.. ركنت تلك الاوراق في غرفتي ثم خرجت من الجامعة متوجها الى السوق لأشتري هدية مناسبة ، فأهتديت ، ولم أجد ، أغلى من كتاب الله العظيم ، فوجدت مصحفا شريفا موضوع داخل صندوق خشبي متقن الصنع ذو زخارف تسحر الناظرين ، ومعه قلم حبر من النوع الفاخر .. وطلبت من البائع تغليفهما بشكل أنيق .. وعدت الى الجامعة لأخذ ذلك الملف ( النفسي ) ومنها الى بيتي .. جلست دون ان اخلع ملابسي ورحت أقلب تلك الأوراق بعناية فائقة وبتركيز شديد ، وفعلا وجدت ما أصبو اليه ( الفصل الرابع / وقوع الطالبة في حب الاستاذ ) ومنه اخذت هذه الكلمات ونضدتها على آلة الحاسوب ثم بعثتها الى ( غفران ) عبر جهاز الفاكس بعد ان أعدت صياغتها بما يتلائم مع تفكير تلك البنت ، ولعل هذه الكلمات تأخذ طريقها الى عقلها وترعوي أو تنثني عما هي فيه :الحبُّ – أعزَّك الله – أوَّله هزل وآخره جِدٌّ، دقَّتْ معانيه لِجَلالتها عن أنْ تُوصَف، فلا تُدرَك حقيقتها إلاَّ بالمُعاناة، وليس بمُنْكَرٍ في الدِّيانة ولا بمحظورٍ في الشريعة؛ إذِ القلوب بيد الله – عزَّ وجلَّ”.
بهذه الكلمات الرقيقة استهلَّ ابن حزم إمام الأندلس وأديبها وفقيهها كلامَه في ماهيَّة الحب في رسالته الشهيرة العابقة بالحب “طوق الحمامة”، وابن حزم – رحمه الله – هو القائل:
فمَن يقول بعَدَم جواز الحب فهو مُخطِئ؛ إذ كيف نحرِّم شيئًا قَضاه الله – تعالى – وأوجَدَه في قلوبنا؟!
يلومونني في حب سلمى كأنما …. يرون الهوى شيئا تيممته عمدا !
إلا إنما الحب الذي صدع الحشا …. قضاء من الرحمــن يبلو به العبدا
وأعني بالحب هنا الانفعالَ القسريَّ وليس الفعل القسري؛ أي: مشاعر القلب وحسب، فقد قال ابن قيّم الجوزيَّة في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “وقد فسَّر كثيرٌ من السَّلَف قوله – تعالى -: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ بالعشق، وهذا لم يريدوا به التخصيص، وإنما أرادوا به التمثيل، وأنَّ العشق من تحميل ما لا يُطاق، والمراد بالتحميل هاهنا التحميل القدري لا الشرعي الأمري…”.
أمَّا حين نتجاوَز المشاعر والانفعالات إلى السلوكيَّات والأفعال، فنكون بذلك قد أخرَجنا الحبَّ من دائرة القلب إلى عمل الجوارح، ومن جادَّة الحب إلى هاوِيَة الجنس! وبهذا المعنى فقط يمكن أنْ نقول بأنَّ الحبَّ محرَّمٌ؛ لأنَّه لم يَعُدْ حبًّا؛ أعني: لم يَعُدْ عاطفة سامية، بل شهوة ورغبة جسدية.
وسَواء كان المحبوب أستاذًا أم شيخًا أم حاكمًا أم حتى شخصًا تافهًا، فالحب لا يعرف مثلَ هذه المراتب والفوارق، فلقد أحبَّ من قبلُ ملوكٌ وخُلَفاء، وعُلَماء وعُظَماء، وفُقَهاء وشُعَراء أكثر من أن يُحصَوا، ولم يُسقِط الحبُّ عنهم تِيجانَ الفضيلة، ولم ينزعْ عنهم ثيابَ الهيبة والوَقار.
إنَّ دافع الحب دافعٌ فِطريٌّ، وهو من أقوى دَوافِع التحفيز والتنشيط، لكنَّه قد ينقَلِب إلى دافِع تدميري مثبط ومعطِّل للحياة بأسْرها إذا كان هناك رفضٌ في العلاقة، سواء كان هذا الرفض:
– “قلبيًّا” لعدم وجود تآلُف بين القلب المحبِّ وقلب الحبيب.
– أو بكتمانٍ واقع للمشاعر.
