23 ديسمبر، 2024 10:39 ص

حكايات عراقية 9 / لا تشتري العبد الا والعصى معه ، ان العبيد لأنجاس مناكيد !!

حكايات عراقية 9 / لا تشتري العبد الا والعصى معه ، ان العبيد لأنجاس مناكيد !!

في قاموس لغتنا المحكية مفردات لها دلالات خاصة ربما غير موجودة في الثقافات الأخرى، نتحدث هنا عن المفردة (تِكرَم) أو (مكـّرم السامع)، وهي تسبق ألفاظا بعينها، أو ذكرا لأشياء مُحْقرة أو مذمومة، منها على سبيل المثال بعض من صنوف الحيوانات، كقولهم (تِكـْرم كلب) أو (مكرّم السامع حمار)، رغم اننا لم نجد من سبب وجيه لإحتقار هذه المخلوقات الوفية والنافعة أكثر بكثير من بشر أضروا بتاريخ البشرية.
بهذه المقدمة ندخل الى ملوثة اخرى من ملوثات وأدران ثقافاتنا البدوية، ففي الوقت الذي ندعي فيه – ونحن أمة دعيّة على الدوام – أن أرثنا الجمعي يحفظ آدمية الجميع، وأننا أمة سمحاء لا تفرق (بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)، وأننا إنسانيون بخلاف كل أمم الأرض (الكافرة)!، نجد ان إرثنا (الإنساني) هذا متخم بصنوف من العنصرية والتفرقة والحط من قدر الآخرين، واننا مازلنا الى اليوم متمسكين بتلك الملوثات، بل وتشكل عندنا بعض من ثوابت راسخة في سلوكنا وطباعنا وعاداتنا البالية.
لا أدري أن كانت في الأرض أمة أخرى تشاركنا نظرتنا الأزلية الى أهلنا من الزنوج العراقيين، ففي الوقت الذي ندعي فيه – ومازلنا أمة دعية – تعاطفنا ومناصرتنا ودفاعنا عن حقوق الزنوج الذين كانوا يواجهون عسفا جراء سياسات الفصل العنصري في العالم الغربي، وننعت الغرب بنعوت قاسية من أنهم غير إنسانيين ووحوش إلخ، تجدنا في حقيقة الأمر أكثر شعوب العالم عنصرية عندما يتعلق الأمر بالزنوج العرب، ذلك أن بعضنا مازال حتى الساعة يطلق عليهم بلا حياء ولا خجل اللفظ (عِـبيد)، وعلى المرأة سوداء البشرة لفظ (عَبدة)، بل ما هو أكثر إيلاما وعنصرية ولا إنسانية إستخدام بعضهم اللفظ (تكرم عبيد) أو (مكرم السامع عَبدة).
عام 2007 ألتقيت ببعض السادة العراقيين (من ذوي البشرة السوداء) وكانوا بصدد تشكيل تجمع خاص بهم لمطالبة الجهات التشريعية من أجل تخصيص كوتا إنتخابية تمثلهم، إسوة ببقية إثنيات وأقليات العراق، وقد إستفاضوا في تقديم تبريراتهم وقناعاتهم – التي لم أجد من غبار عليها – من أنهم يواجهون تفرقة عنصرية !.
سأستعين بحكايتي التالية لتبسيط موضوع مقالنا هذا ولفضح هذه اللوّثة الأخلاقية التي يتجاهلها البعض أو غفل عنها :
قبل سنوات أجريت حوارا صحفيا مع أحد أئمة المساجد فتكونت بيننا في إثرها أواصر صداقة ومودة بمرور الوقت، وذات يوم زارني أحد الأصدقاء ممن يعرفون علاقتي بهذا الإمام، وكان بصحبته شاب أسود البشرة، وكان هذا الأخير غاية في الأدب والوسامة والكياسة، يعمل مهندسا معماريا في القطاع الخاص، وتبين لي في النهاية أن هذا الشاب الأسمر تربطه علاقة حب مع زميلته في العمل وأن أباها هو إمام المسجد (صديقي)، طالبا أن أتوسط له ليقف على رأي الأب قبل أن يبعث وفدا لخطبة إبنته، فوافقته وتمنيت ان انجح في هذا المسعى.
