.. في تلك اللحظة الحرجة من حياتي كانت الافكار تزدحم برأسي وثمة من يطلبني الى الموت ! .. انه القدر الذي وضعني في موقف لن أحسد عليه ، البنت التي من المفترض أن تغير مجرى حياتي مصابة بمرض عضال وانا بين الموت والحياة لاتنقذني وإياها سوى رحمة الله وكرمه ، بعد ذلك المشهد الدرامي المؤثر أعادوني الى غرفة الإنعاش وجعلوا حولي حراسة مشددة كي لا يتكرر ذلك المشهد فمن المحتمل ان تكون فيه نهايتي بلا شك حسبما صرح به الطبيب الإستشاري الذي شخص حالتي قائلا : أنه حالة من الإنهيار العصبي الذي يؤدي بالتالي الى عواقب وخيمة !.. مر يوم طويل وانا راقد في المستشفى ، وفي المساء جاءتني السيدة ام غفران لتخبرني عن تحسن حالة البنت لكن الاطباء منعوها أن تغادر السرير على الرغم من إلحاحها كي تراني سيما وإنها عرفت من السيدة والدتها تدهور حالتي الصحية بسببها ! وإنها – أي غفران – مابرحت تبكي وتتوسل بكل من تراه كي تحظى برؤيتي ولو لثوان معدودات لكن الامر تم رفضه ووضعت تحت الحراسة هي الأخرى وكأننا متهمين بجريمة من الجرائم الكبرى ! فسبحان الذي يعلم ونحن لانعلم ! .. في الساعة السابعة من مساء يوم الجمعة شعرت بأن حالتي الصحية قد تحسنت لذا طلبت الطبيب المشرف على حالتي ولما حضر رجوته أن يأمر بأخراجي كوني قد تحسنت ! واخبرته بأني رجل غريب ومرتبط بدوام وفق عقد رسمي بين حكومة بلدي وحكومة الدولة المضيفة ، وإدارة الجامعة لاتدري بما حصل لي ولا أريد أن أكون ثقيلا عليها رغم إني أتمتع بالتأمين الصحي وفق العقد المبرم .. إبتسم الطبيب وقال : ليتك تمهلنا لصباح الغد لنتأكد من إستقرار ضغط الدم لاسيما وان حضرتكم قد فقد الكثير منه ! فقلت له : دكتور ! هل إن حضرتك تخشى عليَ من الموت ؟ فقال : بالتأكيد ! قلت لاعليك وأنشدته شعرا :
ألا موت يباع فأشتريه … فهذا العيش ما لا خير فيـــــه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي … يخلصني من العيش الكريه !
إذا أبصرت قبرا من بعيدٍ …. وددت لو أنني مما يليــــــه !
ألا رحم المهيمن نفس حرٍ … تصدق بالوفاة على أخيــه !
ولما سمع الطبيب الشعر أدمعت عيناه ، ثم اطرق برأسه قليلا وقال : ماهذا التشاؤم استاذ ؟ أنت في عمر الشباب ، وما الذي مررت به سوى إختبار رباني أرجوأن لاتفشل فيه ، ولقد عرفت عنك اشياءً سارة فلا تجعلني أغير رأيي فيك ! فقلت له : غير رأيك أو لاتغير فلا يهمني ، اما ان ترفع الحراسة عني أو تأمر بخروجي من هنا وعلى مسؤوليتي ، وانا على إستعداد للتوقيع على تعهد خطي بذلك أجعل المسؤولية كلها على عاتقي ، إبتسم الطبيب وقال : حاضر فقط إمهلني ساعتين لكي أكون مطمئنا أكثر ! طيب أخي ممكن رفع الحراسة فانا أشعر بأني قد وضعت في زنزانة ولست في مستشفى ؟ .. بعد تفكير طويل ، طلب الطبيب من عناصر الأمن مغادرة غرفتي لكنه أخبرني بلغة الأطباء : إياك والانفعال لأنه سيضر بصحتك حينها لا ينفعك حرصي وحرص المستشفى ولا عذر لمن أنذر ! فقلت له : تحت أمرك دكتور سأتجنب الانفعال وسأحاول ضبط أعصابي ، وليتني أستطيع !! .. بمجرد أن غادر الطبيب وعناصر الحماية طلبت من الممرضة أن تستدعي السيدة ام غفران ، وحين جاءت قلت لها : خذيني اليها ، وهنا تدخلت الممرضة قائلة لا يجب ان تتحرك حسبما أمر الطبيب إلا على كرسي متحرك ! فقلت لايهم ، كرسي كرسي المهم أن ارى غفران لأني لو لم أرها في هذه اللحظة سأموت فعلا وذنبي برقبتك ورقبة الطبيب ! .. بعد فترة وجيزة أحضروا كرسيا متحركا ووضعوني فوقه بصعوبة ، حقا كانت قواي منهكة ولم
أتمكن من الوقوف ! فأوصلتني الممرضة – جزاها الله خيرا – الى غرفة غفران التي كانت في وضع أتعس من وضعي والدموع قد رسمت خطوطا على صحن خديها الاسيلين ! وحين رأتني مقبلا حاولت النهوض فرجوتها أن تبقى كما هي وطلبت من الممرضة أن تقربني منها قدر المستطاع وحين أقتربت مدت غفران يدها ولسان حالها يقول : خذ بيدي ، دعني أشعر بالأمان ، إقترب مني لأسمع دقات قلبك وهي تعزف الحانا بأسمي وحدي ، مالذي حصل حبيبي ، ولماذا نلتقي بهذه الظروف ؟ اما كان من المفروض ان نكون أنا وأنت في حديقة غناء تحيطنا الزهور والبلابل بدلا من الأدوية ورائحة المطهرات التي كادت ان تقتلني ؟ قلت لها وانا ممسك بيدها : أنه أمر الله حبيبتي ولا إعتراض على أمره فهو سبحانه أعلم بحالنا !
