18 ديسمبر، 2024 11:17 م

قرأت كلمة أعتراف لأحد الأخوة كانت بعنوان ” جيل من الجبناء ” أعادتني سطوره الى ما قبل أكثر من نصف قرن من الزمن لما كنا لما نزّل صغارا في المدرسة الثانوية ، ويومها كانت أنتفاضات وأنتفاضات في أنحاء الوطن العربي كل منها تكسب الجولة في ساحات النضال ضد المستعمر ، وكان التحرر وكان الأستقلال ، وكانت الشعوب العربية تنشد وتصدح وتزغرد هائجة مائجة بالهتاف بالوطن الذي نزع عنه أغلال الحبس ودفع عنه السجان .
كنا مندفعين مع الجموع المتحمسة بفعل الغريزة الجماعية والمشاركة الوجدانية نهتف مع الهاتفين ونصرخ مع الصارخين لدرجة الحمى التي تجعل العرق ينزّ من الجسم الغض تحت حرقة شمس البلاد الوهاجة …وفي نهاية اليوم نعود الى الدار تعبين جوعانين من كثرة الهتاف والصياح ” لقد قطعنا رأس الأفعى ” ، وبمعنى أن سم الأفعى وأنيابها غابوا عن أرض الوجود .
حضّنا الوالد الحكيم بنظرة كلها حب وتقدير للمجهود العظيم والحب الكبير الذي صرفناه بالهتافات والشعارات حتى غدت وجوهنا قانية حمراء من التعب الشديد ، ما كان لنا يوم ذاك عطاء أكثر من الذي كنا فيه ، وكانت مقولة الحكيم لي ،لا تتسرعوا يا أولادي ” الجلوس على التل أسلم “.. وصرخنا وزعقنا :
ـ كيف يكون هذا ؟ وما هذا الجبن ..؟!
لم يجب الأب بشئ ، لاذ بصمت عميق ، قرأت فيه عمق الخوف والقلق من تجربة السنين.
ـ عرفتك شجاعا تعرف الحق وتنادي بالحرية في كل مكان .. أحببت الوطن ووعظت الناس بالعمل ..!!
ـ …….
ـ أجبنا لما لا تتكلم ..!!؟
تحدرت دمعة من عين رجل العرب ..
ـ لا عليكم يا أبنائي ، فدمعتي هذه سبقت الأحداث والسنين لأنني شيخ وكبير .. أدرك بحسي وتجربتي ما سيكون ….
“المرأة لمّا تلد تتعذب وتتوجع وتبكي وتصرخ من وجع المخاض وها أنا أتوجع عنكم قبل أن يكون ، وستنسى الأم بعد الولادة الألآم التي عانتها وما كان .. اغفروا لي جبني الآن .. فمن أجل عيونكم .. ومن أجل حبي للوطن كي لا يبقى من دون أبناء ” .
هذا الأعتراف وجدته داخل وسادة ابي التي احتفظت بها للذكرى وللشهادة للزمن .
مرت الأيام والسنون وتزاحمت وتراكضت الاحداث ، تحرير من المستعمر وأنقلابات وسجن وقتل لمن لا يعجبهم من الحكام ومن أبناء الأرض ، ها هي الأحزاب وكثرة الأنتماءات والأعتقادات التي تخطىء الآخر وتكفر من لا يتفق معهم في الأيمان ، كل حزب يصل الى السلطة عن طريق ملء السجون ومحو السابق من ارباب السلطة بالأعدام ، كي يؤمن على وجوده والتصاقه بكرسي االسلطة والنفاق . وها هو جاهز لكي يعلن عن نفسه ويتفاخر أنه هو حارس الوطن المخلص الأمين والمنقذ ، ولا ننسى أنه اللص والدعيّ بالعدالة والدكتاتور المتنفذ وليس لك حق الرأي أو الكلام لمواجهته .

أي عالم هذا الذي نسميه التحرر من الأستعمار ؟؟؟؟
هل دافعنا وتظاهرنا لكي نمنحك الوطن كله ليكون ملك فئة لا تعرف قيمة وحق الآخر ….!!؟؟؟
هل الحكام الذين تعاقبوا بعد تحرير البلد من الأستعمار هم أحرار !!؟؟؟ وماذا حرروا ؟؟؟
صار أبن الوطن الواحد يضرب ويغتال ويسيطر على المنتمين من حزب آخر ورأي آخر ، فاذن الأحزاب يجب ان تقاتل بعضها البعض وتغتال الرأي الآخر وتدمر وتفني وتهجر وتطرد كل من يرغب أن يشارك في السلطة أو القرار ان لم يكن من حزبهم ، وهذا واقعها لتسيطر فالسجون والتعذيب الوحشي والتهديد والوعيد هم الطريق الوحيد لكي تكمم الأفواه وينفذ حكم الأعدام ومحو وجود هذا الكائن أو ذاك هي الوسيلة الحتمية لأذلال الرأي الآخر واضعافه لماذا ؟ .

