19 ديسمبر، 2024 3:15 ص

حكاية مدينة جسر الموت

حكاية مدينة جسر الموت

أول الكلام:
“أشار عليّ صديقي التايلندي “يوت” ألا أبقى وحدي في صومعتي خلال حلول السنة الجديدة 2018،واقترح أن أذهب مع عائلته الى مدينته ومسقط رأسه ” كنجانابوري” المحاددة لمينمار حيث سأتعرف على أخيه وزوجته وأخته وزوجها، ومن ثم نبيت في أحضان الطبيعة في خيم كافية، فوافقت بشروط وضعتها لتخفف من حملي كي لا أكون ضيفاً ثقيلاً فوافق الرجل.. سأبيت الليلة الأولى من السنة الجديدة في فندق في المدينة قريباً من بيتهم، وكان الفندق جديداً أنيقاً وأحسبني أول نزيل يحل به! ثم ننطلق الى الطبيعة الخلاّبة بمساقط مياهها وكهوفها وباركاتها .. حيث سنبيت في إحداها لليلتين! وهكذا تحركنا يوت (*)وزوجته نن وولدهم ناي إضافة لشخصي بسيارته الواسعة يوم31 أي في ليلة رأس السنة وفق خطة اتفقنا عليها بالساعات والدقائق !! أما المدينة فقد سبق أن زرتها مرتين وأما الطبيعة التايلندية فقد ألفتها لكنني لم أبِت في أحضانها!”

