أكثر الدول تعرضا لمفسدة المحسوبية والمنسوبية ووضع الرجل الغلط في المكان الغلط هي دول العالم الثالث عشر، بأحزابها أو بعوائلها الملكية المالكة أو بعوائلها الجمهورية الناهبة, وقد تعرّض العراق لمثل هذه المفسدة بشكل واضح وفاضح وجلي منذ ان قفز للسلطة حزب صدام ولاحقا عائلة صدام, فتفشت المحسوبية والمنسوبية وتفتت الدولة التي عرفناها كدولة الى حد ما لغاية حكم الرئيس عبد الرحمن محمد عارف الذي نذكر له أن ولده قيس كان ضابطا في الجيش برتبة ملازم أول دون أي إمتيازات تفرقه عن زملائه في القطعات العسكرية العراقية المتواجدة في الأردن منذ هزيمة حزيران و (كانت تعتبر منفى للعساكر), لم يتسلق المناصب ولم يصبح وزيرا للدفاع ولا آمرا للحرس الجمهوري ولا حتى ضابطا في كتيبة الدبابات في القصر الجمهوري.
يقابل هذا المثال مثالين مخزيين لعائلة جمهورية ناهبة, المثال الأول لنائب ضابط كان يخدم في معسكر H3 إشتهر بالبلادة والغباء وصرف راتبه على الكاولية (على حد وصف آمره أنذاك النقيب جودت ….. لم أعد أتذكّر أسم الأب ويعرفه أهالي مدينة الفضل ببغداد جيدا)، ليصبح هذا النائب ضابط البليد وزيرا للدفاع بقدرة القادر صدام !، والثاني دخل دورة نائبي مفوضين في الشرطة مدتها ستة أشهر – بدون شهادة إبتدائية – (وكان مطي, بحسب شهادة مدرب اللياقة البدنية في الدورة) ليصبح لاحقاً وزيرا للتصنيع العسكري ولاحقاً أخرى وزيراً للدفاع, وهكذا بقية المفاصل, ما عليك سوى أن تأتي بصفتك من العائلة المالكة أو من حواشيها أوحاشيتها أو بصفتك بعثياً، بنصف مؤهلات وأحيانا بدون مؤهلات لتفوز بالمنصب والمكرمات, وهو ما جعل العراقيون يربطون الإنتماء الحزبي بالمنافع وهذه تركة ورثناها منهم وسنورثها بعون الله الى أبنائنا وأحفادنا !!, والذي يشذ عن هذه القاعدة فهو إما مجنون أو لا (شخصية) له ومسخرة.
أتذكر هنا حكاية أحد الرفاق البعثيين في حي الزعفرانية دون حاجة لذكر إسمه, كان من الرعيل الأول والمعمرين بالحزب منذ نهاية خمسينات القرن الماضي, أراد أن يجعل من نفسه مثالا للرفيق الملتزم، النظيف اليد النزيه، المخلص لـ (عقيدته)، المتواضع مع أبناء حيه فكان له ذلك، كان الحزب وعقيدة الحزب بالنسبة له أبيه وأمه ودينه ودنياه (شاك هدومة عالحزب، خاليه بس للكراب، تقول زوجته المسكينة وتضيف : جا هلبتْ حصل له على منصب مثل ربعه، وصلة كاع, سيارة نص عمر, تعيين لأبنه, كِلْ شي ماكو), المفارقة السوداء أن مسؤوله الحزبي نعته أمامي في جلسة خاصة بـ (المخبل).
شهرة هذا الرفيق هو شذوذه عن القاعدة، ذلك لأن العقل الشعبي الذي نشأ وتبلور بعد صعود صدام وحزبه للسلطة ربط الإنتماء الحزبي بالمنفعة، وهذا هو الحال في كل أنظمة الحزب الواحد. وبقية أحزاب العالم الثالث عشر.
ويتذكر جُلّ العراقيون إن الكسب الحزبي ظلّ قائما على أساس الأغراء بالمنفعة، أي منفعة كانتْ, والحكاية التالية التي حصلت معي نموذج أسود لهذه الظاهرة، فقد حصلت على عقد عمل كمصور في مصفى الشعيبة عام 1981, وبعد أيام من مباشرتي تقرب مني أحد العاملين معي يشبه الى حد ما شارلي شابلن أسمه (جاسم لفته) وفاتحني بموضوع الإنتماء لحزب البعث معدداً المنافع التي سأحصل عليها عندما أكون بعثياً, فترددت معللاً أني لا أفهم بالسياسة, بعد شهرين حصل بيني وبين أحد المشرفين خلافٌ تطوّر الى مشادة كلامية تجمّع في إثرها عدد غير قليل من العاملين محاولين فك النزاع, فإذا بـ (جاسم) يقفز الى جانبي كالفأر ويهمس في إذني (ها ؟ لو منتمي للحزب جان هسه موّتناه بسط !). . . لا تعليق لي على هذه المنفعة !!.
