(نشر الكاتب عبد الخالق كيطان مقال في صحيفة العالم تساءل فيه : لماذا شيوخ العشائر ورجال الدين والعسكر والشعراء الشعبيون هم ألد أعداء المدينة ؟، وبعثت له بهذا الرد الذي تمنى عليّ نشره هنا …)
إن الحديث عن الصراع بين قيم الريف والمدينة من السعة والتشعب ما يحتاج الى أكثر من دراسة وبحث وسيرة حكايات، ويصعب حصره في مقال أو أثنين، لكني سأتوقف هنا عند النماذج الاربعة التي اختارها الكاتب ونرد على تسائله بشيء من الإختصار:
1 – شيوخ العشائر : بدأت المدينة تزدهر ويزداد ألقها وتتطور اساليب عيشها وطرق تعاملات ابنائها ابتداء من تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع عشرينيات القرن الماضي وحتى نهاية السبعينيات، كان ابن المدينة لا يعوّل على اصوله العشائرية بشيء، فقيم المدينة ما عادت تتوائم وتقاليد وأعراف الريف والصحراء ومضارب العشيرة، بل ان واحدة من عناوين التمدن والتفاخر اعلان ابن المدينة انسلاخه عن قيم آبائه وأجداده أو عشيرته الرابضة خارج المدن في الريف أو على أطراف الصحراء، (ونقصد هنا انسلاخه عن القيم وليس عن الاصول كما يفهمها البعض خطأَ)، فالعائلة التي تختار ان تنتقل الى المدينة كان عليها ان تتقبل اشتراطات المدينة ولهجتها وطباعاها ونظام عيشها، ما يعرف بحالة الاندماج، بل لاحظت لغير مرة منذ الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات أن العائلة التي يزورها وفد عشائري (معكل) ويعقدوا إجتماعا لتسوية عشائرية ما يعرف بـ (الفصل)، يتعرض أبناها للسخرية من زملائهم، أتذكر هنا – على سبيل الاشارة – حكاية احدى العوائل التي قدمت الى بغداد بداية الخمسينيات وسكنت في حي اسكان غربي بغداد بعد ان عُيّن رب الاسرة موظفا كبيرا في وزارة التربية، كان يزورها بين فترة بعيدة واخرى وفد عشائري بقيادة (محيبس) شيخ عشيرتهم، فيستقبله الاب بأحسن استقبال، لكن الابناء كانوا يتذمرون ويعلنون للاب احتجاجهم بالقول (بابا صرنا مضحكة بين الجيران، شنو هذولة الكلاوجية جايين كل مرة يطالبونا بفلوس على فصل لا علاقة لنا به، العالم وين وصل واحنا بعدنا متخلفين)، فإتخذ الابناء قرارهم وتوعدوا لـ (محيبس ورفاقه) إن هو حضر مستقبلا، فالابناء أصبحوا كبارا وموظفين ولهم كلمتهم بعد ان تقاعد الاب، كنتُ شاهدا يوم وصل الوفد العشائري فخرج لهم أكبر الابناء وخاطبهم بكل وقاحة وصلافة (انتو شنو قصتكم يومية جايينا؟، بابا لا نعرفكم ولا تعرفونا) فرد عليهم الشيخ محيبس (مو صوجكـَم صوج المدينة اللي ما ربتكـَم !!!).
هذا نموذج من نماذج كثيرة عاصرتها والتي كانت لها دلالة على سطوة قوانين المدينة والمدنية، قبل ان تنقلب (الآية) منذ مطلع الثمانينيات على يد الحاكم الاعرابي الذي استهدف فيما أستهدف أمرين هما (المدينة والطبقة والوسطى) فسحقها سحقاً.
