23 ديسمبر، 2024 6:56 ص

حكايات عراقية – 4 / صاير شريف براسنا، وبنته مطـلعة زرورها

حكايات عراقية – 4 / صاير شريف براسنا، وبنته مطـلعة زرورها

في ثمانينيات القرن الماضي حدثني صديق بصري يعمل مهندساً في مصنع البتروكيماويات، أنه أوفد مع صديق له الى اليابان، وكسلوك طبيعي ناتج عن المحرومية الأزلية لمجتمعنا، تجنبا النزول في الفنادق المصنفة بالنجوم لسبب سيتضح لاحقاً، فنزلا عند عائلة يابانية حولت مسكنها الى نزلٍ ومطعمٍ يديره رب العائلة مع زوجته وبنته، فالزوجة طاهية للطعام والبنت نادلة تقدم الشراب، وخلال الأسبوعين اللذين قضياهما عند هذه العائلة تكونت فيما بينهم بعض ألفة ومودة خصوصا وأنهم كانوا خلال ساعات المساء يتشاركون الجلوس الى طاولة واحدة ليتسامروا معاً، وفي اللحظات الأخيرة من الليلة الأخيرة التي تسبق صباح عودتهم طلب المهندس العراقي من الرجل الياباني صاحب النزل أن يحرر له فاتورة الحساب تخالف ما سيدفعونه (أي أن تكون أسعار المبيت والطعام والشراب هي ذات الأسعار التي تطلبها الفنادق، لأن هذه الفاتورة ستقدم للمصنع عند عودتهم) ليحصلوا على الفارق بين السعرين، فإنتفض الياباني كأن زنبورا لدغه من دبره قائلا (لا ، لا ، هذا تزوير، هذا عمل غير أخلاقي)، فقال المهندس الثاني بلهجتنا الدارجة (صار شريف براسنا وبنته مطلعة زرورها وتقدم لنا البيرة).
كارثة الكوارث ومصيبة المصائب والسبب الأول والرئيس لتخلفنا وتردينا ومفاسدنا وتداعينا و(طيحان حظنا) هو أننا إستبدلنا الأخلاق بالأعراف.
يحدثنا أستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي في كتابه (الأخلاق النظرية) بإسهاب عن الفرق بين الأخلاق كثوابت وقيم إنسانية وبين الأعراف كتقاليد تأخذ شرعيتها من شيوعها، وحتى لا أذهب بالقارئ بعيدا في متاهات فلسفة الأخلاق وفصول كتاب البدوي، أوجز الفكرة بجمل قليلة.
الأخلاق مجموعة قيم وصفات خيرة لا يستقيم الإنسان والمجتمع بدونها ومن أهمها على سبيل المثال الصدق والأمانة، والعالم المتحضّر يعدها معياراً لـ (الشرف)،  ولا يمكن أن تجد إنساناً أو مجتمعاً يقول بخلاف ذلك، أي أن يقول معترضاً أن الكذب والسرقة صفات حميدة.
أما الأعراف فهي (عقد) إجتماعي يتضمن عادات وتقاليد يُتفق عليها ويرسخها المجتمع، وقد تختلف معاييرها من مجتمع لأخر، فهناك أعراف حميدة بنظر مجتمع ما قد تجدها سيئة ومنافية لقيم وأعراف مجتمع آخر.
تقع الأعراف خارج المنظومة الأخلاقية، أما قيمتها الإعتبارية فتحددها التقاليد والعادات المتوارثة لذلك المجتمع. ولا يمكن في أي حال أن تكون بديلة أو متقدمة على القواعد الأخلاقية، فالأخلاق أولا والأعراف تاليا، الأخلاق ثابتة والأعراف متحولة، وقد لاحظنا أن هذه الأعراف تضعف وتنحسر وتتلاشى أمام القيم الأخلاقية الحقيقية كلما تطور المجتمع ونَظمّ سلوكه الإنساني.
عندما نغوص في تاريخنا الإجتماعي نجد أننا محكومون بأعراف وعادات وتقاليد منذ عشرات القرون ثابتة ومترسّخة، أعراف تنحسر وتتلاشى أمامها كل القيم الأخلاقية، بمعنى أننا مجتمع أعراف وليس مجتمع أخلاق، ونكتشف أيضا أن التخلف تربة خصبة تشجع على تقديس الأعراف وتفضيلها على أيةِ قيمٍ أخلاقية.