هذا المتراكم من السلوك ترك أثره الواضح في الذاكرة والعقلية المجتمعية, وهو مصيبة المصائب في عراق اليوم, من خلال رؤيا الأرقام الهائلة من المنتفعين بسبب إرتباطاتهم الحزبية أو القبلية أو العائلية او الشخصية أو المناطقية على حساب غيرهم من المؤهلين وذوي الكفاءات والخبرة, لذلك سنسمع كل يوم وأنى ذهبنا في كل زوايا ومفاصل الحكومة العراقية قصص وشكاوى تبدأ ولا تنتهي من تعيينات وإشغال مناصب لا تراعي تكافؤ الفرص ولا المؤهلات ولا التحصيل العلمي ولا أي ضوابط يتطلبها نوع العمل, ناهيك عن ترشيح مسؤولين لوزارات ومؤسسات وأقسام حكومية تبعث على الإزدراء والتذمر على هذا الواقع المنافي للعدل والمضر بالبلاد والعباد ضرراً شلّ كل عمليات البناء المنشود للدولة الحديثة.
أخطر ردود الأفعال على هذا السلوك هو ما تسمعه من أي موظف تتحدث أمامه عن الإخلاص في العمل والوطنية وبناء البلد, فيأتيك الجواب سريعا ( يمعود يا أخلاص يا وطنية, الدولة ما تحترم لا شهادة ولا خبرة, تتعب لسنوات وتكتسب خبرة ويجيك واحد عالحاضر زعطوط لا عِلم لا فهم يزيحك من مكانك ويتحكم بيك ويتأمّر على راسك), وهذه خيبة أخرى تثبط عزيمة من تبقى من المخلصين في عملهم.
أصبحنا نسمع منذ ثمانيات القرن الماضي أمثالا دخيلة على مفاهيمنا وأقوالاً تحولت الى عقائد (الشاطر اللي يعرف يمشّي أموره, الشاطر اللي يستغل الفرصة, بيضة اليوم أحسن من دجاجة باجر, صير مثل الديك انقر حبايتك وإشلع، أضرب ضربتك ما نعرف باجر سيصير) إلخ.
هناك ثلاث مؤشرات خطرة تؤثر وتتحكم اليوم في سلوك موظف الدولة خصوصا والفرد العراقي عموما :
الأول : القول (إن كنتُ مسؤولا ولم أستغل الفرصة لأقدم منافع وخدمات لخاصتي من العائلة والأقرباء والمعارف فـلا خير بي), وهو موروث قديم أشار إليه فقيهنا الإجتماعي علي الوردي في أكثر من موضع, وهو آفة ضربت سابقا وتضرب اليوم بعرض الحائط مبدأ تكافؤ الفرص الذي بح صوت الأصلاحيين وهم ينادون به دون جدوى.
أعرف عضوة بمجلس نوابنا الموقر – وهي من طويلات اللسان والمحروق قلبها على النزاهة وحرمة المال العام، تصرخ يوميا وتلعلع وكأنها داعية سماوية لم يبق سوى ان نصلي على أذيال فستانها – تتباهى ويتباهى أهل منطقتها أنها عيّنت المئات منهم في دوائر الدولة, وأجزم وأنا على يقين أن أغلبهم بلا إستحقاق, علاوة على أنهم عمال غير منتجين ولم يقدموا أي منفعة للبلد مقابل المرتب الذي يتقاضوه, حتى أن أحد الوزراء أستقبلها بمكتبه وأراد أن يوصل لها رسالة خجولة من أن الوزارة أتخمت (بجمهورها), فإتصل بأحد مديريه العامين من أجل تعيين وجبة جديدة من الأسماء التي حملتها إليه, فرد المدير العام ( وين أخليهم معالي الوزير حتى ما بقى عندي كرسي يجلسون عليه!!.). أحد ابناء منطقتها قال (هاي البطلة النجيبة من صُدُك, ألعن أبوه اللي ما ينتخبها)!!.