– أو “لا شعوريًّا” بإنكار أحد طرفي العلاقة لهذه المشاعر الوجدانيَّة.
– أو “عقلانيًّا” نتيجةً لعدم توافُق الظروف المحيطة بالحبيبين.
وعندئذٍ تنقَلِب كلُّ لذَّةٍ في الحب إلى آلامٍ مُوجِعة، فتجرف الدموع في طريقها كلَّ البسمات التي ارتَسمَتْ على الوجوه العاشقة.
وسرور الحب وهم لا يطول … وجمال الحب ظل لا يقيـــــم
وعهود الحب أحلام تزول …… عندما يستيقظ العقل السليم
في الحقيقة، بِتُّ على قناعةٍ اليوم بأنَّ كلَّ امرأة تقع في حبِّ رجلٍ هي في مصيبةٍ، بل في مصائب شتَّى! “مَصَائِبُ شَتَّى جُمِّعَتْ فِي مُصِيبَةٍ”:
مصيبة في قلبها: إذ أصبح فُؤادها في الحبِّ فارغًا ممَّا سوى الحبيب!
ومصيبة في عَقلها: إذ عطَّلت تفكيرها ومواهبها وقدراتها بشغل عَقلها بهذا الحبيب!
ومصيبة في جسَدها: إذ فقَدت بالحب رغبتَها في الطعام والشراب، حتى ضعفت وهزلت من أجل حبيبٍ يتمتَّع بالصحة والعافية!
ومصيبة في رُوحها ونفسها: إذ فقَدتْ صلتها بربها ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾
وماذا عن الحل؟!
باعتقادي أنَّ تجاهُل المشاعر، والنَّظر في عُيوب المحبوب غير مُجدٍ على الإطلاق؛ لأنَّ الحبَّ أعمى كما يقول شكسبير! ولن يرى القلبُ المُحِبُّ في صورةِ محبوبِه أيَّ عيوب، بل سيضع له كلَّ المبرِّرات، وسيتلمَّس لِمَن يحبُّ كلَّ المعاذير!
وعين البغض تبرز كل عيب … وعين الحب لا تجد العيوبا !
لذا أرى أنَّ أفضَلَ الحلول الواقعيَّة يَكمُن في توزيع طاقات الحبِّ بدَلاً من إنكارها أو إهدارها؛ للتخفيف من عِبء ثقلها وحمْلها على القلب وحدَه.
لا أبرِّئ ساحتي هنا ولا أتَّهم نفسي ، ولكنَّ هناك حدودًا للمدح والثَّناء، خُصوصًا حين يكون هذا المديح بين رجلٍ وامرأة، بغَضِّ النظر عن مَكانة كلٍّ منهما في مجتمعه، وكما يقول أفلاطون في كتابه “الجمهورية”: “على المُحِبِّ – أي: المعلِّم – أنْ يقبل محبوبه – أي: تلميذه – ويقتَرِبَ منه ويمسَّه وكأنَّه ولده، مستهدفًا غرَضًا شريفًا، وذلك إذا أمكنه اكتِساب قلبه، ومن الواجب على وجْه العموم ألاَّ يكون في علاقته مع ذلك الذي يُعنَى به ما يدعُ مجالاً للشك في أنها قد تتطرَّف وتتجوَّز هذا الحد، حتى لا يُرمَى بسوء التربية وفَساد الذوق!”.
بعد وُقوعكِ في حبِّ أستاذكِ من الطبيعيِّ أنْ تَرَيْه مختلفًا وجذَّابًا، وهذا شأنُ الحب دائمًا وأبدًا..
وإذًا تَكمُن جُذور المشكلة في تدنِّي مستوى تقديركِ لذاتكِ، والحب في أحد مَفاهِيمه يعني أنَّ ذَواتنا قاصرةٌ وغير قادرةٍ على إشباع احتِياجاتنا العاطفية والنفسية من تِلقاء نفسها، وأنَّ لدينا نقصًا كبيرًا لا يُكمِله إلاَّ شخصٌ آخَر من خارج الذات، وهذا الأمر صحيحٌ في بعض جوانبه، لكن يجبُ عدم الالتفات إليه حين تكون العلاقة مجرَّد حبٍّ عابر أو من طَرَفٍ واحدٍ، أو حين يكون الحبُّ مستحيلاً.