والأخطر من هذا كله أننا نتعامل مع الأعراف على أنها هي الأخلاق، ومنذ أن تفتحت عيوننا على الدنيا ونحن على دين آبائنا، فالمفردة اللغوية (الشرف) مرتبطة رباطاً راسخا بالجنس والأعضاء التناسلية، فعندما ينعت أحدهم (غير شريف) يتبادر الى أذهاننا فوراً أن أعضاؤه التناسلية منتهكة!، فبإمكان الفرد العربي أن يكذب ويسرق ويخون الأمانة ويعتدي على الآخرين دون أن تطلق عليه الصفة (غير شريف)، مقابل إمرأة صادقة ونزيهة وأمينة وتتمتع بشعور عال من الإحساس بالمسؤولية الإنسانية لكنها لم تحافظ على (عفة) تلك الأعضاء فهي (غير شريفة) حتى وأن قدمت الخير لكل البشرية!.
عام 1995 زارني أحد كبار أقربائي وكان في مجلسي بعض الأصدقاء ليسألني عن (سمعة) عائلة في محلتنا ينوي أن يتقدم لهم لخطبة إبنتهم لولده، فإنبرى الحاضرون لمدح سمعة تلك العائلة مرددين (والله سمعتهم جيدة ولم نسمع عن أي (لـُكة)(1) لا في البنت ولا في أمها)، فإلتفت إليّ ينتظر جوابي، فسألته مشاكسا (هل تريد أن أجيبك بحسب مقياس عاداتنا أم بحسب مقاييس الشرف الحقيقية؟) ويبدو أنه لم يفهم القصد فأجاب بسرعة (طبعا بحسب مقاييس الشرف الحقيقية) فأجبته :
(أما الأب فقد قبض عليه ثلاث مرات متلبسا بسرقة مواد من المؤسسة التي يعمل فيها، ومرة رابعة إشتكته لضابط امن الدائرة إمرأة بعمر أمه تعمل منظفة حاول الإعتداء عليها جنسيا في حمامات المؤسسة، وفي المرات الأربع أغلق التحقيق معه بوساطة شقيقه الضابط في المخابرات والصديق للمدير العام، وأما الأم فهي طائفية متعصبة حقودة تكفر كل المذاهب والأديان الأخرى، ومعروف عنها في دائرتها أنها لا تلقي ولا ترد التحية على أي مسيحي أو صابئي و(تتنجس) منهم، ولم يعرف عنها أنها قدمت خيراً أو مساعدة لأحد، والحكاية التالية تكشف عن مدى لؤمها وحقارتها، ….. عندما كنا نعاني في الحي من أزمة وشحة في مياه الشرب ولا يصل الماء إلا في ساعات متأخرة من الليل وبمساعدة مضخات السحب، كان خط الإسالة يمر بدارهم قبل أن يصل لجارهم، فتترك مضختها تعمل الى الصباح حتى بعد أن تكتفي من ملء خزان دارهم وسقي حديقتهم!!. وعندما سألتها ذات مرة عن السبب، أجابتني أن جيرانها حقراء من طائفة (…..) ولا يستحقون (كلاص) ماء!!.وأما إبنتهم التي تريد أن تخطبها لأبنك فهي تبزُّ أبيها وأمها بسوء الخلق)!!. وأنهيت كلامي بالقول، (ولكن في محلتنا فتاة غاية في الأدب والطيبة والخلق الحسن ومتفوقة في دراستها وأبوها من أكرم الرجال وأطيبهم خلقا في المحلة وأمها كذلك، وقد مرت الفتاة بتجربتي حب مع شابين لكنها إنتهت بالفشل، عسى أن يكون ولدك موفقا في الإقتران بها).
ذهل قريبي من جوابي وكاد يشتمني لولا الحضور، لكنه إكتفى بالقول (خلف الله عليك تريدني أناسب عائلة بنتهم كحبة!!.).
وحتى أكون صادقا فإنني قد لا أختلف عن قريبي هذا وأنتم كلكم، لأننا واقعون تحت سلطة أعراف وتقاليد لا أعتقد أننا ناجون منها قبل أن نصل الى جهنم، التي هي مصيرنا قبل غيرنا من سكان الكون بحسب إعتقادي، فالطريق إليها سالكة ومعبدة أمامنا والحمد لله !!.        
نحن لا نريد هنا أن يتخلى المجتمع عن أعرافه، (فليظل عليها وليقدسها منا من شاء له أن يقدسها – فنحن كما أسلفنا على دين آبائنا – وتلك مسألة أخرى لا دخل لنا بها هنا)، بل نحن نبحث فقط عن وسائل توصلنا الى رد الإعتبار للأخلاق والشرف، وأن تكون القدسية أولاً للقيم الأخلاقية المتفق عليها إنسانياً، وألا نقدس الأعراف على حساب الأخلاق.  
