23 ديسمبر، 2024 1:18 ص

حكاية عمتنا ام عباس

حكاية عمتنا ام عباس

ليس إستثناء، بل تماهيا مع السائد من انهيارات الشخصيات العامة، لاسيما السياسية والدينية منها، إحتل المواطن صدر مسرح الاحداث متنكبا جراحه وآلامه. لم يعد ثمة إيمان بقضية مشتركة. قوانين الغابة التي تحكم العراق الجديد، لم تدع خيارات سوى أن يلوذ الفرد بعشيرته، أو بميليشا نافذة، أو بما تبقى له من اظفار طحنتها الازمات المتوالدة من بعضها البعض.

حين إعتلت عمتنا أم عباس منصة المسرح ممثلة عن السيد عون الخشلوك في تكريم الزميلة قناة البغدادية لابطال العراق الصاعدين الى ريودي جانيرو، تخال ان نخلة عراقية سامقة حنت على أبنائها، كما هو دأب عمتنا النخلة كما أسماها النبي الامين. بالمقابل، كان الشباب المكرمون جميعا، هم أبناء عمتنا أم عباس التي غرست جذور أمومتها في تراب الفراتين بحثا عن إبنها الذي غيبه غربان الفساد والفجيعة وبيع العراق بالتجزئة.

ومثلما كرمت الزميلة البغدادية عمتنا أم عباس، أعتقد ان الاوان قد آن لان يغرف مبدعونا، شعراء وقصاصون وكتاب دراما في المسرح والتلفزيون، من نهر الاحزان، لإرواء التاريخ الذي أصبح ملتبسا بفعل تداخل الدين بالسياسة، وهيمنة الهويات الفرعية، إثنية ومذهبية ومناطقية، على الهوية الوطنية العراقية.

في مسرحية الأم شجاعة، يستلهم الشاعر والمسرحي الالماني الكبير برتولد بريشت، أحداث حرب الثلاثين عاما بين السويد وبولندا والتي اشتركت فيها المانيا في مطلع القرن السابع عشر. الأم شجاعة كسبت قوتها من تلك الحرب، حيث كانت ترحل بعربتها وأبنائها (ولدان وبنت خرساء) خلف الجنود فتشتري منهم ما يغنموه وتبيعهم الطعام، وعندما يقتل الحصان يقوم الأبناء بجر العربة، وعندما يخطف ابنها، تصبح للحرب نكهة آخرى، نكهة أكثر مرارة من مجرد كسب العيش، لقد أدان بريشت الحروب وأهوالها عبر حكاية الام شجاعة وعربيتها وولديها وابنتها الخرساء.

تندرج حالة عمتنا ام عباس في سياق الفضيحة التي التهمت أرواحنا قبل أن يلتهم النهر والبحر أجساد أبنائنا. فضيحة العملية السياسية المشوهة التي تزاح عن وجهها القبيح مساحيق المظلومية التي كانت وقودا للدبابات الامريكية التي التهمت بدورها الارض والزرع والضرع منذ نيسان 2003. والفضيحة التي طالت العالم “الحر” وهو يتوظأ بدمائنا تمهيدا لرسم خرائط ما بعد سايكس بيكو.

فقد قدم هذا العالم “الحر” مئات ملايين الدولارات دعما للمحكمة الدولية الخاصة بالكشف عن قتلة رفيق الحريري، لكنه لم يقدم سنتا واحدا، بل لم ينشىء مركز جندرمة بسيط للكشف عن قتلة شهداء سبايكر. ومع ان مخابرات الدول الكبرى والصغرى انشغلت بشاهدين كاذبين هما محمد زهير الصديق وهسام هسام، طالما كانت شهادتهما المزورة تطال رأس النظام في سوريا، إلا انها لم تتوقف عند مئات الشهادات الموثقة التي تدين علنا المتورطين بجريمة سبايكر.

إذا، ليس أمام عمتنا أم عباس سوى النخلة ملاذا، وليس سوى ما تبقى من خيرين في هذا العراق سندا في رحلة شروع التحلي بالشجاعة لتجسيد أحلامها في إستعادة إبنها، معافى أو جثمانا، واقعا أو رمزا. فها هنا تبدأ عند عمتنا أم عباس إستراحة اليقين، لتدفن في سراديب النظام المتعفن حطام يأسها وقنوطها وأنقاض سفينة البحث عن المجهول المعلوم

ما لم يكتشفه قراصنة السلطة وسماسرتها، إن لعمتنا ام عباس، كما لعمتنا النخلة، فائض قوة أكثر تأثيرا من فائض القيمة عند كارل ماركس، وأكثر فاعلية من فائض المعرفة عند ميشيل فوكو.

في خضم الحضور البهي لعبائتها ومسك تراب نعليها، تفجر عمتنا أم عباس الأسئلة في عراق يقف على رأسه.

رئيس تحرير صحيفة بغداد الاخبارية