب البرية، ويسهب في تسمياتها: شقائق النعمان، العضيد، الجرجير البري، شوك الجمل، الصفارا، الخزامى، الضرم، البسباس، الحرشاء، الإقحوان، الرمرام، زهرة الغفش، البابونج، الخروع، الخبيزة، اللسنية، البقلة، العكوب، السلقن اليواز، الزعرور، الطحلب.. وكأننا على ضفتي نهر يتوسط سهل مترامي الأطراف، ولسنا في غرفة طينية تفوح منها رائحة الرطوبة.
وأصبح وجود الساقية في الغرفة الطينية يشكل أحياناً أجواءَ غير مريحة. فإضافة إلى الجو الرطب الذي احدثته، كانت أحياناً تحدث بعض المشادات الكلامية بين الرفاق، جراء انتقادات توجه لبعض المتكاسلين الذين كانوا يغسلون وجوههم وينظفون أسنانهم على حافّة الساقية في الغرفة. بيد أنّ الرفيق (أبو ليلى) السياسي المحنك، برجاجة عقله وطيبة قلبه ووداعة اخلاقه وتعامله الودي وتفانيه وتواضعه الجم، قد فرض احترامه على الجميع، يقوم بتهدئة الأجواء وترطيبها بأسلوبه الهادئ والذكي، ويعيد الأمور إلى مجاريها.
(2)
في خريف عام 1982 بدأت قوات الحرس الثوري الإيراني (الباسدار) تنتشر على الشريط المحاذي لمنطقة ناوزنك، وتشكل خطراً على تواجد مقراتنا القريبة منها، ما حدا بقيادة الحزب ان تتخذ قراراً بالانتقال إلى منطقة بشتئاشان (خلف الطواحين) الراقدة على سفح جبل قنديل، تحتضنها جبال سامقة، وتطل عليها قممها الثلجية، وهي احدى القرى الصغيرة المتناثرة في المنطقة وتتبع ادارياً لمحافظة اربيل، وتطل على سهل فسيج أخضر تهب عليه رياحٌ جفولة واحياناً عاتية، وعندما تشرق الشمس تزيح عنها الغيوم المتراكمة.
كانت تسحرنا الطبيعة الخلابة، وتختفي مقراتنا تحت ضباب الوادي حيث غابة كثيفة اشجارها فارعة يمر فيها نهر وجداول صغيرة. ففي بشتئاشان تظلم الأرض، ويخيم الليل بسكونه العذب ليملأ الوادي، ويغطي الجبال المطلة عليه، وتبقى السماء رمادية تتلألأ بالنجوم. وعندما تكفهر السماء تتكاثف السحب وتشتد الرياح ويزداد الضباب كثافة ويلعلع هدير العاصفة.
في بشتئاشان كان للإعلام قسمان، قسم عربي وآخر كردي، وأصبحتُ لفترة معينة، نتيجة معرفتي العربية والكردية، منسقاً بينهما. في القسم العربي كان: أبو نيسان (مفيد الجزائري)، وأبو نصير (زهير الجزائري)، وابو خالد (د. فالح عبد الجبار)، وأبو أمجد (حميد جمعة)، وأبو واثق (لطيف حسن)، وجاسم (جاسم طلال)، وأبو محمد (محمد حسن الشرقي)، وسمر (أيسر خليل شوفي). وفي القسم الكردي: شاخوان (هاشم كوجاني)، وكاروان (كاروان عقراوي)، وشمال (شمال حويزي)، ورنجاو (محمد رنجاو)، وأستيرة (برشنك سعيد).
بالإضافة إلى “إذاعة صوت الشعب العراقي” اليومية، كانت هنالك جريدة “طريق الشعب”، والنشرات الداخلية، والتدريبات الإعلامية، والعمل في المطبعة، وطبع الكراريس والكتب. وتفادياً للمخاطر الأمنية، بقي الأستديو الإذاعي في بشتئاشان، بينما تم تثبيت موقع البث بمنطقة آمنة في بولي، وهي قرية صغيرة تبعد عن بشتئاشان حوالي 45 دقيقة مشيأ على الأقدام، وتقع على سفح الجزء الشرقي من سلسلة جبال قنديل الشاهقة، ويتم نقل الكاسيت يومياً من الأستديو في بشتئاشان إلى الموقع في بولي ليتم بثه من هناك.