***
ومدينة كنجانابوري التي تبعد عن بانغكوك بمائة وثلاثين كم غرباً، لم تكن معروفة في العالم ولا تختلف عن أي مدينة تايلندية أخرى سوى أنها مدينة الجمال -ويزعم التايلنديون أن نساءها ونساء جيان ماي أجمل نساء تايلندا- والطبيعة لديهم في أجمل صورها، تجود عليهم بأنهر وشلالات وكهوف وأشجار عملاقة متنوعة وزهور خلابة وخُضَر وفواكه وسوائل؛ وأطباق الطعام الخاص بالمدينة مما يشتهون مثل الأرز الأزرق واليومتم واليومسم وطبق المسمن والقورمة (الأخيران اصلهما لمسلمي بورما).. وأنهرها تفيض أسماكاً وفيها الأسواق العائمة، وحيواناتها هي النمور والدببة والفيلة والغزلان وفيها مراصد لهواة الطيور..!!
وهي مدينة المعابد وأشهرها طراً معبد النمور حيث تعيش النمور مع الكهنة وتتجول معهم في القرية المجاورة أنى يذهبون! وزد على ذلك هي مدينة الأحجار الكريمة وفيها أسواق خاصات بها..فما الذي جعل المدينة الوادعة المسالمة تُشتَهَر على حين غِرّة حتى غدت قِبلة للسائحين من دول الغرب والشرق؟!
في عام 1952 صدر باللغة الفرنسية رواية(**): الجسر على النهر كواي (اللفظ التايلندي خواي) لمؤلفه بيير بوول والتي سرعان ما ترجمت الى عدة لغات أولها الانكليزية..وقد أثارت الرواية ضجة لا لحبكتها الفنية وأسلوبها المميز فحسب وإنما لأنها واقعية تقترب من الحدث وصدقه بشكل أمين، وأتحاشى أن أقول أنها وثائقية لكي لاتتم إزاحة الجوانب الفنية والابداعية لها العمل المدهش والذي ألهم الكثيرين من المبدعين من بعده..
وبعد عدة سنوات وتحديدا عام 1957 ظهر فجأة فلم يحمل عنوان ” الجسر على النهر” وهو الرواية نفسها وقد حولت الى فلم من صناعة أمريكية – بريطانية ومن إخراج دافيد لين..وقد أثار الفلم ضجة وسخطاً على الحروب ومشعليها وازداد رصيد أنصار السلام ودعاته إبان الحرب الباردة، وساهم في انتصار قضايا الشعوب في الجزائر وفيتنام ..وقد عُدّ هذا الفلم الحادي عشر في تسلسله لأحسن أفلام القرن العشرين.ومن الملفت أن مخرج الفلم وكاتب السيناريو كانا ضمن القائمة السوداء في هوليود التي طالتها الحملة المكارثية السيئة الصيت التي استهدفت كثيراًمن الفنانين والكتاب تحت تهمة الشيوعية! وصوّر الفلم وإنجز في سريلانكا سريّاً. وقد حاز الفلم على ثلاثين جائزة من مؤسسات أكاديمية، كما ظل هذا الفلم من أكثر الأفلام مشاهدة ولم تقل أهميته حتى الساعة!
وفي سنة 2013 ظهر كتاب هام تناول الحدث نفسه هو (***): الطريق الضيق نحو الشمال العميق، للكاتب ريجارد فلانغان، الذي حاز على جائزة البوكر، ووالد المؤلف كان أحد الأسرى، ما أكسب الكتاب مصداقية كبيرة وجدد أصداء الحدث في الذهن الجمعي للنخب المثقفة! وأكسب المدينة كنجانا بوري ونهرها خواي وجسره شهرة متجددة! ولا شك أن القارىء الكريم يستعجلني على الحدث..
كانت القوات اليابانية في عامي 1942-43 في مدينة كنجانابوري الصغيرة يومئذ تبغي مد سكك حديد على جسر المدينة ليوصلها الى بورما، وسيكون للسكك الحديد هذه أهمية كبرى في نقل الجنود والمعدات، فاستخدمت الجنود الأسرى من الحلفاء والمجندين الآسيوين في العمل على الجسر وكان العدد بالمئات وفق ما شاهدت في المقبرة وسط المدينة القريب من الجسر ووفق شواهد القبور، فيهم البريطانيون والهنود وفيهم نسب عالية من المسلمين بدلالة الأسماء، وحيث كان الأسرى يعملون على الجسر وإذا بطائرات الحلفاء تقنبل الجسر ومن عليه فسقط عدد هائل من الأسرى ومن المجندين بالقوة، مازال يرويها مسنو الحدث التايلنديون.. وتعتبر من أكبر حوادث الحروب المأساوية! والمقبرة تشبه تماما مقبرة الانكليز في الوزيرية!
وبجوار الجسر الذي مازالت سككه تعمل -حيث يسمح للناس العبور بالقطار وقد عبرته في الزيارة الاولى- حيث توجد مطاعم ومقاصف على جهتي الجسر مزدحمة بالزوار، تُطفأ الأضواء تماماً على الساعة الثامنة وتبدأ لدقائق أصوات القصف استذكاراً للحدث ثم يُستأنف الغناء والرقص نشداناً للحب والسلام!
في المدينة مُتحف هام خاص بالحرب ويحتوي على وثائق مصورة وأفلام ولقاءات مع من شهدوا الحدث…
كانت ليلة السنة الجديدة مزدحمة بالسيارات فالمدينة منتجع لأهل بانغكوك تحديداً في العطلناهيك عن السوّاح، وقد ازدحم الناس على رقبة الجسر ومنع الجمهور من عبوره لأسباب أمنية ، بجانب الجسر هناك حفل غنائي مفتوح للجمهور ينقله التلفزيون الوطني ويحيه كبار الفنانين والفنانات والناس في مرح ورقص، وقد ازدحموا وافترشوا البساط الأخضر، دعي الناس لألعاب الحظ والرماية بالمجان ووزعت هدايا.. وفي شارع الجسر ظل السوق الليلي نشطا طيلة الليل وكذلك سوق المجوهرات واشتريت ما قدرت على الشراء، وغادرت الى الفندق على الساعة العاشرة؛ وظل يطن في أذني بيت زهير:
وما الحربُ إلّا ما عَلِمتمْ وذقتمُ – وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
5ك2/يناير 2018
(*) Yut, Nen and Nay.
(**) le pont de la rivière kwai, 1952 byPierre Boulle.
(***) Narrow Road to the Deep North, 2013 by Richard Flangan.

أحدث المقالات

أحدث المقالات