يرتفع مستوى تقدير الذات بالنظَر إلى الإنجازات الشخصيَّة؛ لذا يجبُ عليكِ أن تقومي بما يلي:
أ- التركيز على المادة الدراسيَّة التي يقوم بتدريسها لكِ هذا الأستاذ، اجتَهِدي أكثر واصرِفي طاقاتكِ النفسية والمعنوية والجسدية في البحث العلمي والتفوُّق والإنجاز؛ فالمطلوبُ هنا رفْع مستوى تقدير الذات عِوَضًا عن تقدير الآخَرين (الأستاذ)، وشغل عقلكِ بالعلم بَدَلاً من التفكير في المعلِّم.
ب- مارِسي عملاً أو هوايةً ممَّا يمكن أنْ تشغل حيِّزًا كبيرًا من وَقتكِ، أو تعلَّمي شيئًا جديدًا تُطوِّرين به إحدى مَهاراتكِ، ثم طبِّقي ما تعلَّمتِه عمليًّا، ولا تستَخفِّي بهذا العلاج؛ لأنَّه سيفيدكِ حتمًا.
جـ- أحبِّي نفسكِ وكافِئيها بهديَّةٍ حين تُحقِّقين إنجازًا أو نجاحًا، ففي غمرة الحبِّ ننسى أنفُسَنا فنعذِّبها بالإهمال ونَئِدها بالحزن، فترفَّقي بنفسكِ ولا تنسيها، عُوفِيتِ.
ثانيًا: تجنَّبي الخلوة والوحدة والانفِراد؛ لأنَّها تُعطِي مجالاً خصبًا للوَساوِس الشيطانيَّة، وتزيد من هوَّة التفكير غير الصحي، وتُشعِل في الجوانح نِيران الشوق والحنين والشُّعور القاسي بالوحشة؛ لذا حاوِلي قضاءَ الوقت مع أخواتكِ وصَدِيقاتكِ المقرَّبات، واعمَلِي على بِناء علاقات اجتماعيَّة جديدة مع صَدِيقات أُخرَيات، ولو من خِلال الإنترنت، وإذا أُتِيحتْ لكِ فرصةٌ للخروج من المنزل والترفيه عن نفسكِ فلا تفوِّتيها، فأنتِ بحاجةٍ إلى ذلك، بحاجةٍ إلى الانطِلاق والتحرُّر من قُيود الحب التي تزيد من صلابتها جُدرانُ المنازل.
ثالثًا: تجنَّبي مشاهدة الأفلام الرومانسيَّة وسَماع الأغاني العاطفيَّة؛ لكونها تُشجِّع كثيرًا على ارتكاب الخطأ والإثم.
رابعًا: جاهِدِي نفسَكِ واحتَسِبي الأجرَ عند الله في مُغالَبة الهوى، فقد قال ابن القيِّم: “وأمَّا الرغبة في الله وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه فهي رأسُ مالِ العبد ومِلاك أمره، وقوام حياته الطيِّبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه وقرَّة عينه؛ ولذلك خُلِق، وبه أُمِر، وبذلك أُرسِلت الرُّسل وأُنزِلت الكتب، ولا صَلاح للقلب ولا نعيم إلاَّ بأنْ تكون رغبته إلى الله – عزَّ وجلَّ – وحدَه، فيكون هو وحدَه مرغوبه ومطلوبه ومراده”.
خامسًا: ألِحِّي على الله بالدعاء أنْ يربط على قلبكِ كما ربَط على قلب أمِّ موسى لتكون من المؤمنين، وثِقِي بأنَّ لديه – سبحانه وتعالى – كلَّ القوة والقدرة على أنْ يُقلِّب قلبكِ وينزع عنه كلَّ حبٍّ لم تتَّصِل أسبابه بالله – تعالى – فليكنْ لديكِ الإيمانُ الصادق واليقين الثابت بأنَّ الله وحدَه هو القادر على منحكِ القوَّة للصبر والمصابرة والمجاهدة والثبات، فلا تطلُبيها من غيره – جلَّ في عَليائه – ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾
سادسًا: ركِّزي على نَفسِكِ، واترُكي أستاذكِ جانبًا، كُوني واعيةً بنفسكِ أكثر واكتُبي أفكارَكِ الخاصَّة، قِيمكِ، أحلامكِ، إحباطاتكِ، مَشاعركِ، خِبراتكِ الماضية، منفصلة تمامًا عن هذا الأستاذ، فهذا نوعٌ من التنفيس الانفعالي الذي سيجعَلُكِ أكثر وَعْيًا بنفسكِ وبالأسباب والدَّوافع التي أوقعَتْكِ في هذا الشَّرَك، وإنْ شِئتِ أنْ تُرسِليها على بريد الألوكة لأقرأها، فمرحبًا وأهلاً، أو شئتِ أنْ تحتفظي بها لنفسكِ فهذا حقُّكِ، الأمر إليكِ، المهمُّ عندي أن تكتُبي وتنفِّسي عن نفسكِ قليلاً من خِلال الكتابة.
