قبل سنوات كنت في مجلس ضم جمع من (الأساتذة)، ودار نقاش حول طفولة رئيس النظام العراقي السابق، وفوجئت بمداخلة أحد الحضور عندما قال (أن أم صدام كانت تبيع روبة) !!.، ولم أستغرب عندما وجدت الحضور غير معترضين على هذه المداخلة الغريبة والبعيدة عن علمية النقاش، بل إختلفوا فقط حول صحة هذه المعلومة من عدمها، كما لم يدر في خلد أحدهم السؤال (ما مثلبة أن تعمل إمرأة بائعة للبن ؟)!، أوليس في إستخدام هذه الحرفة للإهانة يعد إحتقارا وسلبا لآدمية المرأة الفلاحة التي تبيع اللبن ؟
يتفرد العرب والعراقيون منهم على وجه الوضوح، دون كل أمم الأرض بخاصية التعريض لخصومهم ومنافسيهم من خلال نوع العمل الذي يحترفونه، وهذا ديدن السواد الأعظم منا، وقد تعوّدنا سماع مثل هذه النعوت بشكل يومي ودائم حتى هذه الساعة، وأمثلة ذلك لا تعد ولا تحصى، وأشهرها على المستوى (السياسي) الهزء من نائب الرئيس الأسبق عزة الدوري بالقول (عزة أبو الثلج) وكذا أن رئيس الوزراء الحالي (بائع للمسِبَحة)!، أوليس في ذلك إحتقارا لآدمية المواطن الذي إتخذ من بيع الثلج أو المسابح حرفة يعتاش منها ؟
في صبيحة أحد الأيام من العام 1994 كنت في موقف للباصات الأهلية الصغيرة عند مدخل مدينة العامرية ببغداد، حيث يضج المكان بأصوات السائقين وكل منهم ينادي الى الجهة التي يتوجه إليها باصه، فوقع بصري على سائق لفَّ رأسه بكوفية تغطي نصف وجهه مع نظارات معتمة تغطي على عينيه وهو يصيح (باب المعظم باب المعظم باب المعظم) … ربما إعتاد الكثير منكم هذا المشهد، لكن غير المعتاد في مشهد ذلك الصباح، هو أن المنادي كان كابتن طيار في الخطوط الجوية العراقية!.
هذا ليس مدخلا للتحدث عن تداعيات الحصار الاقتصادي الذي ضُرب حول العراق وعانى العراقيون منه الأمرين، ولا للتحدث عن سياسات النظام السابق التي أفرغت العراق ولأول مرة في تاريخه من الطبقة الوسطى، يوم تحول أبناؤها الى بائعي خردة وسجائر على قارعات الطريق، بل هي مدخل لواحدة من أخطر موروثاتنا البدوية التي لم نتخلص منها الى اليوم، تلك التي تحط من قدر العمال والحرفيين وتضع من يزاولوها موضع تحقيرٍ وهزءٍ وسخرية.
إنسانيا، ليس في مشهد هذا الطيار أي غرابة، فالظرف الاقتصادي القاسي والجوع الذي نازعه العراقيون دفع معظمهم الى البحث عن لقمة عيش كريمة بشتى السبل، وكان لشيوع حالة الضنك والعوز المطرد أثره في اسقاط بعض الحرج الذي كان يمنع الكثيرين من مزاولة بعض الحرف والاعمال للتكسّب وسد رمق جوعهم، لكن السؤال هنا: لماذا هذا الحرج؟ وما المعيب واللا أخلاقي في مشهد هذا الطيار حتى يتنكر ويغطي نصف وجهه؟!، أوليس في ذلك إحتقارا للإنسان الذي يعمل سائقا عموميا ؟
أذكر هنا، أن البغداديون كانوا ومازالوا، ينعتون الثري البغدادي المعروف حافظ القاضي بـ (الحمال)، فكلما جاء أحدهم على ذكر شخصه، ينبري الحاضرون الى القول (أنه كان حمالا) دونما سبب وجيه يستدعي ذلك، والمؤكد ان إشارتهم هذه لا تعني المديح أو التوقير، بل التعريض والتحقير، أفلا يعد ذلك أهانة وحط من آدمية المواطن الذي يعمل حمالا ؟
لي تجربة في هذا المضمار، فقد عانيت شخصيا في بداية تلك السنين العجاف (أيام الحصار) من معاناة مريرة، وفيها أصبح جلنا بلا عمل، وهذا يشمل بكل تأكيد معظم منتسبي الدولة الذين كانوا يتقاضون ثلاثة آلاف دينار شهريا (ما يعادل يومها دولارا وبضعة سنتات شهريا)، وكان لي صديق يعمل مهندسا في وزارة الصناعة، يزورني اسبوعيا ولا يكف عن تقديم الأقتراحات تلو الإقتراحات لإقناعي كل مرة بفكرة عمل تخرجنا من مأزقنا، قال لي أخيرا (أن أحد أقربائه يعمل ميكانيكيا في المنطقة الصناعية، وأقترح عليه أن يسمح لنا ببيع الكبة أمام محله !!)، ولم ينسَ صديقي أن يذكّرني كل مرة من أن (الشغل مو عيب !)، مضيت أحدثه طويلا عن سجل العرب (العظيم) في هجاء الآخرين والطعن في سمعتهم من خلال الأعمال التي يزاولونها وبيّنت له بعض مما أورده الآن عن هذه العاهة اللاأخلاقية التي إبتلينا بها ……. في النهاية ذهب الرجل لوحده ليبيع الكبة.
