23 ديسمبر، 2024 10:50 ص

حكايات عراقية – 2 / صديقي المثقف هذا، كان محاضرا في معهد القائد المؤسس سابقا / ج1

حكايات عراقية – 2 / صديقي المثقف هذا، كان محاضرا في معهد القائد المؤسس سابقا / ج1

حاضرت لعدد من المرات بإحدى المنظمات الطلابية (الجامعية) في نادي الصيد العراقي وكان بمعيتي المثقف الناشط والكتبي المعروف في شارع المتنبي جعفر كريم، فكان سؤالي الأول لهم من قرأ منكم كتاباً ؟، فكان الصمت المطبق الذي ساد جو القاعة هو جوابهم!!.
نهاية عام 2003 كنت ضيفاً في بيت أحد السياسيين الأكاديميين (أستاذ بالجامعة المستنصرية)!، ممن وصل جعيره الى السماء وهو يتنقل بين القنوات الفضائية (ليحلل) مناخاتنا السياسية!، عندما سألته زوجته تعقيبا على شريط وثائقي يعرضه التلفزيون عن المهاتما غاندي (هل هذا أبو إنديرا غاندي؟) أجابها (نعم، هي بنته الوحيدة ولم يخلـّف غيرها !!).فردتْ عليه (سبحان الله نفس العيون).
الأولى كانت ثقافة طلبة جامعيين في المراحل النهائية، والثانية كانت ثقافة منزل دكتور جامعي ومحاضر سابق في معهد القائد المؤسس (ميشيل عفلق)!.
بين فترة وأخرى أسمع من أصدقاء، كلما عادوا من جمعة شارع المتنبي (إن الثقافة بخير!)، فأصدقائي (حسني النية) يتطلعون الى شارع طوله 150 متراً روّاده لا يتعدون الألف في أحسن الأحوال ليتفائلوا بأن الثقافة العراقية بـ (خير)، متجاهلين أن هذا العدد هو نقطة حبرٍ ببحرِ عراقٍ يغص بخمسة وثلاثين مليون إنسان تدنّت مستوياتهم المعرفية لدرجات خطرة منذ ما يزيد على ثلاثين عاما.
كيف كان حال العراقيين قبل هذه الثلاثين ؟

