كنا ذات ليلة من شهر محرم الحرام في شارع الجامع والمواكب الحسينية تترى بين أعلام سوداء مرفوعة ورؤوس مدماة ووجوه مغطاة بالطين، والناس يزدحمون، وهم في طريقهم لمشاهدة المواكب الحسينية المشحونة بالحزن والبكاء، وهم يقدمون صورة لما كان يقام في تلك العهود الغابرة ، تذكرني بما كنا نشاهده من مهرجانات واستعراضات وما يقام من أعمال الزينة وتوزيع الأطعمة من حلويات وشاي ونومي بصرة ودارسين ومشاركة الحكام في كل شيء، إلا إن الفضل في تلك المهرجانات ترجع إلى الناس الذين هم خليط من الصوفية والفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء بقصائدهم المتخمة بالمفردات العامية الهابطة المشبعة باللحن الحزين، لم تكن مسبوكة لغوياً نتيجة بساطة تعليمهم وقلة معارفهم، لازالوا يتواصلون كما فعل أجدادهم، منذ الأول من محرم حتى العشرين من صفر، حيث تتعطل معيشة الناس في تلك المدة ,ويتعطل التعليم وأهله، ولا يبقى لهم سوى الاستعداد والتفرج والنظر إليهم .
وفي الطرف الأخر هناك شباب واقفون بقصة شعرغربية، وعطور فواحة، وسلسلة متدلية على الصدر، يتفرجون على العزاء، ولا يشاركون الآخرين ما هم عليه .
البعض منا يعتقد خطأً أن مسألة عاشوراء مسألة وقتية لا نستفيد من أهدافها وقيمها خلال حياتنا،كون الإمام عليه السلام رمزاً للبطولة والتضحية وليس رمزاً للبكاء والعويل وضرب الرؤوس بالقامات و(التراجيديات) الحزينة،ونسينا الدروس المستوحاة من هذه الثورة المباركة، ونسينا كذلك أن الحسين وصحبه الإبرار قدموا لنا أروع نموذج للتضحية والفداء، وأكبر من تلك التي نعملها في مآتمنا النهارية والليلية،وأحياناً نستمر في العزاء إلى وقت متأخر من الليل، ومن ثم نتكاسل عن أداء فريضة صلاة الصبح، متناسين أن ثورة الحسين ما قامت إلا من اجل المحافظة على الصلاة، والالتزام بمبادئ الإسلام الأصيلة .
تسير مواكب المعزين مخلفةً وراءها أكواماً هائلة من القمامة ، ويتناسى المعزون عند شربهم وأكلهم بأن هناك حاويات للقمامة موجودة في أماكن متعددة، ما دفع شباب المنطقة لجمعها ووضعها في المكان المناسب لها تطوعاً منهم لهذه المهمة والشعيرة المقدسة .
أوقفت سيارتي في إحدى الأزقة الضيقة التــــــي تذكرنــــي بطفولتي حيث الكهرباء كانت شبه معدومة في بيوت مصنوعة من القصب والبردي، عندما كنا نقرأ تحت أضواء المصابيح المعلقة على أعمدة الشوارع .. هذا العمود لعادل والأخر لشاكر، كلها مقسمة علينا، لا نسمح للغريب بالجلوس تحتها.. لم أر شيئاً جديداً سوى بعض الناس ممن ولدوا متأخراً، أما كبار السن فكانوا يعرفوني ويأتون ليسلموا علي، وأنا أنظر إلى وجوههم التي غيرها الزمن دون أن أتذكر البعض منهم سوى الذي يقدم أسمه لي .. المواكب تسير من نهاية شارع الجامع وتنتهي في (فلكة) الماجدية، التي شهدت هزيمة رجال الحرس القومي عام1963.