كنا في غرفتنا الطينبة، نطفي المصابيح الزيتية ونرقد إلى النوم في وقت محدد من الليل، نحوّل حقائب الظهر الصغيرة أو قماصلنا إلى وسائد، ونستلقي على بطانية سوداء اللون. ننهض مع بزوغ الفجر، أحياناً ننتشر تحت ظلال الأشجار، عندما تتواتر الأنباء عن احتمالية أن تتعرض مواقعنا لقصف طيران النظام، أو خوفاً من أن يكون هنالك تقدم مرتقب للجيش العراقي وهجوم على المنطقة. ولكن في الغالب الأعم ننهض للفطور، حيث الصباحات الخدرة، وصوت غلاية الشاي وأغاني فيروز الصباحيةُ.
كان فطورنا عبارة عن شوربة عدس، هذا في أحسن الأحوال، يصبها الرفيق الخفر في وعاء نصف كروي (طاسة) من الألمنيوم (الفافون)، ويتقاسمها ثلاثة رفاق، كل واحد منهم ماسك ملعقته بيد ورغيف الخبز باليد الأخرى، وحمائل بندقيته مثبتة على كتفه. نبحث عن شبر من ارض مستوية، وغالباً لا نجدها، فنفترش الأرض الصلبة ونجلس القرفصاء حول طاسة حساء مدورّة او صحن مسطح على ارض يغطيها حزيز الحجارة. ويتناول طعامه وقوفاً، كل من يعاني من الآم في الظهر والمفاصل والفقرات، وما اكثرهم في تلك الأيام.
وفي بعض المساءات توزع علينا 5 جوزات عداً لنقوم بتكسيرها وتهيئتها لوجبة فطور اليوم التالي، لكن الجوع لا يدع لنا ذلك، فنقضي على حبات الجوز في الحال، ويبقى الفطور مجرد قدح من الشاي في كوب معدني ورغيفٍ من الخبز. أما في المناسبات فنحظى بقطعة من اللحم، الذي عادة ما نتذوقه مرة في الشهر.
نؤدي واجباتنا النهارية على أكمل وجه. وقبل أن يخبو الضوء وتغرب الشمس وينتشر الشفق ويحل الظلام، تبدأ الحراسات الليلية، وتستمر إلى انبلاج الفجر. يحمل الحارس بندقيته وكلمة السر، التي تنتقل من حارس الى آخر. يقبع الحارس في مكان أجوف يلفه صوت الليل، وعيونه مفتوحة وحواسه مرهفة ويسمع أنفاسه السريعة، وما ان تتراءى له اشباحاً أو يسمع صوتاً من بين الأشجار، صاح بالكردية: تو كي (من أنت)؟.
يهبط الحارس في ظلمة قاتمة لا يتخللها سوى خيوط من ضوء القمر في استداراته، ويخيّم عليه دجى الليل وصمت مرعب ويستسلم للهدوء، فممنوع عليه إصدار صوت، وممنوع عليه التدخين واشعال ضوء، تخيفه أصوات البروق وحفيف الأشجار والعواصف الرعدية التي تهدر ليلاً في الوادي الفسيح الذي يغطيه في الصباحات الباكرة ضباب كثيف ينقشع بعد حين.
في ذلك اليوم، عندما تأخر بث الإذاعة، كانت مناوبة (خفارة) رنجاو ، وعلى مسؤوليته تقع مهمة نقل الكاسيت الإذاعي من الأستديو في بشتئاشان إلى موقع البث في بولي، حيث يعمل فيه عدد من الرفاق المهندسين (أبو سهيل وأبو دجلة وصارم وأبو شهاب وابو الوليد وعمار). وكانت إذاعة الحزب “صوت الشعب العراقي” تبث برامجها يومياً في الساعة السابعة مساءً، ويعاد البرنامج في السابعة صباحاً بتوقيت بغداد.
