18 ديسمبر، 2024 5:57 م

المشهد الأمريكى من الإثارة بحيث بات من الصعب تجاهله. ولدارس العلاقات الدولية فإن الموضوع جذاب، ودائما سريع الإيقاع، ومن يشاهد القنوات الإخبارية الغربية، هذه الأيام، سوف يجد أنه لم تعد هناك موضوعات أوروبية بحتة، طالما أن كل ما يجرى من انتخابات أو تحركات سوف يختلط طوال الوقت، بما يحدث، عبر المحيط الأطلنطى. فلم يكن متصورا عندما بدأت الدورة الأخيرة للانتخابات الرئاسية الأمريكية أنها سوف تختلف عن الدورات السابقة، من حيث الجوهر على الأقل، ليس فقط لأن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وإنما لأن التقاليد الديمقراطية أصبحت أقوى من شخصيات المرشحين، ومن نوازع الأحزاب السياسية، والتقلبات التى تجرى من وقت لآخر فى الرأى العام. عند هذه اللحظة من الدورة، أى بعد ٥٠ يوما من تولى الرئيس الجديد للحكم، فإن الاهتمام بالرئاسة الأمريكية يشحب، ويبدأ العد التنازلى لمرور المائة يوم الأولى، وبعدها يبدأ الحساب الذى ربما لا يقطعه إلا مناوشات الأحزاب عند تصديق الكونجرس على المرشحين للمناصب العامة الكبرى. دونالد ترامب لم يكن مرشحا عاديا، كما ذكرنا من قبل مرارا، أيام المتابعة للانتخابات التمهيدية، ومن بعدها الانتخابات العامة، وهو كذلك لن يكون رئيسا عاديا، وإذا كانت هناك ضرورة من وقت لآخر للتأكيد على دور الفرد فى التاريخ، فإن الرجل يؤكد هذه الحقيقة بشدة. ويظهر ذلك من الطريقة التى يدير بها الحكم أو مظهره فى الإدارة (Style)، وفى مضمون ما يقوم به من سياسات، فعلى الجانبين، المظهر والجوهر، فإن حكايات الرئيس الأمريكى كثيرة، وهى فى أغلبها زاعقة ومثيرة.
فربما لم يحدث فى التاريخ الأمريكى للرؤساء أن انتقلت أسرة الرئيس إلى البيت الأبيض، ليس للوجود إلى جانب الرئيس من قبل زوجته وأولاده، وإنما للحكم كما يحدث فى الأسر المالكة التى يلعب فيها الأمراء والملكة أدوارا مؤثرة. وخلال الحملة الانتخابية لعبت أسرة ترامب دورا رئيسيا ليس فقط، من خلال تشجيع رب الأسرة على الفوز، أو لعب دور المساند بالحديث عن فضائله فى المحطات التليفزيونية أو فى المهرجانات الانتخابية، وإنما باعتبارهم مستشارين للمرشح الرئاسى يحددون الأولويات، ويضعون الاستراتيجيات، ويرشحون المعاونين. هؤلاء جميعا جاءوا إلى البيت الأبيض بنفس الصفة والفعالية، ليس فقط لأن «كوتشنر»، زوج الابنة إيفانكا عين بالفعل مستشارا للرئيس، وإنما لأن الأبناء والزوجة يقومون بأدوار رئيسية فى اختيار المرشحين للمناصب المختلفة، كما أنهم مع «ستيف بانون»، مستشار الرئيس للشؤون الاستراتيجية، يشكلون «الضمير» الأيديولوجى والفكرى للرئيس.
مثل هذا التواجد يخلق نوعا من التقاليد غير المعتادة فى الأسرة الرئاسية، فبدلا من ترحال الرئيس والأولاد إلى منتجع «كامب ديفيد» الرئاسى، فإن أسرة ترامب تنتقل بكامل قوامها إلى فلوريدا، حيث يوجد المنتجع الخاص بترامب، الذى يعنى أن من حوله سوف يكونون على الأغلب من رجال الأعمال الذين يشاركونه لعب الجولف وغرامه الكبير بأكل اللحوم. «مالانيا» زوجته السلوفينية هى الأخرى لديها طقوسها الخاصة، فهى لا تفضل التجمعات العلنية التى تدفعها إلى الحديث بلهجتها الأجنبية، وإنما الاجتماعات المغلقة مع زوجات رجال أعمال أيضا.
ورغم أن رؤساء سابقين كانت لهم أيضا منتجعاتهم الخاصة، فإنها لم تكن هى المنتجع الرئيسى، وإنما كامب ديفيد، وكذلك فإن الصحبة كانت فى معظم الأحيان من العاملين فى الإدارة، أما ترامب فإن الصحبة غلب عليها الأقرباء والأولاد وزوجاتهم. على أى الأحوال، فإن «النميمة» الخاصة بترامب وأسرته لم تأخذ مركز الحكايات فى واشنطن، وإنما ظلت الحكاية الرئيسية هى علاقة ترامب بروسيا ورئيسها فلادمير بوتين.
