23 ديسمبر، 2024 3:15 ص

حكاية عراقية … ( علي الوردي أصابَ الحقيقة )

حكاية عراقية … ( علي الوردي أصابَ الحقيقة )

كنت قد قرأت أغلب كتب علي الوردي والتي كان أخي يقتنيها أيام الدراسة الاعدادية وكان ذلك لقتل وقت الفراغ الكبير لدي لانني كنت شاطراً واحصل دائماً على الاعفاء العام ففي الوقت الذي كان الطلاب منهمكون في الدراسه للأمتحانات كنت أنا أبحث عن أي كتاب كان في مكتبة أخي لكي أقراه , فوقع نظري على خمس أجزاء من مؤلفات علي الوردي فبدأت القراءه , وقتها لم يعنيني التعمق في ماتحمله تلك الاجزاء من مفهوم فكري تاريخي أو أجتماعي المهم عندي هو ملء وقت الفراغ القاتل ولكن مع ذلك علق الكثير والكثير مما قراته عن تاريخ العراق وحصار بغداد والموصل والشخصيه العراقيه والازدواجيه , وأكتفيت بهذا القدر فقط ولم أبحث في مفاهيم أكبر من حجمي الثقافي والذهني أنذاك .

وبعد سنوات قَدمتُ الى بغداد للعمل بعد أن يأستُ من العمل في مدينتي وفعلا أتفقت مع أحد أصحاب الشركات بالعمل معه وأيضا أتفقنا أن أقضي الليل ( المبيت ) في الشركه نفسها , في الصباح كنت في العمل خارج الشركه ولكن في المساء كان علي أن أجلس في غرفة الانتظار ريثما يغادر جميع من في الشركة والذين كانوا يتوافدون الى مكتب الشركة لمقابلة المدير , الكل كان يأتي ويروح مستعجلا ألا شخص واحد فكان يجلس لساعة أوساعتين ولايود الدخول الى صاحب الشركه , كان شخصاً ذو هيبه ولكنه محبوباً وبسيطاً في نفس الوقت , ولكوننا نقضي ساعات طويلة بدون عمل أخذنا بالتعرف على بعضنا البعض وكان متحدثاً وطريفاً ,وكان يقرب الى صاحب الشركة وفي السابق كان يعمل ضابطا في الجيش العراقي قبل أن يحال الى التقاعد من قبل النظام السابق بعد حرب الخليج الاولى , وبعد معرفه دامت عدة أشهر أصبحنا أصدقاء وكان يحب أن يتكلم عن تاريخه وكيف أنه كان سياسياً ووطنياً وقومياً في زمن عبد الكريم قاسم رحمه الله .

ويوماً ما كان الحديث بيننا طريفاً فقال لي أسمع مني هذه الحكايه وبعد ذلك يمكن أن تحكم على العراقيين بنفسك , وفعلاً تهيأت تماماً للأنصات ( وهنا بدأت حكايتنا ) فقال في أحدى السنوات وبعد أن تأزمت العلاقات العربيه الاسرائيليه ووصلت الى حد خوض حرب مع اسرائيل واظن كان ذلك في عام 1967 أي أيام النكسه , ثم تابع في تلك الايام كان الشعور الوطني والقومي على أشده , تجمعنا نحن الشباب واتفقنا على أن نقوم بتظاهره كبيره ضد العدوان الاسرائيلي وقد وافق الجميع على أن يكون الشعار الذي نطلقه في التظاهره هو ( ودّونا للجبهه نقاتل ) وفعلا وفي اليوم الثاني خرجنا في الباب الشرقي وأطلقنا هتافنا وكان الجميع متحمسا وأصواتنا عالية جداً , دخن سيجاره ثم واصل الحديث , بعد ذلك لاأحد يعلم كيف وصل خبر التظاهره الى الحكومة العراقيه في ذلك الوقت , وكانت المفاجئه العجيبه أن الحكومه قد أرسلت رتل من السيارات العسكريه الكبيره والتي تسمى ( الزيل ) وأتى ضابطاً عسكريا الينا وقال في الحرف الواحد أن الزعيم يثمن روحكم الوطنيه العاليه هذه وقد أرسل هذه السيارات اليكم لتنقلكم الى معسكر الرشيد للتدريب والتجهيز ومن ثم نقلكم الى الجبهه للدفاع عن الامة العربية , واصل الحديث فقال , كان عددنا لابأس به وهو أكثر من مائة شخص وكلنا شباب وفعلاً بدأ البعض يصعد السيارات بينما تراجع الاخرون , منهم من توارى عن الانظار ومنهم من تحجج بأنه لم يبلغ أهله أو أن لديه بعض الاعمال العالقه , ربما لم يصعد السيارات الا نصف عددنا , المهم تحركت السيارات من الباب الشرقي متوجهه الى معسكر الرشيد والمسافة ليست بالقصيره , وعند أحد التقاطعات واثناء توقف السيارات التي تنقلنا قفز عدد من الشباب , وبعد ذلك كان كلما كانت السيارات تخفف من السرعه كان العدد يقل شيئاً فشيئاً , ثم أخذ البعض يطلب من سواق السيارات التوقف قليلاً بحجة أو أخرى والعدد يتناقص ويتناقص , وقال المتحدث ,  ( يمعود كلهه نزلت ) وهو يحدث نفسه فقررت أن أقفز من السيارة في أقرب أبطاء , قفزت من الزيل وأبتعدت قليلاً نظرت الى القافله وهي تقترب من المعسكر ولكني ( وقد ضحك طويلاً ) لم أرى ألا سيارة واحدة محملة باربعة من جماعتنا , فقلت له أربعة فقط معقوله , قال لي بعد أن أقسم صدقني تلك هي الحقيقه .

سألته وهل نُقِلوا هؤلاء الاربعه الى الجبهة للقتال , قال صدقني بعد يومين أو ثلاثه ألتقيتُ بهم في أحدى مقاهي شارع الرشيد وسلم بعضنا على بعض ولكن لا أحد منا كان يجرأ على التحدث بما جرى وأكتفينا بالاحاديث الماجنه والصاخبه ولم نتطرق الى مواضيع وطنيه أو سياسيه ألا بعد فترة طويلة جداً . ( هذا ما أتذكره من الحكاية )

في ذلك الوقت بالذات أسترجعت ذاكرتي مابقى بها من أثار لمؤلفات النابغة والمؤرخ المبدع علي الوردي , وحان الوقت فعلاً لقراءتها بمفهومها العميق ( الفكري والاجتماعي والسايكولوجي ) كما أود أن أدع القارئ نفسه ليدرك التركيبه النفسيه المعقده للشخصيه العراقية ومدى ازدواجيتها وانعكاساتها على الواقع الذي نعيشه اليوم وأقترح على المتلقون المحترمون بقراءة تلك المفاهيم الفكريه التي أسس لها العبقري علي الوردي ( رحمه الله ) .