استلم الرفيق رنجاو الكاسيت في موعده المحدد، وخطا بتؤدة، وهو يجر البغل من الحبل المشدود في عنقه، ويجيل عينيه إلى حيث رفاقه الواقفين في توديعه، وهم ينتظرون مغادرته، وينتظرون كذلك ساعة انطلاق بث الإذاعة ليطلعوا على الأخبار ومستجدات الأوضاع السياسية، وموقف الحزب من الأحداث.
انتظرنا، لكننا في تمام الساعة السابعة لم نسمع صوت المذيع جاسم وهو يستهل برامج الإذاعة بصوته الرخيم، ويعلن: هنا (إذاعة صوت الشعب العراقي). توقعنا أنّ شيئاً غير طبيعيًّ قد حدث: إما خلل في أجهزة البث، أو أنّ رنجاو قد تعرض لمكروه، فقد كان وحيداً في الطريق، إذ لم يكن بث الإذاعة منذ انطلاقها قد تأخر عن وقته المحدد. وكنا نعرف أن هذا التأخير سوف يقلق رفاق الداخل، والمستمعين في بغداد والبصرة، وفي بعض المدن الأخرى التي كان يصلها بث الإذاعة وهم ينتظرونها بفارغ الصبر.
كان بث الإذاعة سبق وأن تعرض إلى التشويش والتشفير من قبل أجهزة النظام الاستخباراتية، من خلال بث أصوات عالية، أو صفارة قوية، أو برامج غير مرغوب في الاستماع إليها على نفس ذبذبات وموجات الإذاعة، ما حدا بالطاقم الهندسي إلى تغيير موعد البث الذي كان في الرابعة عصراً، بيد أنّ البث لم يتوقف قط.
في الساعة الثامنة، بينما نحن نضرب اخماساً في اسداس، جاءنا صوت جاسم هادراً، فتنفسنا الصعداء، لكن لم نكن نعرف مرّد تأخر البث لمدة ساعة كاملة، خاصة لم تكن هنالك أجهزة اتصال بين الموقعين، بشتئاشان وبولي.
عندما وصل الشاعر العبثي رنجاو بقامته القصيرة إلى موقعنا وهو يجر حبل البغل بيد وما فتيء يحدق في وجهه، ويحمل بندقيته باليد الأخرى، كان ممتعضاً وممتقعاً وحانقاً على البغل، الذي كان قد أغاضه الصعود الحاد إلى قمة تلة مؤدية الى موقع البث في بولي، فتعنت البغل ورفض الانصياع لأوامر رنجاو الذي تعصب وحمق وثارت ثائرته وحاول أن يلقّن البغل ” درساً في الأدب” بطريقته الخاصة، فربطه إلى شجرة قريبة وضربه ضرباً مبرحاً، وسار مشياً على الأقدام حاملاً الكاسيت، ثم هبط التلة إلى جهتها الثانية، حيث بولي وموقع بث الأذاعة.
لم يكن رنجاو يعرف أنّ البغل عنيد في طبيعته، قد يدفع به إلى أن يقتل صاحبه؛ ولهذا يُقال: فلان عنيدٌ كالبغل، ولم يكن رنجاو قد قرأ ما قاله الشاعر:
“فأوصيكم بالبغل شراً فإنه .. من العير في سوء الطباع قريب”.
ولم يكن يعرف، أنّ الجاحظ كان قد خص البغل بكتاب مؤلّفٍ من مقدمة و12 باباً، عنوانه “البغل”.
*الدكتور نزار ناجي يوسف (أبو ليلى) ولد في مدينة العمارة عام 1944 وأستشهد في الأول من ايلول (سبتمبر) عام 1983في معركة بشتئاشان الثانية.