للإجابة على هذا السؤال علينا القيام بإستعراض سريع الى بدايات النهضة المعرفية حتى يلم القارئ بحجم الجريمة التي أرتكبت بحق شعبنا والتي سنتحدث عنها تالياً.  
في عشرينيات القرن الماضي خرج العراقيون من قمقم الإستعمار العثماني المريض الذي جثم على صدرهم بكل إرثه المأفون المتخلف الذي عزلهم تماما عن كل التقدم والتحضّر والتحديث والتطوير والتنوير الذي ساد العالم آنذاك، فتحمل دعاة النهضة ورعاة الفكر التقدمي المستنير من أمثال الرائد المخضرم حسين الرحال ورفاقه، وزر مواجهة متاريس الظلام لإستنهاض عقول العراقيين من أجل اللحاق بركب ذلك العالم وتضييق الهوة التي فصلتهم عنه.
في الفقرة التالية ملمح سريع يؤشر الى تلك البدايات النيرة التي عبّدت الطريق أمام النهضة الفكرية التي سادت عموم العراق، إقتطعتها من بحث كتبته عام 2004 (وربما أعيد نشره هنا لاحقا)(1).
((صار الملك فيصل الأول وديواني مجلس الوزراء ووزارة الداخلية يستقبلون يوميا وفودا لا تنقطع من المتشددين، يصغون الى إحتجاجاتهم ويستلمون منهم المضابط التي تحث الحكومة على (تأديب) المجددين بحسب قولهم، فأوعزت مديرية المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية الى الصحف بالكف عن نشر المقالات التي تدعو الى التحرر من التقاليد الموروثة، إلا إن تلك الإجراءات لم تمنع حسين الرحال من إصدار مجلة (الصحيفة) التي إستطاعت أن تهز الأوساط المحافظة وتزعزع القيم القديمة السائدة، فعكست المجلة في أعمدتها أحدث الآراء في التاريخ والأدب والنظريات السياسية والإقتصاد وعلى صفحاتها تتبع الجمهور العراقي نهضة البلدان الأخرى، ومن تلك المقالات نقتطف هذا المقطع للكاتب محمود أحمد السيد الذي يقول فيه (سنواصل مسيرتنا في سبيل الحرية الفكرية والحق والمثل العليا .. نحن أقوياء بأنفسنا أقوياء بأقلامنا، سنكشف قناع الرياء عن ميراث العصور المظلمة وسنزهق الباطل ونسحقه سحقا ونرفع للمرأة راية التعليم والتحرر الإجتماعي، وذلكم واجبنا الأكبر)) !  
مر على ما قرأتموه أعلاه تسعين عاماً !، فما الذي حدث بعد ذلك ؟
إستمرت تلك النهضة الفكرية والثقافية في إتساعها وعمّتْ كل بلدات   العراق خلال العقود الزمنية التالية، حتى إذا ما بلغنا النصف الثاني من عقد الستينيات، ومع هامش الحرية الذي توفر آنذاك، كانت المكتبات قد إنتشرت في كل مدننا الرئيسية والأحياء بشكل فاق أعدادها ما هو متوفر في أي من البلدان العربية، بحسب ما كان يذكره أغلب الكتاب والإعلاميين العرب، فما من شارع عام في محلة أو حي إلا وصادفت مكتبة أو مكتبتين ناهيك عن العاصمة بغداد وشوارعها الرئيسية، أما محتويات هذه المكتبات فلا يمكن لك أن تحصي عناوينها بسهولة، فكتب الأدب العالمي والعربي والفلسفة والسياسة والتاريخ والفنون على إختلاف مدارسها من أقصى يسارها الى أقصى يمينها، دوريات ومجلات وصحف عالمية، رافق ذلك إتساع المدارس النقدية الحديثة في العالم، والثورات الطلابية في أوربا، وظهور مدارس جديدة  في الفلسفة وعلوم النفس والفنون والإجتماع والطبيعيات إلخ، كان كل العالم بين يدي القارئ العراقي، وإنتشرت في المدن الكبرى ظاهرة الكازينوهات الخاصة بالمثقفين والقراء على إختلاف توجهاتهم، وإتسعت نسبة النخبة المثقفة قياسا الى النسب السكانية في العراق الى أعلى مستوياتها في عموم تاريخ العراق.
ولي أن أورد هنا واحدة من المشاهد التي لا تخلو من الطرافة لكنها تغني موضوعنا وتنقل لنا صورة صادقة عن شباب العراق في ستينيات القرن الماضي.
بما أن المناخ الثقافي كان هو السائد على المشهد الإجتماعي العراقي، فمن النادر أن يمر من أمامك شاب دون أن يحمل في يديه كتاب، (وعلى أيامنا عندما كانت أخلاق المدينة والمدنية وأعرافها هي السائدة كان لابد للمرأة أن تحتل مقاعد الجلوس في حافلات نقل الركاب، فترى رجلا في الستين من عمره ينهض لكي تجلس محله صبية في الثامنة من عمرها) والشباب واقفون كل واحد منهم يضم كتابا الى صدره، عسى أن ينال ود وإعجاب إحدى الفتيات بثقافته، فيكون عنوان كتابه سببا لحوار يدور بينهما!، أما إذا أراد هذا الشاب أن يمر في الزقاق الذي يقع به منزل حبيبته أو التي يريد أن يقنعها بأن تبادله مشاعر الحب فلابد أن (يتسلح) بكتاب، خشية أن تحتسبه من جوقة الأغبياء والفارغين!، فعين الفتاة العراقية في تلك الأيام تتطلع الى من هو أثقف وأكثر معرفة، لا الى ماذا يلبس والى أي عائلة ينتمي!، ولكثرة ما ألفنا هذا الواقع، وجد بعض البسطاء أنفسهم مضطرين الى حمل الكتاب أسوة بالآخرين (ليجتذبوا) حبيبة عذبه حبها ولا سبيل له غير ذلك، وكان صديقنا المرحوم (مؤيد طه العزاوي) أحدهم، كان يأتينا متوسلا أن نعيره كتابا لأنه يريد أن يصعد الى سطح دارهم عسى أن يلفت نظر فتاته التي يقول عنها، أنها تقضي كل ساعات العصر في سطح دارتهم (مخبوصة بالقراية)، ويصر مؤيد على أن نعطيه مجلداً ضخما وبلون فاقع قائلا (رب الحلو مو نظرها شوية ضعيف، وبين سطحنا وسطحهم سطحين)!.