ونذكر هنا ، أن واحدة من إنجازات (الجبهة) الوطنية اواسط السبعينيات هي اصدار قرار ألغيت بموجبه (الالقاب)، ابتداء من رأس النظام والقيادة مرورا بالشخصيات العامة وإنتهاء بأسماء الشركات والمحال التجارية وغيرها، حتى جاء يوم اشتعلت فيه الحرب العراقية الايرانية، فوقف الزعيم الاعرابي ليمنح انواط الشجاعة لأول دفعة استحقتها، فربَتَ على كتف أول ضابط في المجموعة وسأله (من أي عشيرة؟) ليعقبها بعد تلقيه الجواب (والنِعِمْ !)، وأتذكر الى الآن ان الضابط الخامس أو السادس رد على سؤال الزعيم بالقول (من بغداد !) فكان جوابا غير متوقع مما جعل الزعيم يمتنع عن القول (والنعم) !!.
أما بقية فصول هيمنة الريف وقيمه على المدينة فهي معروفة للجميع والتي إنهزمت وتلاشت أمامها المدينة رويدا رويد، حتى وصل الامر بابن المدينة نفسه – هذه المرة – أن يلهج بلهجة أصوله الريفية ويرتدي الزي البدوي في المناسبات العامة وفي أرقى نوادي ومطاعم بغداد، بينما كان هناك مشهدان مطبوعان في ذاكرتي يعودا الى اربعين عام خلت، واحدة في مدينة سامراء والثانية بمدينة قلعة صالح، وفيهما رأيت كيف يمنع أحدهم من دخول نادي الموظفين الليلي لأرتدائه (الدشداشة والعقال)!!.
2 – رجال الدين : كانت المدينة قد حاصرت رجال الدين منذ العقد الثالث من القرن الماضي، بعد إتساع حركات التنوير والتحديث وتحرر المرأة وغيرها ، ولم يعد لهم من تواجد أو فاعلية وخصوصا في المدن الكبرى، سوى حضور خجول داخل المساجد التي لم يعد يأمها غير أنفار من رجال تجاوزوا سن التقاعد، ووجد رجال الدين انفسهم بمواجهة شباب مُحدِث يصعب اقناعه على سماع مواعظهم، وهو ما أدركناه منذ اواسط الخمسينيات من القرن الماضي، كان شباب ذلك العصر مفتوح الشهية على الفلسفات الوضعية والايدلوجيات العصرية وإغراءات اليسار التي ألهمت أجيال متعاقبة، ما جعلهم ينفصلون عن الدين تماما، ففي منتصف الستينيات على سبيل المثال كان هناك في حيينا شاب واحد فقط (غ . ف ، أصبح فيما بعد مذيعا تلفزيونيا معروفا ومختصا بالامور الدينية) يذهب الى الجامع وكان محط سخرية من زملائه بل اطلقوا عليه مزاحا بعض من النعوت غير المحمودة !!. وهناك مواقف وشواهد عديدة على نظرة أهل المدينة الى رجال الدين لا مجال لذكرها هنا، وهو ما جعلهم يكرهون المدينة وهي بنظرهم حاضنة للمفاسد والمجون وخارجة على شرعة الله!!.