سابعًا: لتحسين نفسيَّتكِ من حالة الكآبة التي تمرِّين بها، أنصحكِ بتناول الكبسولات الزيتيَّة أوميجا -3 بتركيز 1000ملغم وهي متوفِّرة في محلاَّت الأغذية التكميليَّة، وفي الصيدليات لكن بنسبٍ أقل، ستُفِيدكِ على كافَّة المستويات نفسيًّا وصحيًّا وجماليًّا، وقد جرَّبتها بنفسي وليس بالضرورة أنْ تكوني مكتئبةً لتتناوليها، بل هي مهمَّة وضرورية لصحة المرأة على وجه العموم؛ لحمايتها من الإصابة بسرطان الثدي، وتحسين الخصوبة، والتخفيف من تشنُّجات الحيض، وللحماية من ترقُّق العظام، وخفض الإصابة بأمراض القلب… وغير ذلك من الفوائد الرائعة لهذه الأحماض الدهنيَّة الذهبيَّة.
من المهم أنْ تتذكَّري أنَّكِ خِلال مرحلة “العلاج” قد تُعانِين أكثر، وربما تَبكِين أكثر من ذي قبل، وهذا يحدُث طبعيًّا كنوعٍ من الأعراض الانسحابيَّة مع أيِّ علاجٍ للإدمان – والانسحاب هو تكييف الجسم لإعادته كما كان من قبل دون استِخدام العقاقير – والحبُّ هو نوعٌ من الإدمان، ولكنَّه إدمانٌ على شخصٍ ما في حياتنا لم يكن من قبلُ في حياتنا، وهذه المعرفة مهمَّة لتستمرِّي في البُعد والانشِغال، وعدم الالتفات للوَساوس والآلام.
مستقبلاً، وفي المستويات الدراسية القادمة – إن شاء الله – إذا وجَدتِ في جدولك الدراسي منهجًا أقوم بتدريسه ، وكان هناك مجالٌ للحذف والإضافة وتغييرتلك المناهج، فلا تتردَّدي أبدًا في تبديلها بأستاذٍ آخَر، أو تأجيل المادة الدراسيَّة لفصلٍ دراسي آخر، من أجل قلبكِ وصحَّتكِ ودراستكِ، ولكي تبقى صورتكِ كطالبةٍ متفوِّقة كما هي في ذِهن أستاذكِ!
ولا تضيِّعي تفكيركِ أيتها الغالية في الأوهام والتخيُّلات المستحيلة، إلاَّ أن يكون هذا الأستاذ يُبادلكِ الحبَّ حقًّا، وعندئذٍ يجب أنْ أكون رجلاً وشهمًا وشجاعًا وأتقدم لخطبتكِ؛ فقد صحَّ عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قولُه: ((لم يُرَ للمتحابين مثلُ النِّكاح))، وهو كمال الوصال الذي أباحَه ربُّ العالمين كما سمَّاه ابن القيِّم – رحمه الله تعالى – وإذا كنت رجلاً بحق فأنا لست بحاجةٍ للتحري عن الطريقة التي يفترض لأيِّ رجل مسلم عاقل بالغ أنْ يُقدِم عليها لخطبة امرأة يحبُّها، أليس كذلك؟! وعدا ذلك فأنا والله لاأ ستحقُّ منكِ أكثر من احترامك وتقديرك كأستاذٍ في الجامعة ليس إلا.
أُذكِّرك أخيرًا أنَّني هنا لا أسعى لإطفاء جَذوة الحب في قَلبكِ؛ فهذا ليس بمقدوري كبشرٍ، ولكنْ للتخفيف قليلاً من ثِقل الحب على قلبكِ الصغير؛ كيلا تنطفئ شُعلة الفتاة المتفوِّقة في داخلكِ، وستتكفَّل الأيام والسنوات بباقي المهمة، فلا تهتمي.
دومي بخير، واسلمي من كلِّ شر.
(( للحكاية تتمة ))