اذن لماذا يأتون بشعارات ويتكلمون عن التحرر والوطنية ، وما هو التحرر والوطنية في نظرهم !!؟؟؟؟؟؟
هل الوصول الى كرسي السلطة هو المبتغى الأساسي وهذا هو الهدف والأمنية المنشودة من ركوب الجمل ؟؟؟

نظرت الى الدولاب الذي فيه حاجاتي الخاصة من ملابس وحقائب ، وكانت الحقيبة الصغيرة ذات اللون الأزرق المطرزة بطريقة جميلة بأنواع من الخرز ، كنت أحتفظت بها للذكرى من شهيد الوطن ، كان جنديا نقل من شمال البلد الى جنوبه حيث كنت أعيش مع والديّ وأخواتي وعرّفنا على نفسه أنه من قرية برطلة وتسمى اليوم ( الحمدانية ) وهي قضاء في محيط مدينة الموصل ، قدم نفسه بأسمه أسطيفان ، وللأختصار كنا نناديه أسطيفو ، كان شابا مهذبا للغاية ويحمل في أخلاقه كل الوداعة والبساطة والأمانة ، ولطالما كان يحدثنا عن نمط حياته البسيطة والمتواضعة ، وأنه يحب فتاة تعيش في بغداد وعدها بعد أن يسرح من خدمته في الجيش سوف يخطبها ، وكنا نجتمع به كل ليلة خميس حيث كان يأتي من المعسكر لكي يبيت عندنا لقضاء نهاية الأسبوع وكنا نحبه كأخ لنا .
مرت السنون وتعاقبت الأيام والأحداث ، وأنتقلنا الى بغداد وكان الوضع السياسي العام ، ننام مساء على نظام سياسي معين ونصحو على مجموعة أنقلابية أغتصبت الحكم لها وأطاحت بمن كان في الليلة السابقة ، وهكذا صارت السجون تعج بالموقوفين ، ونسمع في الأخبار عن القتلى من المسؤولين في حكومة الليلة السابقة ، والفئة التي سيطرت على الحكم الآن تعلن الى الشعب أنها قامت بثورة بيضاء كما تدعي وتنسب الى نفسها ، يا سبحان الله هل كل هذه الأنقلابات لم تلطخها الدماء الحمراء !!!؟؟؟؟
صارت السجون تعج بالموقوفين والسجناء السياسيين الذين ألتقطتهم المجموعة الحزبية التي قتلت زعيم الثورة السابقة وجاءت الى الحكم من خلال سفك الدماء وتقييد ذوي الرأي المخالف بالقيود والأصفاد . وكان الأنسان البريء الأخ أسطيفو والذي لم يكن له أي جرم ، واحدا من الآلاف الذين أودعوا دور الحجز والسجون لكي يحاسبوا ويعذبوا ويفصلوا من وظائفهم حتى يعلنوا ولائهم للغاصب الجديد .
نعم كان حظه أن يوقف في سجن بعقوبة ، لماذا ؟ أنه مواطن يؤيد فكرسياسي في تصوره هو الأصلح للوطن و يختلف عن ما يعتقده من تفكير النظام الذي سيطر على السلطة .
كان والدي بمثابة الوالد الروحي الى اسطيفان ، فوالدي كاهن وله الحق في زيارة أبناء الرعية ليتفقد سلامهم وسلامتهم ، وجاءني يوما بعد زيارته التفقدية الى أسطيفان في السجن بحقيبة يد صغيرة كان أسطيفو قد طرزها في السجن الى أخته والتي هي ( أنا) لتبقى ذكرى تحمل عنوان القهر والظلم وسرقة حرية الأنسان .
بعد أسابيع أخرى حان موعد الزيارة الأخرى الى أسطيفو ، وكان الحزن غامرا وجه والدي بعد عودته لتفقد هذا الغريب ، وتراكضنا للأستطلاع عن سلامة هذا الأنسان وكانت الدموع تملأ عينا والدي حينما نطق ، “لم أقابله لقد رحل الله يرحمه “. نعم رحل هذا الأنسان وودع حياة الجور والظلم بعد أن ذاق مرّ العذاب ، ففي فصل الشتاء كانوا يغمروه في حوض من الماء المثلج جدا لكي يحصلوا منه على أعتراف ، اضافة الى الجلّد والصعق والتعذيب بالتيار الكهربائي والتجويع والقهر والاهانة وكل هذا لأجل ما ….!!؟؟؟
فقط لكي يسيطروا على الحكم ويكونوا هم الحكام وقبضتهم على أعناق الشعب وعلى أموال الوطن وسيكون القسط الأكبر لأجل أعمالهم الأجرامية لأجل شراء الذمم من الذين يبيعون ضمائرهم لأجل ان تمتلئ جيوبهم وبيوتهم بما لذّ وطاب .
تخطت السنون وتراكمت الأحداث والخوف والرعب من الحاكم وتكميم الأفواه ، ورأينا أنفسنا نتزاحم ونتدافع بشتى أشكال الطرق والوسائل لكي نصل أرض المستعمر لكي نعيش في كنهه بسلام ، نعيش الحرية والمساوات وفرص ممارسة الحياة الحقة بدون خوف وبدون لجام ، او أحواض ماء مجمد فيه رائحة الموت والرعب من سطوة الحكام الجبناء . وصار الوطن مجرد ذكرى تحكى الى الأبناء الذين توزعوا على اقطار العالم بكل أتجاهاته وابعاده ، والعالم ما زال ولا يزال يطحن بعضه البعض من أجل التسلط ومن أجل البقاء.