سنأتي لاحقا لتفنيد المقولة (الشغل مو عيب)، ولكن عليّ أن أشير الى أن صديقي هذا يشغل اليوم منصبا مرموقا في وزارته، قبل ايام جاء على ذكره أحدهم بالقول (الله يرحم أيام زمان، صار مسؤول والبارحة كان يبيع كبة بالشارع !!)، ونعيد السؤال ذاته : أوليس في ذلك تحقير للإنسان الذي يبيع الأطعمة؟
أما عند بقية الشعوب فالأمر مختلف تماما، فأولئك تربو منذ البدء على المفاخرة بعملهم مهما كان حطيطا، وبشقائهم ان هم تعرضوا الى شقاء خلال مراحل حياتهم الاولى، بل يعترفون في سيرهم الذاتية بتفاصيل وأسرار يجهلها غيرهم، فعلى سبيل المثال نجد أن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قد دوّن في مذكراته تفاصيل سرية خاصة بعائلة أبيه الكبيرة، وكيف أنهم أضطروا لمرات عديدة أن يفتشوا عن طعام يسد رمق جوعهم في مقالب القمامة، ويفاخر أيضا أنهم عملوا طويلا (هو وأبوه وأشقاؤه) كأجراء مؤقتين في العديد من مزارع الفستق عبر أكثر من ولاية إميركية، لكأنهم بذلك يقدمون دروسا لأبنائهم وللأجيال الصاعدة من ان الحياة تتطلب الكفاح والصبر وتقبل الأعمال مهما دنت منزلتها، فيما تحدث أحد الفلاسفة المجددين كيف عمل منظف للصحون في المطاعم وكيف كان يتناول وجباته من فضلات الطعام المرتجع من الزبائن، أما الثري الأشهر وإمبراطور النقل البحري في زمانه (إرسطو أوناسيس) فقد دون هو الآخر في مذكراته كيف عمل طوال سنوات طفولته وصباه صباغا للأحذية فوق أرصفة الموانيء اليونانية.
عليّ التوقف هنا عند ملاحظة جديرة بالدرس، فسكان الجزيرة العربية (ونحن نفترض أنهم موطن البداوة العربية والأقرب إلى البداوة منا لعقود خلت) قد تخلوا عن هذا الأرث الجائر منذ زمن غير قليل، فيما نحن أبناء العراق (ونفترض أننا الأقدم والأقرب منهم الى التحضّر) مازلنا متمسكين بهذه العاهات البدوية المتخلفة واللاإنسانية، وأوضح مثال على ذلك أن هناك العديد من أثرياء الجزيرة العربية يتحدثون عن ماضيهم القحيط بفخر، ويخبرونا عن حيواتهم يوم كانوا عمالا أجراء، ولدينا مثالين على ذلك أحدهم الثري الكويتي المعروف (البو خمسين) الذي يفاخر أنه كان بائعا للملابس المستعملة في سوق الجمعة، أما الثاني فهو (محمد عوض بن لادن) (1) أول أثرياء الجزيرة على الإطلاق الذي كان يوما ما دائنا لدولة آل سعود)(2) وقد إشتهر عن هذا الثري أنه ظل يعلق بردعته عند مدخل مضيفه (وهو الدرع الذي يضعه الحمال على ظهره أثناء عمله)، بل جعل تلك البردعة مدلاة فوق الباب بمستوى الرأس ليذكّر كل من يدخل عليه أنه كان حمالا !!.
تعود جذور هذا السلوك المنافي للأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة (ونحن مازلنا نتحدث عن ظاهرة التعريض بأعمال الآخرين) الى الأعراف والموروثات البدوية التي مازال الكثير منها قائما في عقلنا الجمعي والفردي، برغم القرون الزمنية الطويلة التي تفصلنا عن جذورنا البدوية.