3 – الشعراء الشعبيون : لم تحظ اللهجة الشعبية بمكانة لائقة منذ أن اتسعت رقعة التنويريين، بل هي إنحسرت أمام ما يعرف بـ (اللغة الثالثة) التي يحرص طبقة التدريسيين والموظفين وعموم المثقفين الشباب على التحدث بها، وصارت هذه اللهجة الوسطية والقريبة من الفصحى عنوانا ودالة على تحضّر الفرد وتمدنه، بل بدأ الجمهور يطلق على اللهجة الدارجة منذ ذلك الوقت مصطلح (اللهجة العامية) للدلالة على انها لغة العوام أو عامة الناس، للتفريق بينها وبين لهجة (الخاصة من المجتمع) أو النخب المثقفة التي إتسعت نسبتها لأول مرة في تاريخ العراق، والتي قدرها بعض اساتذة الفقه الاجتماعي عندنا بما تزيد على 30% من نسبة سكان العراق عموما، و 50% من نسبة سكان المدن !، وأمام هذا المد التنويري كان لابد ان ينحسر الشعر الشعبي المنبلج من (اللهجة العامية) ويحد من إنتشاره، حتى أن قرارا صدر بمنع نشر الشعر الشعبي في الصحف والمطبوعات !، ولم يكن للشعر الشعبي من حضور واضح في أي وقت حتى مطلع الثمانينيات عندما دعى الحاكم الاعرابي السابق الى اقامة مهرجانات للشعر الشعبي لتثوير الشعب وتحضيره لحروبه الميمونة القادمة، يومها قدم الى بغداد الشعراء واشباه الشعراء من كل اقاصي العراق حتى غصّت بهم فنادق بغداد (كنتُ وقتها مقيما اقامة شبه دائمة في فندق القصر العباسي)، وسجلت من خلال احاديثهم فيما بينهم في صالة وبار الفندق نظرتهم الى المدينة وسكانها وسخريتهم منها ومنهم، لكأنها – اي المدينة – لقيطة أضاعت جذورها، وقد اشرنا الى ذلك في اماكن اخرى من كتاباتنا.
4 – العسكر : أما الحديث عن العسكر فيذكرني بوصف أتى عليه السياسي السوري (شبلي العيسمي) بالقول أن المؤسسة العسكرية هي أقرب ما يكون للنظام الأقطاعي والمشايخي ، يمثل فيه آمر الوحدة العسكرية شيخ العشيرة والضباط رؤساء الافخاذ ونواب الضباط السركالية، وضباط الصف هم عسس الشيخ وضابطي إيقاع (الجنود) العبيد !!. وعليه سيكون من الطبيعي أن تنطوي شخصية العسكري على الكراهية لسكان المدينة المتحررين من هذه التراتبية العبودية، ولأن الضباط درسوا في الكليات العسكرية الذكورية، فإن في صدورهم غيلة على أقرانهم ممن (تمتعوا ونعموا) بالاختلاط مع الجنس الآخر في الكليات الجامعة، ما دفعهم الى وصف الآخرين بـ (الشباب المايع) والرخو وغير مكتمل الرجولة!!، إضافة الى شعور العسكر بالانفصال عن الحياة المدنية ومباهجها ما تسبب بكرههم للمدينة.
لقد لعب الصراع بين قيم الريف والمدينة دورا خطيرا في تاريخ العراق المتأخر وأخذ أشكال متعددة، وعلى هامش الحديث عن هذا الصراع، رأيت أن أتناول حكاية أو معلومة وجدت أن معظم مؤرخينا وكتاب السير السياسية في العراق قد غفلوها أو تجاهلوها، تلك التي تخص الخلاف بين (الصديقين) عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، الخلاف الذي كان في حقيقته بعيدا كل البعد عن التصنيفات السياسية والايدلوجية التي صدع بها المنظرون رؤوسنا، فهو صراع بين قيم ريفية وأخرى مدينية، كان عبد السلام (بخلاف أخويه الكبيرين عبد السميع وعبد الرحمن) قد نشأ نشأة ريفية متأثرا بأخواله في مضارب زوبع غرب بغداد ومنطويا على كراهية الآخر ورفضه للمدينة والمدنية، بل كان ذرب اللسان كثير السباب لأهل المدينة، ومن عاصره يتذكر شتائمه تلك، ومنها هجائه الشهير للمؤسسة العامة للأذاعة والتلفزيون عندما قال (حتى العصفور اللي يوكر فوق الاذاعة ينيـ …)، اضافة الى ذلك فأن الحي (سوق حمادة) الذي نشأ فيه بمنطقة الكرخ معروف بالتزمت والعصبيات القبلية، بينما نشأ عبد الكريم في محلة المهدية بالرصافة (حاضنة القوميات والاديان والاثنيات والمذاهب على اختلافها)، ففي هذا الحي أو على مقربة منه كان هناك كنيس يهودي وكنيسة مسيحية وجامع وحسينية، وفيه عاش المسلمين سنة وشيعة مع اليهود والمسيحيين والصابئة، عربا وكرد، وكرد فيليين وتركمان وأرمن.
