23 ديسمبر، 2024 10:22 ص

حكايات عراقية – 5 /  الكدع المصري ينادي (إتفضل يا فندم عندنا كل حاجة بتريّحك!) 

حكايات عراقية – 5 /  الكدع المصري ينادي (إتفضل يا فندم عندنا كل حاجة بتريّحك!) 

منذ أيام فوجئت بأحد الأصدقاء ممن أكن له الود الكبير، ينشر على صفحته في (الفيس بوك) صورتين لساحة الوثبة إحدى ساحتي شارع الرشيد ببغداد، الأولى بالألوان وتظهر ساحة الوثبة وقد توسطتها حديقة جميلة مليئة بالأزهار الملونة وتطل عليها أبنية حديثة نظيفة دهنت بألوان زاهية مع تعليق تحتها يقول (ساحة الوثبة في الخمسينيات من القرن الماضي)، والصورة الثانية بالأسود والأبيض لنفس الساحة وهي مغبرة مليئة بالنفايات وتغطيها بالكامل عربات الحمّالين وتطل عليها ذات الأبنية وقد عفّرها ونخرها التقادم الزمني، مع تعليق تحتها يقول (ساحة الوثبة ….. الآن).
ومع أني كنتُ ولا أزال أعد الدكتور عماد عبد اللطيف سالم من أنزه وأنبل وأشرف العراقيين الذين عرفتهم وعايشتهم منذ العام 1976، والذي طالما كنا على الدوام نقلـّب مواجع هذا الوطن المعبأ بالخوف والترويع والتردي والتفشي والتخلف الذي ضرب كل مفاصله، إلا أني وجدت صديقي يقع في المحظور وهو يدخل في فوضى المقارنات بين الأمس واليوم، ولدي إعتقاد لا يمكن بأي حال أن يشوبه شك بأنه نشر الصورتين بنوايا وطنية خالصة وحسنة، إلا أني توقفت أمام تعليقه وفي قلبي غصة وقذى وألم، وبالتحديد أمام المفردة .. (الآن).   
وكلمة (الآن) هذه، فيها من الإجحاف والظلم والأذى والهتك والخيانة للذاكرة الجمعية الى أبعد الحدود، ولا أريد أن أذهب الى أكثر من هذا وأتسبب بإحراج صديقي العراقي المليء بالوطنية حد النخاع، فكل صور التخلف والضياع والمآسي والإنحلال والإتجار بالمخدرات وتفشي الفساد المالي ونقص الخدمات وتردي المشهد السياسي بكل مفاصله وأشكاله إنتشرت وتفاقمت وتراكمت منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وجدليا فإن كل ما نعانيه اليوم من مفاسد هي ثمرة ذلك النبت العفن وذلك النخر الذي أصاب البنيان العراقي بأشمله، وصديقي الدكتور يعرفها ويعرف مسبباتها أكثر مني علاوة على تخصصه الإقتصادي.
معظم المقارنات التي نقرأها ونسمعها ونشاهدها بين الأمس واليوم، والتي تصدر عن كتابنا ومثقفينا وإعلاميينا غير دقيقة وغير واضحة، أو غير منصفة ومخالفة للأمانة المعرفية، أو هي تكشف لنا عن إرتباك في الذاكرة الفردية والجمعية، وعن عدم إدراك أو إطلاع (ميداني) على  تهاوي مؤشر التحولات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والتعليمية والبيئية والعمرانية الى آخر القائمة الحياتية التي دكت قلاعنا وأودت بنا وبمدننا، وكثيراً ما أصاب بالدهشة المحاطة بالأسى والأسف وأنا أطالعها.
وأتمنى كثيرا على أصحاب الأقلام الشريفة وخصوصا من أبناء جيلي والأجيال التي سبقتني أن يتوخوا الدقة، لأننا بصدد متلقين – وبالتحديد الشباب منهم – ممن لم يعاصروا أو لم يعوا تماما مآسينا وتخلفنا في سنوات الفاشية العجاف – هؤلاء سيقولون، كم كان العراق جميلا قبل (الآن)، بل إن مرتزقة النظام السابق سيصفقوا لهذه الدعاية المجانية لنظامهم لأنها توفر لهم الكثير من الجهد في محاولاتهم إقناع الجمهور إنهم كانوا شرفاء وكان العراق في زمانهم قطعة من الفردوس الموعود وليس مقالب قمامة ونفايات.
يمكن جدا، بل ونتمنى أيضا أن ننشر ونتداول العديد مثل هذه الصور وهي كثيرة ومثيرة على الدوام، ولكن لابد من توضيح يرافقها حتى تكون رسالتنا أمينة وصادقة، تحاشياً للتعمية المعرفية وتجنبا للخلط الذهني الذي قد يصيب المتلقي.