بدأت أسير في الشارع متجها إلى الفلكة حيث جميع المواكب تلتقي فيها، المواكب القادمة من شارع الملعب أو من جسر الماجدية القديم، وأنا أتفادى الناس والازدحامات والنسوة اللواتي خرجن للتفرج على المواكب، كانت فرصتهن الوحيدة للخروج من البيت والتفرج على مسرحيات الحزن السنوي، حيث لا مفر من العبودية والسماء فوقهن، والشرائع تحت السماء، والقوانين الوضعية تحت الشرائع , والرذائل تحت القوانين، والوحشية تحت الرذائل.
شعرت بالضجر من أصوات الطبول المفزعة والكلام غير المفهوم أحيانا من قبل الرادود وهو ممسك (بالمايكروفون)، أمامه مولدة كهرباء تعمل بزيت الغاز أو البنزين محمولة على عجلة،تكاد تلك المولدات تجعلني لا أفهم ما يقوله القارئ وسط المواكب العامرة بالشباب والشيب الذين يحملون الزناجيل و القامات، البعض منهم يرتدي الأكفان البيضاء عليها آثار دماء ..لكن ما لفت نظري أن الكل يحمل أجهزة (موبايل) لتصوير أنفسهم ونشرها في (الفيسبوك)، وكأنهم في حفلة تنكرية، كل واحد منهم يرتدي القناع الذي يريد،أمسيت على يقين أن البعض منهم لم يكن صادقاً.
سألت أحدهم :ما بك؟
– البارحة طبرنا .. أنها كتلة العباس.
– مـاذا تسمي هذا ؟
– أسميه الحزن الأبدي.
– والى متى يبقى ؟
– مرد ذلك إلى الله وليس إلينــــا , فان فـــــي هذا الوجود قانوناً دقيقا للحزن لا يتسامح فــــــي شيء.
– آه.. فإذا كان الحزن طويلاً ونحن في عمق البئر ذاهبين إلى الأغوار البعيدة، سوف اقضي بقية العمر اردم فيها بعد أن قضيت شطره احفر منها.
– ليس هذا سبيل الفضيلة، كن مع الناس ولا تعارضهم فيما يفعلون.
عاد صاحبي إلى الموكب بعد استراحة قصيرة في تقاطع الفلكة كأنه جندي مكلف انتهت إجازته الاعتيادية وعاد إلى موكبه خوفا من الغياب.
ودعني وذهب، حينها عادت بي الذكرى لأيام خلت عندما كانت المواكب منتصف السبعينيات تردد شعارات تمجد تأميم النفط،وكان الناس يطلقون عليها مواكب الحزب القائد، البعض منهم قتلته الحروب، والآخر مات مريضاً، ومن تبقى منهم يحمل الزنجيل، مردداً (يا حسين بضمايرنا )، لأن الضمائر السابقة ماتت مع قائدها المهزوم .
قلت : سيدي يا حسين إنك ذهبت إلى الله متجردا من الدنيا، ليس لك منها إلا جسمك مبتغياً فيه محبته ورضاه تعالى، فلما شاهدت التجلي الأعلى تجردت من جسمك أيضا واتصلت بنوره سبحانه وتعالى، لقد خلعت الدنيا مرتين، ومات بعضك في العراق، والباقي في الشام، وخلصت روحك إلى ربها، واني أحس أن النفاق هو بقية ما ترسب في النفوس الجاهلة من عهدها الأول، والتقديس للأصنام والأوثان والعجول والبقر والعواصف والصواعق، هي ما تتمثل فيه أفعال البعض الذين يدقون طبول الحرب كل عام .