ويبدوا أن عوامل الخلاف والاختلاف كانت مضمورة في صدر عارف، وبدأت بالظهور بعد نجاح انقلابهما العسكري على الملكية (المدنية)، بل أن بعض من اسباب عدم إنسجام عارف مع زوجته (بنت المدينة) كان ضمن هذا الباب، حتى وصلت علاقتهما لاحقا الى القطيعة وهو ما سنبينه هنا.
عندما كان قاسم آمراً للواء التاسع عشر كان عارف احد ضباطه وآمرا لأحد افواج هذا اللواء الذ كان مرابطا لسنوات في المفرق بالاردن، وكان كلما يتصادف أن يكونا مجازين في وقت واحد تحرص (أم أحمد) زوجة عبد السلام على دعوة قاسم لتناول الغداء او العشاء عندهم فارتبطا بمودة واحترام، خصوصا وأن أم أحمد تتمتع بخلق حسن وكريم (وكنت قابلتها لمرتين في ذلك الوقت).
ويوم اعلن الحكم بالاعدام على عبد السلام في قضية تآمره المشهورة، حملت ام احمد نفسها الى مقر قاسم بوزارة الدفاع، وطالبته بالعفو عن زوجها، ولم يكن قاسم بقادر على رفض طلبها اكراما واحتراما لها، فألغي حكم الأعدام واكتفي بوضع عارف تحت الاقامة الجبرية.
ويوم سمعت زوجة عارف بأن زوجها أشرف على اعدام قاسم، تركت البيت وظلت على خصومة مع زوجها الى يوم مماتها على حد علمي، وفشلت كل محاولات المصالحة مع زوجها حتى بعد ان اصبح رئيسا للجمهورية، وكانت تردد بالقول (لقد اكرمني الرجل وعفى عنك، فكيف تغدر به غدر البدو وتعدمه).
هذه واحدة من حكايات كثيرة كان فيها تضاد القيم بين الريف والمدينة وراء صراعات سياسية أثرت ولاتزال الى اليوم على مدنية الدولة العراقية، والغريب – كما اسلفت – أن معظم مؤرخي ومتابعي تاريخنا الحديث لم يلتفتوا إليه، وقد اشرنا في مادة سابقة عن حقيقة الخلاف الذي ضمره في صدره حاكم النظام السابق لأهل المدينة والذي ترجمه بداية بتصفية زملائه من القيادات البعثية (المتمدنة)، واذا اردنا ان نقترب من الحقيقة أكثر سنكشف مفارقة تاريخية لئيمة ومريرة تجري فصولها في العراق منذ ما يزيد على اربعين عاما، فاتباع المذهب السني من سكنة المدن إصطفوا وراء (القائد) السني ومجدوه ولازالوا يمجدوا ذكراه !!، ضنا منهم أنه من (فصيلتهم) !! وحامي حماهم، وكذا اتباع المذهب الشيعي من سكنة المدن الذين يهللون اليوم لـ (الحاكم) الشيعي وفق ذات الوتيرة !، فيما الحقيقة أن كلاهما يضمرا الحقد والنيات اللئيمة للمدينة والمدنية.
ودائما نذّكر ككل مرة أننا نتحدث عن (قيم) وليس عن مجاميع عرقية سكنت المدينة، فكثير من ابناء الريف الجنوبي أو الغربي أو الشمالي سكنوا المدن وحملوا قيمها، بل في احيان كثيرة بزوا اهل المدينة أنفسهم في سلوكهم وتقاليدهم المتحضرة والمتمدنة، وقدموا ما لم يقدمه غيرهم في حقول العلم والادب والفنون والرياضة وكل مجالات الحياة الاخرى.
والحديث عن اوجه هذه الصراعات دائما بقية.
[email protected]