القصة بدأت أثناء الحملة الانتخابية عندما مدح المرشح للرئاسة الرئيس الروسى، وأكد على حقيقة إمكانية التفاهم معه على قضايا كثيرة، وبعد ذلك ظهر أن هناك الكثير من التشابكات التى جرت بين أعضاء الحملة الانتخابية لترامب وعناصر روسية بعضها دبلوماسى، وبعضها الآخر من دوائر الأعمال، وهناك بعض آخر قد يكون له علاقات بأجهزة المخابرات الروسية.
المسألة هكذا باتت مزعجة خاصة أنها أدت إلى الإطاحة بمستشار الرئيس لشؤون الأمن القومى، حتى قبل أن يجف الحبر الذى كتب به خطاب تعيينه، وكادت العلاقة تؤدى إلى الإطاحة بالمدعى العام الذى بذل الجمهوريون جهودا فائقة لكى يمر تعيينه من الكونجرس. المسألة كلها لا تتعلق بما بات معروفا، وإنما ما لم يتم كشفه حتى الآن، لأنه لا أحد يعلم المدى الذى ترتبط به أعمال ترامب العالمية بالرفاق فى موسكو، سواء كانوا من رجال الأعمال أو غيرهم.
«القصة الروسية» هنا تعيد إلى الأذهان أن ترامب لم يكشف عن موقفه الضريبى الذى منه يمكن التعرف على المدى الذى وصل إليه التشعب فى أعماله، والمصالح المختلفة التى تركت الباب مفتوحا للتخمين والشك. والمثير فى الأمر أن «المسألة الروسية» تبدو كما لو كانت نافذة كبيرة للمفارقة بين الرئيس وكبار معاونيه، لأن وزير خارجيته «تليرسون» ووزير دفاعه «ماتيس» ومستشاره الجديد للأمن القومى «ماكماستر»، جميعهم يعتقدون أن روسيا هى الخصم الاستراتيجى الأول للولايات المتحدة. هل تتفتق هذه المفارقة بين الرئيس وأعوانه عن خلافات لا تزال فى طى التاريخ، ولكن التربص بها وما فيها من حكايات مطروحة طوال الوقت.
بجوار قصة أسرة ترامب، وقصة علاقته الخاصة بروسيا، فإن القصة الكبرى والأكثر زعيقا، فهى تلك المتعلقة بالإعلام. ورغم أن كافة المراقبين يشهدون لترامب بالقدرة الفائقة على استخدام الإعلام، سواء كان ذلك من الناحية الشخصية، من خلال الانتظام فى إرسال الرسائل القصيرة على «التويتر» حتى فى ساعات الفجر الأولى، فإن الرجل كان متاحا طوال الوقت لكل من يعطيه وقتا من الإعلاميين على كافة الوسائط، ومن كافة الاتجاهات فى اليمين أو فى اليسار.
وربما كان ترامب أكثر من حصل على الوقت فى الشبكات التليفزيونية الإعلامية الكبرى، وكان ما حصل عليه مجانا، فكانت حملته الانتخابية الأقل تكلفة فى تاريخ الحملات الانتخابية الرئاسية. الآن فإن العلاقة بين ترامب والإعلام أخذت منحى آخر يتصف بالخصومة والعداء، بعد أن جعلها عدوا للشعب الأمريكى، وحزب «المعارضة» الأصلى وليس الحزب الديمقراطى.
وفى التاريخ الأمريكى لا توجد أحداث كثيرة تماثل ما فعله ترامب مع «الميديا» بكافة أنواعها، أو قام بمنع شبكات تليفزيونية رئيسية من الحضور إلى مؤتمراته الصحفية، أو شهر بها علنا، باعتبارها كاذبة ومضللة للشعب الأمريكى. وفى الوقت الراهن فإن المواجهة بين ترامب والإعلام، وخاصة مع شبكة السى. إن. إن، توحى بأن القصة لم تنته بعد، بل إنها على الأرجح فى بداياتها الأولى. ولكن المشهد الافتتاحى للقصة يشهد للرجل بالقدرة على وضع من يراهم خصومه فى موقف الدفاع، وهو ما لا يفعله فى مواجهة الإعلام فقط، وإنما يمتد إلى مؤسسات أخرى، مثل المخابرات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيق الفيدرالى، وحتى الحزب الجمهورى والكونجرس.
باختصار: فإن ترامب صار ظاهرة حققت نجاحات كبيرة حتى الآن، فرغم كل شىء، فقد نجح فى تمرير من أراد تعيينهم فى إدارته بغض النظر عن سقطة «فلين»، مستشاره لشؤون الأمن القومى، ورغم التناقضات الكبيرة فى موقفه من روسيا إلا أنه حتى الآن ما زال محتفظا بقوة اندفاعه. وعلى من سيزورون واشنطن من القادة العرب أن يدرسوا الرجل جيدا نفسيا وسياسيا!.

* نقلاً عن “المصري اليوم”