تحدثنا في حلقة سابقة عن النهضة الثقافية والحضارية في ستينيات القرن الماضي التي طبعت سماتها على أغلب مفاصل الحياة العراقية، منهجاً وسلوكاً وعادات حتى في أبسط مفردات التعاملات اليومية، وبدا واضحا ان العراقيين قد بدأوا يتلمّسون الدرب الى المقومات الأخلاقية الصحيحة، ويميزونها عن الأعراف والتقاليد.
كان ممكنا لتلك النهضة أن تستمر وتتوسع وتخضعنا بالتالي للمعايير الأخلاقية الحقيقية، التي هي وحدها من تكفل خروجنا من مستنقعات التخلف وترتقي بنا الى مصاف الشعوب المتحضرة، لولا أن القدر قد غدر بنا غدرته الكبرى وسلّط علينا سلطة فاشية يقودها أعرابيٌ ينتمي الى (قُطـّاع النياسمِ والهَجْنُ).
إن شيوع الفساد المالي وتعاطي الرشوة في العراق هو دليل واضح على ما بيناه، فما دام هذا الفعل الشائن لا يتعارض مع الأعراف، فإن صاحب الفعل لا يجد أي عار سيلحقه إذا ما هو نهب الدولة أو قبل الرشوة، وهو ما يؤكد طرحنا من أننا مجتمع أعراف لا مجتمع أخلاق وهنا تكمن الخطورة التي سنعاني منها الى أجلٍ غير مسمى.    
وهناك ملاحظة لابد من ذكرها، وهي أن غالبيتنا تعنّف وتنتقد وتشهّر بالمفسدين، ولكن لديّ شك يقترب من اليقين، من أن غالبية هذه الغالبية يحسدون أولئك السراق في دواخلهم، ولكانوا يغنمون ذات الغنائم لو أتيحت لهم الفرصة، ما دامت السرقة لا تمس الشرف المتعارف عليه عندنا، وما دمنا نحن وهؤلاء السراق من طينة هذه الأعراف.
حافظ على أعضاؤك التناسلية وكل ما عدى ذلك (بالريش) فهو لا يلحق أي عار بك أو بعائلتك.
إن نصف تاريخنا (المبجّـل) يتحدث عن الغزوات والمفاخرة بالغنائم، حتى شيع عن العربي أنه (نهّاب وهّاب) أي ينهب ويغنم ويغزو ليلا، ويَهب ويكرم نهارا، بل أن واحدة من أكبر مخازينا وفضائحنا الأخلاقية التي نتفرد فيها عن كل أمم الأرض، أننا مازلنا الى اليوم نتبادل التحايا على طريقة أجدادنا الحرامية، فأنت تردُّ تحية الوداع على الغير بالقول (تروح سالم وترجع غانم) وهي ذات التحية التي كانت تستخدمها العرب عند توديع أجدادنا اللصوص عندما يتجهزون للغزو (تروحون سالمين وترجعون غانمين)!!. كذلك القول (غانم إنشاء الله). متصوراً أنك تدعو له بالصحة والعافية، دون أن تعي وتدرك أنك تقول له (سارق إنشاء الله)، فالغنيمة لغة معناها السرقة، ولا ننسى التذكير أن أكثر التحايا المحببة لدى الأعرابي صدام كانت من هذه الأنماط، وعندما قالت له إحدى قريباتي – وهو يكرمها لأنها أم لثلاث ضحايا – (إتغزو وتغنم) رد عليها (عفية)!!. 
لا يمكن أن نختلف على أن أجمل وأرق وأعذب وأنبل ما أبتدعته البشرية من تعبير عن مشاعر وعواطف إنسانية هي (التحية)، حتى قبل أن يبتكر الإنسان لغات التخاطب، ونحن كنا ولا نزال نستخدم في (تحايانا) مفردات الغزاة والسراق واللصوص والحرامية والنهيبية!!.
ـــــــــــــــــــ
(1) تستخدم لفظة (لُـكة أو لـَكة) في العامية إشارة الى (الطمغة) أي الختم والطمغة لفظٌ محرف عن المفردة الفصيحة (الطغرة) وحمل الشاعر العربي (الطغرائي) هذا اللقب لحرفته في صناعة الأختام، وفي لهجتنا المحلية عندما يغلق محل وتشمع الأقفال بشمع مدموغ بختم يقولوا (ضربوه لوك) أي أغلق الى الأبد، وشاع إستخدامها في وصف السمعة كالقول فلان ملكوك، أي طمغت سمعته بـ (لوك) فأمره منتهي. (نذكر هذا من باب الفائدة الهامشية فقط) .
ملاحظة لئيمة:  لو جمعنا معابد كل الديانات في العالم لإكتشفنا أن معابدنا هي الوحيدة التي تسرق فيها (النعولة)!!!.  
[email protected]