كل مادة نشرتها في أعمدتي الصحفية وكل صورة نشرتها كنتُ أحرص على التذكير بذلك، ولو أني كنت سأنشر هاتين الصورتين لذيلتهما بتعليق (الصورة الأولى لساحة الوثبة في خمسينيات القرن الماضي، والصورة الثانية لساحة الوثبة منذ ثمانينيات القرن ذاته).
وبمناسبة الحديث عن صورتي ساحة الوثبة، أجدني هنا مضطرا للحديث عن شارع الرشيد ويمكن للقاريء أن يأخذه مقياسا لبقية شوارعنا ومدننا، لأن هذا الشارع بالتحديد عشت به وعايشته منذ العام 1969 وحتى هزيمة (صاحب الفرساية البيضة بُطل التحرير القومي).   
ففي العام 1969 كنت قد سكنتُ في شقة بـ (عقد النصارى) في شارع الرشيد لثلاث سنوات تقريباً، ثم عدتُ وسكنتُ فيه ثانية منذ العام 1984 وحتى بداية التسعينيات(1)، ولم أبتعد عنه حتى بعد تغيير سكني في المرتين، فلا يمر إسبوع دون أن أزوره فأصدقائي هناك كثر إبتداء من ساحة الميدان ومرورا بشارع المتنبي وشارع النهر وشارع الخيام وصولا الى شارع أبي نؤاس.
منذ نهاية السبعينيات بدأ الشارع يشكو الإهمال، وتقادم السنين ينخر أبنيته، وتداعت منازل كل الأحياء المطلة عليه وبدأت تنتشر روائح عفونتها، وبدأ معظم سكانها يهجرونها، أما محاله التجارية فبدأت تنحسر ويذوي بريقها وتتغيّر تصنيفاتها، وإنسحبت منها المحلات المتخصصة ببيع الملابس الى شارع الخيام، لكن التحول الأخطر كان منذ العام 1978 عندما إحتلتْ أحياءه أفواج المصريين الهائلة فسكنتْ كل أحيائه تقريبا وخصوصا المنطقة المحصورة ما بين ساحة الوثبة وحتى شارع الخيام، فيما تحولت بيوتات الأحياء الممتدة من ساحة الوثبة وحتى عقد النصارى الى ورش لصناعة الأحذية ومعامل صغيرة للخياطة والسراجة والأطعمة الجاهزة ومخازن لأغراض مختلفة وبيوت للدعارة، فيما تحولت المنطقة المحصورة من عقد النصارى وحتى الشورجة الى تجمعات لمحال متخصصة بالعدد والمعدات والأسلاك الكهربائية، بل أصبحت بعض بيوتاته منذ مطلع التسعينيات مخابيء للسراق الذين ينهبون كيبلات الضغط العالي الحكومية، لتعالج داخلها ويستخلص منها مادة النحاس لتهرب بشاحنات النقل البري الحكومية أيضاً !!! الى كركوك حيث تباع هناك لتنقل الى محافظات الشمال (المحمي حينذاك)، مع ملاحظة أن بيوت الدعارة وتلك العصابات ومخابئها كانت محمية من قبل عناصر مكافحة الإجرام في مديرية شرطة العبخانة لقاء أموال مجزية تدفع لهم، أما دور السينما فإهملت وأغلقت أو صار بعضها يعرض ثلاث أفلام (منحلة) ببطاقة واحدة وإنتشرت بين روادها ظاهرة الشاذين جنسيا من المصريين والعراقيين على حد سواء، لكن بعضها إستأجرت في التسعينيات من قبل فرق (مهرجية) لتقديم عروض تهريجية بتشجيع ورعاية من المعتوه (عدي) الأبن البكر لصاحب الفرساية البيضة لأمتصاص بعض من الأسى والحزن والألم الذي خيم على عوائل العراق.
عندما سيق معظم العراقيين الى محارق الحرب، وجدنا أن المصريين قد إحتلوا معظم المحال والمهن والحِرَف في هذا الشارع، وهي ظاهرة شملت العراق كله في تلك السنوات العجاف. (ويجب أن نفرد مقالة خاصة للتحدث عن الكوارث التي حملها للعراق هؤلاء الأشقاء الحبّابين).
