لعل أقوى تصريحات السفيرة الأمريكية في العراق، إلينا رومانسكي، هو الذي قالت فيه، ” نحن على أعتاب مضيّ 20 عاما على العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق، ونتطلع لـ 20 سنة أخرى مقبلة”. فهل من معترض؟
وفي زيارتها الأخيرة للموصل قالت، ” زيارتي الأولى للموصل الجميلة، ثاني أكبر مدن العراق، وموطن الكثير من مواقع التراث العالمي المعروفة، التقيت مع محافظ نينوى، نجم الجبوري، لمناقشة التقدم المُحرز في إعادة البناء والتحديات المتبقية، كما تحدثتُ مع الإعلام المحلي عن الشراكة الأمريكية العراقية الشاملة”.
وفي إحصائية للزيارات التي قامت بها السفيرة رومانسكي تبين أنها زارت رئيس الوزراء 10 مرات، ورئيس الجمهورية 3، ورئيس البرلمان 4، ووزير الخارجية 4، ووزيرة الهجرة والمهجرين 3، مستشار الأمن القومي مرتين، ووزارة البيئة 3، والثقافة مرتين، والنفط مرتين، والتخطيط مرتين، ومرة واحدة لكل من وزارة العدل والكهرباء والمالية والبنك المركزي.
والمؤكد أن هذه الزيارات، كلّها، لم تتم بالطرق الديبلوماسية المتبعة بين الدول المستقلة التي تفرض على سفير أية دولة أجنبية أن يطلب، كتابيا، من وزارة خارجية الدولة المضيفة أن تسمح له بزيارة مسؤول في الدولة، وهذا هو الساري على جميع سفراء الدول الأجنبية في العراق، ما عدا سفير ولاية الفقيه وسفيرة العم سام.
والمثير للعجب أن عراقيين كثيرين مستاؤون جدا من هذا التصرف اللاديبلوماسي الذي تتعمد السفيرة الأمريكية القيام به بهذه الطريقة، واعتبروه مقصودا للتعبير عن استصغار السفيرة لجميع قادة الدولة، ولتقول للمعترضين، من جماعة إيران، تحديدا، (موتوا بغيضكم).
النائب الإطاري أحمد الموسوي، ممثل مليشيا عصائب أهل الحق، يقول، ” إن تدخلات السفيرة الأمريكية في العراق وقاحة، وفصائلُ المقاومة تراقب أداء الحكومة لتخليص العراقيين من هيمنة أمريكا”.
طيب. والعتب على من؟، هل إن أمريكا هي التي تستبيح حرمة الدولة وسيادتها، بشخص سفيرتها ذات الماضي المخابراتي العريق، أم هم الرؤساء والوزراء والمحافظون ورؤساء المؤسسات الحكومية الذين نراهم على شاشات التلفزيون، مستبشرين فرحين فخورين وهم يستقبلونها بالأحضان، وهم صاغرون.
ولنعد هنا إلى أصل الحكاية. لابد من التذكير بأن جميع وثائق مؤتمرات المعارضة العراقية السابقة، وأفلامها، وحفلات تأسيس مجلس الحكم التي يتوسطها الحاكم المدني الأمريكي، بول بريمر،ما زالت محفوظة ولم يتم محوها بعد.
فجميع الذين يجلسون اليوم في مقاعد القيادة في العراق، وبالأخص جماعة إيران، رؤساء ووزراء وسفراء ومدراء وأصحاب أحزاب ومليشيات، كانت المخابرات الأمريكية هي التي التقطتهم من مقاهي لندن وطهران ودمشق وعمان والرياض، وأجلستهم على الكراسي المذهبة، وهي تعلم علم اليقين بأنهم أسوأ العراقيين وأرخصُهم، وأكثرهم فسادا وجبنا وانتهازية واستعدادا فطريا للخيانة، وهي التي لا يناسبها ولا يرضي مخططاتها عراقيون وطنيون رجال شجعان وشرفاء لا يسكتون عن باطل ولا ينافقون ولا يختلسون.
ولو ترك البعثيون العراق كما كان في عهد الراحل عبد الرحمن محمد عارف، مثلا، رغم عيوبه ونواقصه، لوجدنا تسعة وتسعين في المئة من قادة هذه العملية السياسية محشورين في السجون مع المجرمين العاديين القتلة واللصوص والمختلسين والخونة المدانين بالجاسوسية والتخابر مع الأجنبي.
تأملوا، مثلا، سجلَّ واحدٍ منهم، نوري المالكي. ألم يرفعه السفير الأمريكي، زلماي خليل زاده، من آخر صفوف حزب الدعوة، 2006 ويجلسه على كرسي رئاسة العراق، ليصبح زعيم الزعماء ووزير الوزراء؟ وليوقع في 2008 مع أمريكا الاتفاقية الأمنية التي سمحت لواشنطن بالاستمرار في التدخل في الشأن العراقي.
ثم لم تكتف أمريكا برفعهم من حالة الضياع والفقر والعوز والتشرد في عواصم الدنيا الواسعة فقط، بل سكتت عن أكوام الأسلحة التي كانت تتدفق عليهم من إيران، وسمحت لهم، على مدى عشرين عاما، باختلاس الدولار الأمركي وتهريبه إلى إيران، ودبي، وعمان، ولندن وبيروت.
ولولا حماقة النظام الإيراني واصطفافه مع الرئيس الروسي، بوتين، عدو أمريكا الأول في أوكرانيا، ومهدد سطوتها العالمية لما رفعت على المزورين والمهربين عصا الطاعة، ولما قطعت عنهم ساقية الدولار وأجبرتهم على الانحناء لها والقبول بشروطها.
وتعالوا لننسى أن أمريكا هي التي نصَّبتكم وأعطتكم مفاتيح الجنة العراقية الوارفة، وننسى أنها فرضت عليكم شروطها القاسية ومنعتكم من سرقة دولارات العراق وتهريبها إلى إيران، ونسألكم هذا السؤال، هل بينكم واحد شجاع وطني أصيل لا يخاف أن يقول كلمة عدل في حضرة سلطان جائر، فيقول (لا) للسيدة ألينا رومانسكي حين تفتح أبواب الرئاسة، أو الحكومة، أو الوزارة، أو النيابة، فجأة ودون برتوكول ولا مجاملات، وتدخل عليه دخول الفاتحين؟