لدينا على الدوام قائمة طويلة من الأعمال (المحتقرة)، التي تحط من (القدْر والإعتبار الشخصي) عند العرب من مثل (الحمّال والحوذي والزبال والإسكافي وغيرها الكثير)، أما إذا أراد أحدهم أن يهجيك أو يعيّرك بعمل كنت إحترفته قبل هذا، فالقائمة تشمل معظم الحرف والأعمال التي يزاولها الناس، ونسمع يوميا (فلان نسى تاريخه عندما كان بياع خردة وفلان بياع نفط والآخر كبابجي وغيره مضمد!! الى آخر القائمة)، والى سنوات قريبة كانت العوائل العراقية تمتنع عن تزويج بناتهم الى الحايك والنداف وزارع الخضرة (الورقيات)، وللتذكير أيضا أن موظف الدولة العراقية، هذا الذي كان يشغل مكانة إجتماعية مرموقة في الذهن الجمعي لغاية الثمانينيات تعرض هو الآخر للتعريض بمجرد إنهيار هيلمانه أيام الحصار وساءت أحواله المعيشية، فصرنا نسمع في كل مكان (فلان خلكّـ موظف)، لكأنه وضيع متدني المكانة ويستحق الشفقة!.
في تصديه لنظرية صراع البداوة والحضارة التي وضع حججها العالم ابن خلدون إستفاض فقيهنا الإجتماعي علي الوردي في إستعراض تأثيرات ذلك الصراع على سلوكنا وطباعنا وعاداتنا، ولأن العرب كانت تفاخر بالغزوات وأعمال الإغارة والنهب وتعتبرها من علامات الفروسية والرجولة، فإنها إحتقرت من يعدل عن ذلك الى مزاولة الحرف ليتكسّب رزقه، وأخطر مثال على ذلك أن قاموسنا اللغوي المحكي يحتفظ الى يومنا هذا بمفردة (المهنة) متناسين أصولها السيئة والمعيبة، وان جذرها وأصلها قد جاء من (المهانة) و(المَهينة) و (الإمتهان) و (الإهانة) و (الهوان) ، فنعتت العرب صاحب الحرفة بـ (مُمتهن) ومهّان، كقولهم فلان مهانته حداد، وفلان إمتهن الزراعة فهو مُمْتَهن، وكلها ترمز الى (مُهان وهانت عليه نفسه)، والى ذلك تنبه أحد أعضاء المجمع العلمي العراقي في الثمانينيات من القرن الماضي وخاطب رئاسة الدولة بضرورة العدول عنها، مذكرا بأنه لا يجوز إستخدام المفردة (مهنة) في دوائر الدولة، وبدأت منذ ذلك الحين العديد من الدوائر الرسمية بإلغاء تلك المفردة وإستبدالها بكلمة (وظيفة)، وأصبحت هويات منتسبي الدولة تحمل المفردة (وظيفة) بدل سابقتها (المهنة) !، فيما لا تزال دوائر أخرى ومنها مديرية الأحوال المدنية مبقية عليها !!، بمعنى أننا نحمل هوية شخصية مثبت فيها أننا مهانون بلا كرامة.
ليس بين الأمم – بإستثنائنا – من يلفظ اللفظ الجائر والمعيب واللا إنساني واللا أخلاقي (تكرم زبال) و (مكرم السامع ركّاع) !!، وهذه قمة النذالة والسفالة.
ليس بين الأمم – بإستثنائنا – من يرى في أغلب الحرف والأعمال وسبل التكسّب حطٌّ من القدر والقيمة الإجتماعية، لذلك سنجد ان ثقافات تلك الأمم تخلو من المقولة (العمل مو عيب) !…. وعلى سبيل المثال لأو أنك قلت لمواطن أوربي أن (العمل مو عيب)، لأستغرب منك ذلك ولسألك : وهل قال لك أحد غير ذلك؟ فعندما لا يوجد بينهم من يعتبر عمل ما عيبا، فإنهم غير مضطرين لتذكير بعضهم البعض أن (العمل مو عيب)، مثلما يكون من السخف القول (الجمال جميلُ)! فيردوك بالقول (وهل قال هناك من يقول خلاف ذلك)، ومنطقيا فأن الحقائق الواقعة لا تحتاج الى حكم ومأثورات، ولكن، حيثما بقيت المقولة (العمل موعيب) متداولة بيننا فمعنى ذلك أننا مازلنا (مُرائين وكذابين) نعيب أعمال الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : هو والد المعروف أسامة بن لادن .
(2) : حدث ذلك بعد أن أفلست خزينة الدولة جراء سياسات الملك سعود بن عبد العزيز المتهورة والتي تسببت بخلعه وتنصيب شقيقه فيصلا مكانه، ما دفع بمحمد بن لادن الى دفع رواتب الدولة السعودية بأكملها لما يزيد على ستة أشهر!!.
[email protected]