كانت جميع المواكب تتجه نحو نقطة الالتقاء”فلكة الماجدية” ليعود كل واحد إلى بيته، بما فيهم أصحاب الملابس الحمراء والصفراء الذين يمثلون جيش عمر بن سعد، كذلك أصحاب الملابس الخضراء الذين يمثلون أصحاب الإمام الشهيد ، بعد أن يتناول الجميع وجبة من الحمص والباقلاء المطبوخة، ويشربون الشاي سوية .. حتى الشمر رايته يدخن سكائر أجنبية، وكأنه قادم إلينا مع مغول العصر الداعشي من بلاد العرب والمسلمين … هذه الطائفة من الممثلين ومن لا يمثل منهم لكنه يؤمن بلا إيمان، هم أنفسهم بعض آلام البشرية .. لكن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة، فيصبون عليهم من هالات التقديس كما يصب الماء على الميت ليرسل معه بقية طهارته إلى الآخرة، ولرأوا أن كل شيء يتألم، حتى الديانات والفضائل تتألم بأفعال هؤلاء وجحودهم .
فلتكن أيها المحزون اكبر من همومك وأحزانك مهما كبرت، وإذا كان الموت شرفاً لمن مات مدافعا عن الحقيقة مهما كانت، وفي أية صورة تمثلت، فان البقاء في الحياة يكون أحيانا أعظم واشرف لمن يدفع مصائب الحياة عن ضميره … فكن قوياً عن مصارعتها فقد تصرعك مرة أذا بدت منك غفلة… فلا تكن حينئذ جباناً في النهوض كما كنت جباناً في الوقوع .
عدت إلى سياراتي بعد أن وجدتها ملطخة بالطين نتيجة عبث الأطفال ووقاحتهم , وأنا أتساءل مع نفسي هل أن آبائهم ذهبوا إلى تلك المواكب وتركوهم يلعبون في الشوارع ويعبثون ؟ أية ثقافة تلك ؟ وأي حزن تقيمون وأنتم لا تحسنون تربية أبنائكم ؟ .. وهل إن مستقبلهم في الشارع أم في المدارس التي أمست شبه معطلة ؟ فأي مستقبل ينتظرون ؟ .. أوقفني شرطي المرور وطلب مني الرجوع عبر الشارع الآخر، لأن المواكب لا زالت تنسحب وهذه خطة أمنية لحمايتهم … كان ذلك منتصف الليــــــــل و لازال البعض يسهر ويأكل ويشرب ما يقدمه أصحاب المواكب الخدمية إليهم من فواكه وحلويات ومرطبات جمعيها مستوردة ولله الحمد….. أوقفني أحد الأصدقاء لكي أوصله معي إلى بيته لأنه معجب هكذا تراجيديا . وأخذنا نتبادل أطراف الحديث وكل واحد منا يطرح أفكاره مع شعور بالخوف أخذ ينتابني .
قلت له : ما لا يعجبني في عاشوراء.. أن تتنافس المآتم الحسينية الرجالية والنسائية وخصوصاً الرجالية منها بتقديم المأكولات والمشروبات وتكون منافستهم الوحيدة على الأفضل والأكرم في تقديم المأكولات وتنسى القيمة الحقيقية والرسالة العلمية للمآتم الحسينية.
قال : نعم البلد يمر بمعركة تاريخية يقاتل فيها أبناؤه مغول العصر داعش، ومن ساندهم من شذاذ الأفاق وهؤلاء المضحون هم أولى بتلك المأكولات والمشروبات التي يمكن تحويلها كمبالغ نقدية إليهم عن طريق فتح حساب مركزي لدعم المعركة ورجالها الشجعان .
قلت : كما نلاحظ بعض النساء وهن في قمة أناقتهن وتبرجهن يتبادلن الحديث والابتسامات أثناء قراءة الخطيب , وكأنهن يشاهدن برنامجاً تلفزيونياً أو يستمعن لبرنامج إذاعي، ولا ترمش لهن طرفة عين، ولا يرجف لهن قلب على مصاب الإمام الشهيد وصحبه الأبرار .
قال : رحم الله المناضل البوليفي الثائر- جيفارا – حين قال( المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الدكتاتوري والقمعي الذي يمارس القتل والقمع ضد أبناء شعبه).
ودعني حين غادر السيارة، على أمل اللقاء غداً في يوم حزين آخر.