بعد يومين كنت في ضيافة الإمام، وفي نيتي أن اصل الى موافقته من خلال مقدمات وسِجال مُبيّت، فأتيت على سؤاله حول نظرة ديننا الحنيف الى الزنوج، فإستفاض الرجل في حديثه عبر آيات قرانية واحاديث نبوية وشواهد وقصص كلها تثبت وتؤكد على التسامح والمساواة بين بني البشر وخصوصا (ابناء الامة الاسلامية)، معنفا العالم الغربي ومتهما اياه بالعنصرية واللا انسانية، فقلت له : (أنني اسمع من الكثيرين ان العالم الغربي قد تجاوز ذلك من سنين وهم اليوم أكثر تراحم وإنسجام مع بعض، ويقولون ان الزنوج عندهم اليوم مكرمين بدلالة التصاهر المستمر معهم، فالزواج بين الطرفين صار مسألة إعتيادية فتجد إمرأة بيضاء حسناء تتزوج من زنجي، ورجل أبيض متزوج من إمرأة زنجية)، فقاطعني بالقول : (هذه دعايات اعداء الاسلام)، فقلت له : (بصراحة يا شيخنا أنني شخصيا لم أصادف في بلدي طوال حياتي سوى حالتين تزوج فيها عراقي أبيض البشرة من إمرأة زنجية، بل وحتى في هذه الحالتين كان يطلق على ذلك الرجل (زوج العَبدة) وعلى أبنائه (أولاد العَبدة) وينظرون له نظرة فيها نوع من قلة الإحترام، فرد عليّ باستنكار: (أعوذ بالله، هؤلاء جهلة لم يتعلموا من دينهم شيء)، ومضى ثانية في سرد الآيات والأحاديث ووصايا الخلفاء والصحابة وكيف ان الله يكرم ويبارك كل من يقدم على مثل هذا الزواج!)، فسألته : (وهل يتوجب علينا ان نوافق على تزويج بناتنا لرجال من العبَيد يتقدمون لهن؟) فرد عليّ بحدة : (أولا حرام عليك القول – عبيد – فالرسول الكريم نهانا عن ذلك، ثانيا لماذا لا نوافق اذا كان الرجل على خلق وعنده مخافة الله وطاعة رسوله والبنت غير معترضة)، فحمدت الله في سري وقلت له : (يا شيخنا الجليل أنا جئتك وسيطا لشاب مهندس أسود البشرة غاية في الادب والاحترام وأنت تعرفه فهو زميل لكريمتكم المهندسة في عملها، وسيشرفه أن يتقدم لجنابكم لخطبتها ….. تجهّم الرجل وأسقط في يديه وصمت للحظات، مخفيا تبرمه … ثم قال : (أنت فاجأتني … نعم أعرفه … لكن أبنتي راسها يابس ورفضت قبل هذا أكثر من عريس …. دعني اتشاور مع الاهل وأدرس الامر … ويصير خير إن شاء الله).
بعد يومين من لقائنا اتصل بي الشاب المهندس ليخبرني (ان زميلته قد تركت عملها في الشركة بناء على أوامر من ابيها!!)، فيما حاولت أنا عدة مرات الاتصال هاتفيا بالأب الامام لكنه امتنع عن الرد !.
هذه بعض من الإزدواجية التي اشتهرنا بها، فكل معايير سلوكنا مزدوجة ومعظم أنشطتنا الحياتية تتألف من شقين متناقضين، وعندي أننا أكثر من غيرنا تعاليا على سوانا، وأننا أكثر عنصرية وجلفا وتحقيرا للآخرين، واننا ننام على دستٍ من الأباطيل، أولسنا من تربينا على تسفيه الأعراق الأخرى ونضعها موضع سخرية أو تعنيفٍ وسوءٍ أو إتهامٍ بالغباء والجهل وعدم الفطنة والشرذمة؟ من منا لم يستخدم اللفظ (أنت أكبر هندي) أو (شافنة سود عباله هنود) …. في أي خانة نضع هذا السلوك؟ ألا يعد تحقير الآخرين سلوكا عنصريا ولا أخلاقيا؟.