أبكي فما أنفع مافي البكا … لأنه للوجد تسهيـــــــــل !
وهو إذا أنت تأملته …. حزن على الخدين مطلول !
الله عليك حبيبي ، أشعر بان الدنيا ترقص من حولي رغم آلامي وأوجاعي ، هيا اسمعني المزيد حبا بالله :
أموت ولا أدري وأنت قتلتني …. ولو كنت تدري لاشك ترحمُ
أهابك أن أشكو اليك صبابتي … فلا انا أبديها ولا أنت تعلم !
لساني وقلبي يكتمان هواكم …. ولكن دمعي بالهوى يتكلــم !
وأن لم يُبح دمعي بمكنون حبكم .. تكلم جسمي بالنحول يترجم !
أهو حب ام عطف ؟ ماهذا التحول المفاجئ ؟ لا والله ليس عطفا ، لكنك أيتها الملعونة دخلتِ بين ضلوعي رغما عني ، ولا مهرب منك إلا إليك ! .. غفران ! نعم ياعيون غفران ! هل تقبليني زوجا لك ؟ فقالت : لا ! لا أقبل .. ولماذا ؟ فقالت لا أريدك ان تتعذب بسببس فربما حالتي ميئوس منها ! .. حبيبتي لاجرم انما تقوليه هو خير دليل على حبك وانا موافق على كل ما أنت فيه وسانذر عمري كله لك ولا أدخر وسعا ولا جهدا من أجل شفائك التام ، لنؤجل هذا الموضوع فقد سمعت من الطبيب ان المستشفى سيرسلني الى أميركا على نفقة وزارة الصحة ، فهناك فرص الشفاء أكبر ..
.. مرت ساعتان وكأنهما لمح بالبصر وانا جالس بلا حراك ومنصدم من عدم رغبتها بالاقتران بي ، لكني أدركت انها فتاة أكبر من عمرها بكثير ! في هذه اللحظة جاء الطبيب الإستشاري وطلب مني العودة الى غرفتي فرفضت ، فقال : أرجوك عد الى الغرفة ليتسنى لنا تقرير خروجك من عدمه ، رفضت مرة اخرى ، وهنا صاحت غفران : رجاء دكتور أتركه معي فهو بصحة جيدة ، وليتك تأمر بخروجنا نحن الإثنين ! .. إمتعض الطبيب من إجابتينا وراح يدندن بكلمات غير مسموعة لكني تمكنت من سماع جملة منها حيث قال فيها : ( والله عال ! المستشفى تحول الى صالة للرومانسيات ) .. ثارت ثائرتي وقلت للطبيب : أرجوك إلزم حدودك وهيا أخرجني من هنا قبل ان أرتكب عملا أحمقا يبدو إنك بلا قلب أو ان مهنة الطب اكسبتك غلظة من خلال تشريح الجثث وإجراء العمليات .. ولكن استاذ ! صه ولا كلمة اخرى هيا أخرجني ولا تتفوه بأية كلمة .. أيدتني غفران وقالت وانا أيضا ! لكن الطبيب قال : أنتِ لا ، ولماذا ؟ فقال بإنتظار الأمر الوزاري بإرسالك الى أميركا لاستكمال العلاج . بعد حوالي الساعة جاء الطبيب بورقة وقال هيا وقع وأخرج على مسؤوليتك ، وفعلا تناولت القلم بيدين مرتعشتين ووقعت على حريتي !! .