نحن نسرد هذه المشاهد لأجيالنا الحالية لدلالاتها، نسردها لمن (دخلوا) الحياة ولم يجدوا أمامهم في العراق غير (صاحب الفرساية البيضة) وثقافة حزبه المتهرئة، لنضعهم في الصورة الواقعية للعراق الجميل أيامئذ، وكيف كان للكتاب قيمة حقيقية ورسالة حضارية وكيف كانت الثقافة عنوانا وهوية للإنسان العراقي، لكي تنجلي أمامهم الحقائق ويخرجون منها بإستنتاجات ورؤىً تعينهم على إدراك حجم التردي الذي وصلنا إليه!، أما نموذج المذكور (مؤيد) فلم نتطرق له من باب الطرفة إطلاقاً، فهو يحمل مغزىً ومنحى إجتماعي في غاية الأهمية سنشير له في الجزء التالي من هذه الحكاية فهو يصيب كبد الحقيقة، إضافة الى مؤشره عن سطوة الكتاب وسلطان الثقافة الذي جعل حتى البسطاء مضطرين الى التمثّل والتشبث به.
فمن مزق تلك الهوية؟ من ملأ العراق بـ (أعراب وهمج وعصابجية وقفاصة وسلّابة ومحتالين ومزوّرين ونصّابين وحشاشة وسراق ودنيئي نفس ومن ثم قتلة وإرهابيين)، من بدل الأنسنة بالحيونة ؟ من جنى على الطيبين من أجيالنا التالية وتركهم يواجهون الحياة عُزّل دون أي معارف أو ثقافة  يتسلحون بها.
(فهل العراقيون أصبحوا في ليلة وضحاها، عُماة بصيرة أم تعرضوا الى تعمية ؟).
في فجر يوم تموزي من العام 1968 كان فيه العراقيون ينامون فوق السطوح غارقون بأحلام بسيطة مبللة بماء الورد، ليصحو على صوت المذياع يُنبأهم بنهاية نظام حكم ومجيء نظام حكم جديد.
عم الهلع في النفوس، وتوجّس العراقيون خيفة عندما علموا أن مليشيات الحرس القومي وعصابات الـ (التسعة أشهر من العام 1963) هم أصحاب البيان رقم واحد !، فأحداث تلك الشهور لم تزل عالقة في أذهانهم، والدماء لم تبرد بعدْ، وكِتاب (المنحرفون) مازال على رفوف منازلهم، ذلك الذي أختار نموذجا لكل ألف جريمة قتل وتعذيب وترويع أو إغتصاب (لشابات وشباب على حد سواء) لتختزنها الذاكرة الجمعية، لشعب إعتاد الكفاف في كل شيء، الكفاف في الملبس في الطعام في الشراب، الكفاف في النزهة البريئة في سهراته الهادئة، في حلقات السمر والغناء الجماعي، في مزاليج الأبواب التي ما عادوا بحاجة إليها، فالبعض ينام وينسى غلق باب منزله، فلا أحد يهتك حرمة داره سوى هرّة تبحث عن بقايا طعام، الكفاف بالأحلام وعلاقات الحب، حتى علاقات الحب والهيام كانت في حدود تبادل رسائل الغرام.
فإذن عاد حزب البعث، وسلـّم الجميع بالأمر الواقع، ولكن كان على البعثيين أن يقنعوهم بأن الأنين والصراخ الذي كان يصل الى البيوتات القريبة من مقرات الحرس القومي لن يعود لأسماعهم ثانية.
لكنهم – أي الإنقلابيون الجدد – على ما يبدو قد فهموا ألاعيب السلطة، يدٌ تبطش بالخفاء وتذيب أجساد معارضيهم في أحواض السيانيد، ويدٌ ممدودة تبشر بالحب والتسامح والخير القادم، وعلى حد قول الكاتبة السورية غادة السمان التي فهمت المشهد العراقي من زيارة واحدة للعراق عام 1969(قمة الرعاية أو قصر النهاية)!.
في الجزء التالي نكمل بقية الحكاية.
ــــــــ
(1) البحث المذكور (ملامح من تاريخ الحركة النسوية في العراق) وهو مشروع كتاب قيد الإنجاز.
ملاحظات :
1- أشكر الكاتب النبيل (حسين عبد الزهرة مجيد) صاحب مقالة (بالعودة الى حامد الجبوري) وأتقبل منه تحامله ومقدمته (الإنفعالية) غير المبررة، منوّهاً أنني أتجنب متعمداً الغوص في الدهاليز السياسية (التي كنتُ بداخل أكثر من موضع فيها، ولي من الوثائق والعلاقات والمعلومات والأحداث التي كنتُ شاهدا عليها حد التقيؤ – على طريقة زوربا اليوناني -) لكني عندما أتناول بعضها أو بعض أبطالها في كتاباتي (فقط) لعلاقتها بالتحولات الإجتماعية التي تهمني بالدرجة الأساس، مع خالص مودتي.
2 – أشكر كل الأخوة الذين راسلوني من داخل العراق وخارجه، وأنوه أن موضوع (المخزية) المصرون على معرفتها والتي تخص (المحامي السختجي الذي نصب على الساسة) سأحاول التطرق إليها في موضع قادم.

[email protected]