المفارقة المبكية في هذا اننا نحن المتخلفين أطوارا نستخف بأبناء بلد عظيم مثل الهند المتقدم علميا وصناعيا وتكنولوجيا !!. 
هناك لوثة أخرى أكثر إيلاما من كل ما ذكرناه، وأيضا نتفرد بها عن كل أمم الأرض،  تؤكد هي الأخرى على جلفنا وعنصريتنا، وربما لم يتنبه اليها أحد، ذلك اننا نستخدم (بياض الوجه) للدلالة على الفعل المحمود أو البشارة الحسنة أو الفوز والنجاح، أو المقام اللائق والمرموق …. كقولك (الله يبيّض وجهك إن شاء الله) وفي هذا إشارة الى أن (الوجه الأسود) دالٌ على السوء … وقولك : سأبعث بك للمهمة كذا ، أو سأقبل وجودك في العمل كذا، وأريدك أن (تبيض وجه)، وقولك ستدخل الإمتحان ونريدك أن (تبيض وجهنا)، وهذه كلها دلالات على أن الوجه الأسود مبعث شؤم وفشل ووضاعة ودناءة وخلق غير حسن، وأيضا قولك لضدك : سوّد الله وجهك !، أو فلان طلع بوجه أسود، الى آخر القائمة من الأمثلة التي لا نهاية لها، وكلها توصم الإنسان أسود البشرة بكل سوءات الدنيا وتذكـّر بمقامهم كـ (عبيد)، بل هناك ما هو أبعد من هذا عندما يتعلق الأمر بسمعة الزنوج والطعن بأخلاقهم، كقولك : أن فلان سمعته (بيضة)، وآخر سمعته سودة !.
تصوروا معي كم نحن موغلين في العنصرية، وكم نحتاج من سنين لـ (تبييض) ذواتنا الفاسدة هذه ؟ خصوصا وإننا متعودين على استخدامها من عشرات القرون، وكنت قد إتصلت بأصدقاء من حول العالم لأتأكد من معلومتي هذه ومن إيغالنا في هذه السموم لوحدنا، أحدهم في كندا والثاني في نيوزيلندا والثالث في ألمانيا، والثلاثة أكدوا لي أنه لا يوجد إطلاقا ما يقابل هذه الخصوصية السافلة (تبييض الوجوه) في ثقافات الشعوب الأخرى، بل أكد لي صديقي الكندي من أن القانون يعاقب على أي لفظ فيه إشارة أو إستعارة أو تلميح فيه طعن بعنصر بشري !!.     
ألسنا من يفاخر ويتفاخر بموروثنا الشعري الذي يحط من قدر سوانا من البشر، ومن قدر بعضنا لبعض؟ وهي كثيرة لا تحصى ولا تحسب، ليس أقلها قول المتنبي (لا تشتري العبد إلا والعصى معه … إن العبيد لأنجاس مناكيد) !!.
هل علينا الاكتفاء بما ندعيه من أننا إنسانيون ومتسامحون ورحماء مقتدين بتعاليم الدين وسير الأنبياء والأئمة والصحابة، في وقت يشي فيه واقعنا بما لا علاقة له بذلك الادعاء؟ …. أم علينا مراجعة مسالكنا الحياتية وتشخيص اورامها الخبيثة وتخليص ابناءنا من الاجيال الصاعدة من مخاطرها وتداعياتها، والتعلم من المجتمعات المتحضرة كل ما هو انساني ونبيل وشريف من القيم الاخلاقية التي كانت – حتما – السبب وراء تجاوزهم لمحن الصراعات والفتن العنصرية والتفتت الوطني والتخلف والتردي ؟. 
[email protected]