وبقيت في المستشفى حتى صلاة الفجر ليوم السبت ، أديت الصلاة في مسجد المستشفى وعدت مسرعا الى غفران ، غفران ! نعم ، اسمحيلي بالخروج لآخذ اجازة وأعود اليك ، كلا حبيبي أرجوك لاتدمر مستقبلك من اجلي ! ولكن غفران ، لا عليك فأمي موجودة معي وإن احتجناك سنتصل بك ، رأيت ان كلامها منطقيا ولكن هل سأتمكن من الوقوف لمدة ساعتين
متواصلتين وانا بهذه الحال ؟ وهل يمكنني أيصال مادة الدرس الى الطلاب ؟ هل سأكون موفقا ؟ ظلت هذه الاسئلة تدور في رأسي حتى كادت ان تحدث زلزالا ! .. خرجت من المستشفى على مضض ومكره عليه ، فتوجهت الى بيتي وأخذت حماما ساخنا وتناولت فنجان قهوة بعدها بفترة ذهبت الى الجامعة ، وحين جاء زملائي إنتبهوا لحالتي المتدهورة ووجهي الشاحب فقال أحدهم : سلامات أراك على غير مايرام ! فقلت له : لاعليك مجرد وعكة خفيفة وستزول ! فقال : انت ترتجف ولا تقوى على الكلام فكيف ستواصل التدريس وهل لك القدرة على الوقوف وانت بهذه الحال المزرية ؟ هيا قم معي الى طبابة الجامعة ليراك الدكتور ! .. إرجوك استاذ .. انا من يرجوك هيا قم معي ، أخذني الاستاذ الدكتور صالح الى العيادة وطلب مني الطبيب التمدد على سرير الفحص ، وراح يعبث بجسدي كيفما يحلو له مرة بالسماعة ومرة يدخل خشبة في فمي وثالثة يفحص الضغط حتى مللت من إجراءاته العقيمة .. وهنا قال : يجب أن تستريح لمدة 72 ساعة بعد ان تأخذ هذا العلاج وإن لم تتحسن لابد من دخول المستشفى لأن ضغط الدم عندك غير مستقر ! .. مستشفى مرة أخرى ؟ أرجوك دكتور قل لي شيئا غيره هل إن حالتي متدهورة وأنا لا أدري ؟ لا أخفيك سرا إنها كذلك ! هل تعرضت لصدمة ما ؟ .. إنها قصة طويلة .. شكرا دكتور .. مع السلامة .
عدت الى بيتي وانا خائر القوى متعب الأعصاب أكاد اجن .. إتصلت بالسيدة أم غفران مستفسرا فقالت : حالتها مستقرة الآن وهي نائمة ونحن بأنتظار الأمر الوزاري .. طيب الآن سآخذ قسطا من النوم علني أفيق مما أنا فيه ، لو حصل شئ بالله عليك أتصلي بي .. حاضر ساتصل .. بمجرد أن القيت الهاتف من يدي رحت في سبات عميق وغبت في عالم غير عالمي ولم أفق الا في الساعة الثالثة عصرا . بحثت في جهاز الهاتف عن مكالمة فائتة فلم أجد فحمدت الله وقلت في نفسي لو كان هناك شيئا لاتصلت بي السيدة أم غفران ،،وعدت الى النوم مرةاخرى !! لم يمر وقتا طويلا حتى رن الهاتف معلنا صوت السيدة أم غفران وهي تصرخ تارة وتبكي تارة أخرى : النجدة استاذ الحقني أرجوك !! حبا بالله مالذي حصل ؟ فقالت غفران دخلت في غيبوبة وأدخلوها الى غرفة الإنعاش ، حينها أرتعد جسمي كله وخارت قواي وسقطت على الأرض فتمكنت من الزحف صوب الباب وأخذت بالصراخ : النجدة النجدة .. وفجأة احتشد الجيران الذين حملوني جزاهم الله خيرا وحاولوا أدخالي الى بيتي فرجوتهم ان ينقلوني الى المستشفى الحكومي ، وفعلا وضعوني بسيارة أحدهم وإنطلقوا الى المستشفى ، وحين وصلنا رأيت دربكة وفوضى تعم المكان ، عرفت أن غفران قد وافتها المنية على الرغم من أن لم يخبرني احد لكن قلبي قال لي : إنتهى كل شئ . ياربي ماهذه المصيبة أرجوك ساعدني لأقف على قدمي اللهم بحق اسمائك الحسنى ساعدني في الوقوف ! رجوت الجيران أن يحملوني الى غرفة غفران فحملوني لكني وجدت السرير فارغا وحين سألت عنها قالوا : إنها في ثلاجة الموتى !! في هذه اللحظة رأيت أم غفران وهي تبكي وكانت كما يبدو تبحث عني .. رمت بنفسها نحوي وقالت : ماتت غفران ماتت غفران . لم تكد تنهي حديثها حتى رحت في غيبوبة لم أفق منها إلا وانا واقف امام قبرها :
ظفر الشوق بقلب دنفٍ …. فيك والسقم بجسم ناحلِ
فهما بين إكتئاب وضنىً …. تركاني كالقضيب الذابلِ
وبكى العاذل من رحمته … فبكائي لبكاء العــــــــاذل ِ
عش فحبيك سريعا قاتلي .. والضنى إن لم تصلني واصلي!
غفران ردي أرجوك جاوبيني .. سحقا لك ايها التراب وتبا . وحمدا لك ربي وشكرا .. الموت هو سلطانك على عبادك وانت أرحم الراحمين .. اللهم تولاها برحمتك ، وتجاوز عن سيئاتها وأغسلها بالماء والثلج والبرد وأعني وامنحني صبرا جميلا .. يا أرحم الراحمين