23 ديسمبر، 2024 9:12 ص

حكايات عراقية 7 / الإمرأة التي تقاسمها (صبحي) وشقيقه (سعدي)

حكايات عراقية 7 / الإمرأة التي تقاسمها (صبحي) وشقيقه (سعدي)

نحن في رمضان الستينيات وبداية السبعينيات … قبل ان يكفّر أحدنا الآخر …. البارات تفتح ابوابها مع الافطار …. الزبائن يحومون عند بواباتها يسكنهم الظمأ  وشيءٌ من الصبر بلا ضجر، … وفي لحظة بذاتها يسود الصمت الأمكنة إلا من همس بسيط، ليس لأن الحكايا أوقفت حكاياها بل لأن الأسماع متلهفة الآن لسماع دوي مدفع الأفطار !… في كورنيش أبي نؤاس تطل على دجلة الخمارات الملونة (الخضراء والحمراء والبيضاء والصفراء)، فيما يقابلها على الضفة الثانية من النهر بناية مجلس الوزراء ….. ، هناك.. في حديقة ذلك المبنى المطلة على النهر ينتصب مدفع الافطار … كان على اصحاب البارات الرضوخ للجاجة الزبائن فيفتحوا الابواب في ربع الساعة الاخير قبل الموعد ……. فيهمّون بالدخول عُجالة، ويحتلون مقاعدهم حول الموائد في عجالة، ومن ثمْ، يرضخ النادل هو الآخر لنداءات زبائنه فيوزع على مراحل متعددة ومنفصلة عن بعضها بدقيقة أو أثنتين ، (جكات) الماء …. ومن ثمْ (اسطل) الثلج ….. ومن ثمْ الكؤوس الفارغة، ….. ومن ثمْ صحون (المزّة) …. في الدقائق الخمس الأخيرة تكون قناني (العرق) قد وصلت وأخذت اماكنها تحت الطاولة !!……. وإذا أنت ارتفعتَ ونظرتَ الى المكان من علوٍ ستجد ان كل الرؤوس الآن متجهة ناحية الغرب، وكل العيون مصوبة الى الضفة الاخرى، الى الجندي الذي يقف بجوار المدفع ….. وإذ ينحني الجندي ليمسك بطرف حبل مقدحة المدفع يعم الصمت المكان …. ستسمع من هنا وهناك عبارات تردد يوميا في مثل هذا الثواني .. (يلة يا أبني فـُضها) … (جر حبلك يرحم والديك) ….. (يلة عاد مو طلعت رواحنا) …….. ولحظة يهمُّ الجندي بسحب الحبل تكون الايادي كلها قد رفعت قناني الخمرة من فوق الحشائش قبل ان يصلهم صوت الاطلاقة !! …
في مكان ليس ببعيد عن هذا المكان يكون آخرون قد ملأوا باحة المسجد وأفطروا على تمر ولبن وهموا للصلاة … لا أحد يكفر أحد … ولا من أمام يصعد منبره لـ (يكسر) خواطر المُفطرين أو يمس مشاعر شاربي الخمرة في هذا الشهر الفضيل … لا أحد … فأكثر من نصف هؤلاء (جماعة التمر واللبن) كانوا قبل حين من الزمن مع أولئك (جماعة القناني) قبل ان يختاروا الانتقال الى هنا بمحض ارادتهم بعد أن إستنفذوا ملذات الحياة …. لا أحد يكفر أحد …. ففي خزين موروثاتهم (ساعة لقلبي وساعة لربي) !!.
في مشهد نادر وفريد – ربما لن يتكرر – ستجد ان الحدّاد صبحي وشقيقه سعدي يخرجان سوية من محلة (المربعة) بشارع الرشيد قبل آذان الأفطار، يتبادلان الحديث عما ينتظرهم من عمل في صباح اليوم التالي … قبل أن يعبرا الشارع ويفترقا، فيلجُ صبحي خمارة (السويس) الشهيرة، فيما يدخل شقيقه سعدي جامع (سيد سلطان علي) وبين المكانين أمتار قليلة !!، …. لا أحد يكفر أحد.
إمرأةُ بغدادُ كانتْ ، إختمرت الأنوثة بداخلها طويلا، …. ففي ملمحٍ تراها أتقنت الغنج والدلال والغواية والخفر ….. وفي ملمح ثان يدر ضرعها أكسير حياة تفرقه على فلذات قلبها، صغارا وكبارا …….. وإذ تفرغُ من إفطار أهل بيتها مع الغروب، تصعد ليلها متمايلة تتلوى، وخلاخيلها تَرِنُّ، مكحلة العينين، مزوقة الشفاه، الى سريرها المحجل بالاعمدة الاربعة المذهبة الرؤوس، والمغطى بالململ الأبيض، لتمارس وراءه الهمس الرؤوم.
لا أحد يكفّر أحد ….. لا أحد
[email protected]