عندما سكنتُ للمرة الثانية في هذا الشارع في العام 1984، كانت الحياة فيه تتوقف بعد غروب الشمس، فليس هناك غير الخارجين على القانون وعصابات التسليب تحتله طوال الليل، وأتذكر الى الآن ليلة تعطل الهاتف في مكتبي ولم تتجاوز الساعة العاشرة ليلا بعد، إستعنت بجاري وكان نائب ضابط في الحرس الجمهوري ليرافقني وهو يتسلح بمسدسه الى نفق ساحة التحرير لإستخدم الهاتف العمومي، فبعد الغروب لا أحد يمر بهذا النفق خوفا من أن يصادفه أحد السلابة.
أما الشقق والفنادق (وأحدثها يزيد عمره على خمسين عام) فقد تحولت، إما الى غرف إستأجرها قفاصة الباب الشرقي كمخازن خلفية لهم، أو الى مواخير للعزاب والداعرين والشاذين جنسيا، وبعضها إستأجرها قوادين مصريين ومعهم عاهراتهم المصريات فينادون عليك من الشرفات وأنت مارٌ في الشارع ليلا (إتفضل يا فندم عندنا كل حاجة بتريّحك).
والحادثة التالية جرت معي في شارع الرشيد في العام في العام 1985 وشهودها والعارفين بتفاصيلها أحياء يرزقون.
في ليل من ليالي شتاء ذلك العام كنت في إحدى مقاهي الصالحية مع بعض الأصدقاء وعند الساعة الثامنة مساء ودعتهم، وفضلت أن أعود الى مكتبي في منطقة السنك بشارع الرشيد سيرا على الأقدام، وبعد أن عبرت جسر الأحرار وإتجهت يمينا سمعت صراخا عند مدخل أول فرع في شارع الرشيد مقابل ساحة الوثبة (موضوعنا) والذي ينتهي بمقهى شط العرب الشهيرة (التي حولها الكدعان الى مطعم يقدم فيه الفسيخ والكشري والسوب باللحمة)، كان صراخ شاب يستغيث (يا عالم دخيل عرضكم)، وعندما تقدمت خطوات قليلة داخل الفرع الغارق بالظلام إلا من ضوء قليل يصل من الشارع العام، فوجئت بـ (عصابجي) يشد على رقبة شاب ملصقٍ بالجدار، ولحظة وجهت كلامي الى (العصابجي) لأسترحمه كي يفرج عن الشاب إذا بي أفاجأ بـوجود (عصابجي) آخر وسط الظلام لم أتبين وجوده، يضربني بسكين حادة فتحت جرحا في عضدي الأيسر(مازال أثره واضحا الى اليوم)، فتراجعت بسرعة مهرولا الى محل (مصري) يقدم العصائر مقابل سوق الرشيد المركزي وإتصلت من هاتفه بشرطة النجدة التي وصلت بعد ربع ساعة والدماء ما زالت تنزف من جرحي، لنجد الشاب عاريا وقد سَرَق (العصابجية) ملابسه وكل ما يملك، وربما يتذكرني اليوم هذا الشاب الذي تبين أنه طالب بالجامعة المستنصرية من أهالي السماوة يدعى (محمد مسكون).
وللتذكير مرة أخرى، كان هذا قبل الساعة الثامنة والنصف مساء في ساحة الوثبة يا صديقي …. ساحة الوثبة الموحشة التي تحوّلت حديقتها في الثمانينيات الى مساحة كونكريتية مغبرة وقذرة.             
تمنيت لو لم يمت (أو يقتل كما سُرب لنا) أمين بغداد الأسبق المرحوم المهندس قاسم عواد، لكان الآن يدعم شهادتي وأنا أقدم له ملفا من ثلاثين صفحة مدعم بالصور والخرائط في تسعينيات القرن الماضي أتحدث فيه عن نهاية عاصمة أسمها بغداد.
ـــــــــــــــ
(1) كنتُ قد إتخذت هذه المساكن ملجأً لأتوارى عن أنظار عصابات صدام وفي الثمانينيات عندما ضيّق الخناق علينا كنت محميا من قبل أصدقائي المقربين، الرفيق البعثي (أبو مازن) مسؤول تنظيمات السنك، والمقدم وهاب …. في مديرية مكافحة الأجرام بالعبخانة، ومفوض الأمن نبيل طه العزاوي في مديرية أمن السعدون.
ملاحظة : في الحكاية التالية سنتحدث عن حديقة الأمة وساحة الميدان حفاظا على الحافظة الذهنية لشبابنا خشية أن يقدم أحد زملائي – حسني النية – صورتين لهذه الحديقة الأولى ملونة ومبهجة مع تعليق (حديقة الأمة في الستينيات)، والثانية بالأسود والأبيض مغبرة متهالكة تحيطها عربات باعة الخردة مع تعليق (حديقة الأمة  ………….. الآن)!!.
ــــــــــــــ
[email protected]