17 نوفمبر، 2024 10:35 م
Search
Close this search box.

حكاية صورة

” من أنا؟ أنا لاأعرف من أنا؟ أنا جثة محترقة بكامل قيافتها العسكرية ونجماتي الثلاثة على كتفي المتفحم هو ألآخر.لم استطع القفز من دبابتي التي أنا آمرها وآمر دبابات أخرى متفحمة بجواري بطاقمها – الكامل من الرتب العسكرية المختلفة- كنتُ عسكرياً أنتمي الى وطنٍ إسمه العراق. دون أن نناقش أو نعترض- طبعاً لايحق لنا ألأعتراض- وجدتُ نفسي بين عشيةٍ وضحاها في صحراء رملية تبعد آلاف الكيلومترات عن بيتي وأطفالي وزوجتي التي لي معها ذكرياتٌ لاتعد ولاتحصى. أنا فلاح قبل أن أتطوع للجيش واصبحتُ طالباً من طلاب الكلية العسكرية. درجاتي الوزارية تؤهلني للدخول الى كليةٍ أخرى بكل بساطة بَيْدَ أن عشقي الجنوني لأكون ضابطاً في الجيش العراقي سحرني بكل تفاصيل التفاخر التي تندرج في صدور الشباب في ذلك الزمن. كانت والدتي تلاعب شقيقي الصغير وتردد على الدوام ” لو ملازم لو ملازم”. عرفتُ فيما بعد أنها تقصد أن الفتاة في ذلك الزمن تقول مع نفسها- لو ملازم في الجيش وإلا فلن أتزوج.- ظلت تلك الكلمات ترن في ذاكرة الجسد  الفتي العاشق لكل أنواع المغامرات داخل أرض الوطن أو خارجة. تفوقت في دراستي في الكلية العسكرية بكل المحاضرات العلمية والبدنية – كان همي الوحيد أن أكون ضابطاً مرموقا تغني له الفتيات – لو ملازم لو ملازم- . حينما يصدر لي أمراً في أي مكان لايحق لي السؤال أو التذمر أو حتى التفكير مع نفسي  عن نوعية الواجب أو هل أن إتخاذ القرار المتعلق بالواجب كان صائباً أم على خطأ. دخلتُ في مشاكل قتالية – أقصد الحروب المفروضة على أطراف النزاع-  حققتُ إنتصارت هنا وأصبت بجروح هناك وشاهدتُ مآسي يتمزق لها كل قلبٍ ينبض بالحياة ولكن لايحق لنا أن نبكي أو نتذمر ونحنُ نلتحم مع الطرف ألآخر للنزاع. كلما ذهبتُ مع الفئة المخصصة للحرب أعرف أنني لن أعود وسأترك خلفي صغارأً لايعرفون أين أنا وماذا حدث لي .
سأغادر زوجة تنتظر فوق جمرٍ ملتهب على طول المسافة الزمنية المخصصة للعمل كعسكري في مكانٍ ما من أرض وطنٍ إسمهُ العراق. وجاءت سكرة الموت..اللحظة التي إرتكب فيها – قائدنا الضرورة- تلك الهفوة المميتة لكل شيء إسمه الجيش العراقي.  إمتدتْ الدبابات في صحراء بلدٍ مجاور نطلق علية – البلد الشقيق- بكل ماتعنية هذه العبارة من معنى. أنا كعسكري – قبل أن أتحول الى جسدٍ اسود محترق فوق دبابتي التي رافقتني سنوات من عنفٍ لايتوقف- لم أكن راضياً مرضياً على تلك الهفوة القاتلة التي زجنا فيها شخص واحد فقط إسمه – القائد الضرورة- . ساعاتٌ طويلة تربض دباباتنا خلف ساتر يحجب عنا طائراتٌ عملاقة جاءت من مكان مخصص لتدمير لكل شيء يتحرك فوق سطح ألأرض . دَبَّ التذمر بيننا مراتب وضباط وكافة الرتب ألأخرى ننشد خلاصاً لهذا الجحيم الذي نفترشة ليلاً ونهاراً. لم تعد لشجاعة الضابط أهمية ولم تعد لقوة دبابتي شيءٌ يذكر فطوفان الجحيم القادم من السماء أقوى بكثير من أي سلاح موجودٌ في دبابتي. جائنا أمرٌ للأنسحاب والعودة الى أرض الوطن الذي نطلق علية إسم العراق. فرحنا وأرتعبنا جداً في نفس الوقت. كيف سننتقل كل تلك المسافة في تلك الصحراء الجهنمية. إنطلاقنا من مكان التحصين وألأختباء هو ألأنتحار بعينة..