الثاني : القول (بيضة اليوم أحسن من دجاجة باجر), وهو دلالة على فقدان الإستقرار وعدم الإطمئنان للمستقبل, فمنذ أن إبتلى العراق بالحروب والحصار حُرمَ الفرد العراقي من الإحساس بالطمأنينة وصار يردد بإستمرار (ما نعرف باجر شيصير). وهذه وحدها كافية لتصيبه بقلق دائم وتضعف لديه أي إلتزام بمباديء أو قيم أخلاقية, وتجبره على التحول الى قناص فرص دون مرعاة الى أي ضوابط قانونية أو أخلاقية, لأن الغد غير مضمون، وعندما تتمحور حياة الفرد حول فكرة إستغلال الفرص وإقتناص المنافع خلاف القواعد الحياتية والمؤسساتية المتعارف عليها عند الشعوب التي أنعم الله عليها بالتقدم والتطور والرقي الحضاري تقع الكارثة التي ريب فيها!.
الثالث : مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية وإنهيار الطبقة الوسطى بالكامل, ظهرت بوادر تفاوت طبقي إقتصادي بين العراقيين لا عهد لنا به, وصار مألوفاً أن تترك أحدهم بحال فقير لتتفاجأ به بعد فترة وجيزة غنيٌ متخم سمينْ , فإمتلأ البلد بالتجار الطفيليين والمقاولين الفاسدين ووسطاء المناقصات والمزايدات وسماسرة التوريد والتصدير, ما خلق ظاهرة الربح السريع والإثراء السريع, وهو ما جعل العراقي لا يقتنع بمرتب مهما إرتفعت قدرته الشرائية. فهو يتطلع الى نماذج حية من حوله سبقته الى الغنى الفاحش بمدد قصيرة وبقليل من الجهد, وأشير هنا أني عملت مع عدد من المقاولين خلال عقد التسعينات في ما سمي بـ (حملة الأعمار) وهي في أغلبها حملة تخريب وعمليات نهب منظم للمال العام, والتركة الخطرة التي ورثناها منهم هي أنهم أفسدوا كل الأيدي العاملة التي كنا نتباهى بها لغاية سبعينات القرن الماضي. واصبحت لا تعثر اليوم بسهولة على عامل شريف يعمل بحرص ومسؤولية, ولظميره رقابة عليه.
علينا الاعتراف بصعوبة تلافي مفسدة المحسوبية والمنسوبية, التي تحولت الى سلوك لا نخجل منه, بل أحيانا نتباهى به لما نقدمه من خدمات لخاصتنا و(لجمهورنا الخاص), والنائبة طويلة اللسان خير مثال على ذلك.
ــــــــــــــــــــــ
ملاحظة 1 : سنواصل بين فترة وأخرى توجيه رسائل الى وزارائنا من خلال عمودنا (بريد شخصي) لنكشف فيه ما أمكن تفشي مفسدة (الرجل الغلط في المكان الغلط) عسى أن نحافظ على حبّات نقية وسط بيدر من العَفنْ.
ملاحظة 2 : يبدو أن عيّودة (موضوعة البحث) في بريدنا السابق الموجه الى وزير الثقافة, صالتْ وجالتْ من جديد بعد قرائتها للمقال وعربدتْ وهدّدتْ ووجهتْ الإتهام لعدد من منتسبي دار ثقافة الأطفال بينهم الزميل النبيل والوطني الشريف (المحروق قلبه بحق على ثقافة الطفل) فنان الكاريكتير المعروف عبد الرحيم ياسر, بأنه هو كاتب المادة , وأطمإنها وأقسم للوطن لا الى (جهرتها اللي تلعب النفس) من أني لم ألتق الفنان عبد الرحيم منذ ما يزيد على سبع أعوام, وليس له أي دخل مباشر او غير مباشر بموضوع المادة, لا هو ولا أي من منتسبي الدار الحاليين.
علاوة على ذك أني لم أتطرق الى معلومات كثيرة يجهلها كل من حولك, أين كنت وما هي مؤهلاتك وكيف – عندما كنت في مجلة ألف باء – تشترطين نشر هموم الناس المساكين مقابل ثمن !!. وكيف كنت سفيرة لدوائر البلدية التي كانت تدفع لك ما تجود أيديهم, يعني كنت (تاكلين من الصفحتين) تنشرين شكوى الناس من نقص الخدمات مقابل ثمن وتنشرين رد البلدية مقابل ثمن, ومستعد أن أرسل لك أسماء من دفع لك وكم دفع لك, أفهذه هي مهنية ونزاهة الإعلام ؟ ثم ما علاقة إنسداد المجاري بثقافة الطفل حتى قفزت من فوق كل المتخصصين وشفطت منصب رئيس تحرير لمجلات دار ثقافة الأطفال ؟ أنت مثال ساطع للمفسدة التي تحدثنا عنها في المادة أعلاه، لأنك عن طريق المحسوبية والمنسوبية نهبت حق غيرك……. (الله يطيّح حظ الأعلام العراقي اللي فيه عيودة رئيسة تحرير).
[email protected]