لا بل هو موتٌ مئة في المئة. الكل يعرف هذا . نظر بعضنا للبعض ألاخر وشاهد علامات الموت الأكيد يرسم صورتة المأساوية على كل وجه. قَبَّلَ بعضنا ألاخر قبلة الوداع وتهيئنا للأنطلاق بالدبابات والمجنزرات  وكل عجلة عسكرية تنضوي تحت التشكيلة العسكرية التي ننتمي إليها.  راحت الدبابات – ومن ضمنها دبابتي التي أعشقها كما أعشق أمي بحبٍ مفرط- تسير بأقصى سرعة على الطريق ألأسفلتي القريب من المطلاع بأتجاه البصرة. كانت الطائرات العملاقة تحوم فوقنا كأنها كلاب شرسة تداعب قططاً أليفة قبل إلتهامها. لم تلقِ أي نيرانٍ علينا في باديء ألأمر وكأنَّ طياريها كانوا يريدون أن يعذبوننا عذاباً نفسياً قبل سكرة الموت ألأخيرة. القت الطائرات العملاقة قليلاً من قنابلها الحارقة الخارقة أمامنا بمسافة معينة ليجبروننا على التوقف. كانت النيران المستعرة المشتعلة تلفح وجهي كأنها رياح السموم المرعبة في منتصف الصيف. لم تخطر على ذهني أي صورة سوى صورة والدتي وهي تقف بالقرب من تنور الخبز وهي تحاول إضافة حطب شديد ألأحتراق في التنور.
كنتُ أقف الى جانبها كلما أرادت أن تصنع لنا الخبز. أحياناً أطلب منها أن تعلمني كيفية وضع قطعة الخبز في التنور دون أن تصاب يدها بأي حروق. كانت تضحك من تصرفي الصبياني وتسمح لي مرة أو مرتين إلا أن النيران القوية التي ينفثها التنور تلسع ذراعي المكشوف وأرتد صارخاً الى الوراء. صورة القنابل الملتهبة في تلك اللحظة أعادت اليَّ كل تلك الصور مع والدتي. إبتسمتُ مع نفسي وقلت ” كم أنتِ رائعة يا أمي” . أدركتُ كما أدرك ألأخرون بقربي خطورة الوضع الذي نسبح فية وقبل أن نقرر القفز من جميع المركبات ونهرب على ألأقدام نتيه في الصحراء الملتهبة..شعرتُ أن شيئاً حارقاً يمتص كل عصب من أعصاب جسدي وسمعتُ في نفس الوقت صراخاً مدوياً من جميع المراتب القريبة والبعيدة من موقعي فوق الدبابة. إشتد ألألم أكثر وأكثر وذاب جسدي كله بملابسي ونجماتي التي تربض فوق كتفاي. لم أعد أشعر بأي ألم فقد تحولت الى جثة ملتصقة بدبابتي التي رافقتي سنوات وسنوات. يبدوأ أن دبابتي كانت تعشقني بجنون وأرادت أن نحترق معاً في الظلام. كانت الطائرات المجنونة لاتعرف الرحمة في تنفيذ واجبها . هدأت النيران وعادت الطائرات الى مهاجعها فرحة بتدمير اي عجلة تعود الى جيشٍ إسمهُ الجيش العراقي. أشرقت الشمس في صباح اليوم الثاني…كنا لانشعر بأي ألم ولانسمع اي صوت رغم وجود الطائرات فوق الصحراء في كل ألأتجاهات. نظرت جثتي الى الجثة القريبة مني . كانت تبتسم وأسنانها واضحة وملابسها متشحة بالسواد والرماد. ” ألم اقل لك فلنهرب قبل بدء الهجوم البري والجوي” قالت تلك الجثة تخاطب جثتي. نظرتْ جثتي الى تلك الجثة بحزنٍ عميق وقالت ” كيف نهرب؟ ألم نقسم لحظة التخرج بأننا سندافع عن ألأرض والسماء والمياه؟ ألم نقسم بأننا لن نترك موقع المعركة حتى لوإحترقت أجسادنا؟ ” . الشيء الذي يقلقني ألأن كجثة محترقة متفحمة ..هل سيعتبرني الوطن الذي إسمهُ العراق متخاذلاً منهزما وستضيع حقوقي وحقوق زوجتي وأطفالي ؟ هل سأبقى هنا كجثة محترقة وتجرفني الجرافات في مقابر جماعية أم سيكون لي قبرٌ تزورهُ امي وزوجتي وأطفالي ؟ أم سأكون ذكرى أليمة في ذاكرة التاريخ هناك في بلدي الذي يطلق عليه إسم العراق ؟؟؟.

أحدث المقالات