رجل في الستين ينث الوقار من ملامحه المهندمة، طويل القامة ,لا اثر للسواد في شعره المرتب ، يرتدي بدلة انيقة سوداء وربطة عنق تكاد تلتهم الهواء من شدة الانسجام، ينتعل حذاء لماع ، نقي السواد ، يبدو انه كان مديرا او موظفا كبيرا في دوائر الدولة وقد احيل على التقاعد الآن ، ويتضح ذلك من الدائرة التي يراجع فيها لترويج معاملة التقاعد ،هتف بسخط:
-“ماذا فعلت بحياتي حتى تجازيني الدولة بهذا الشكل القاسي..!؟” اثارتني كلماته كثيرا وقررت ان اعرف سبب هذا السخط وان اقف عند اصل المشكلة التي تكاد ان تخرجه من ملابسه وتبعده عن وقاره. اقتربت منه وبادرته التحية ، فردها بأدب وبطريقة تنم عن انزعاج كبير و قلت:
” تبدو منزعجا كثيرا يا اخي…خير..!؟”
اجاب بغضب وبصوت عال محاولا توصيل معاناته للواقفين في صالة الانتظار المكتظة في مديرية التقاعد:
– “من اين يأتي الخير يا اخي ، بعد خدمة اربعين سنة لم اتمتع باجازة ليوم واحد وقد قضيت تلك الخدمة بجد و حرص، وبعد هذا كلة جردوني من وظيفتي تحت ذريعة (بلوغ السن القانوني ). في هذا العمر يتوجب على الدولة مواخاة المبادئ الانسانية والاعراف العامة للمتقاعد والاهتمام بتلك الاعمار و ضمان راحتها، ولكن ما زاد الطين بلة انهم قطعوا راتبي الشهري ، وموردي المالي و قوت عائلتي الوحيد ،وقد ومضى على انفكاكي من الوظيفة سنة كاملة وانا اركض من دائرة الى اخرى ولم استلم شيئا مع العلم لدي مسؤوليات عائلية ثقيلة وابنائي لا يزالون طلبة موزعين بين المدارس الثانوية والجامعات….!! لقد نفذ صبري واكاد اخرج من ملابسي من شدة الظلم….!؟”
بدأت افكر بكلام هذا الرجل مليا ووجدت ان كل كلمة قالها اصابت موقعها في نفسي وهي حقيقية وواقع يومي نعيشه ونحس به و نتلمسه بشكل فعلي ، و ما يحدث في العراق شيء عجيب وغريب وغير طبيعي وبعيد عن المنطق ، وخالي من الانسانية ، فالتقاعد قانون جائر وشوفيني لكونه يقرر نهاية حياة الموظف بانتهاء خدمته ولم تنتبه المؤسسات الانسانية لهذا القانون القسري والذي يتلخص مفعوله كوارث انسانية قاتلة منها:
طرد الموظف من وظيفته بشكل قسري وتجريده من راتبه الشهري وبقانون غريب (بلوغ السن القانوني) بمعنى من يبلغ الثالثة والستين من العمر تتخلى عنه الدولة بشكل نهائي ويصبح اجنبي ، ويعاد الى البطالة مرة اخرى ليبحث عن عمل من جديد لاعالة نفسه وعائلته،
عدم احترام الخبرة و كبر السن ، حينما يدخل الموظف عمر الشيخوخة تحاول الدولة التخلص منه والقاءه في الشارع كالقمامة و كالخيل عندما تكبر يحاول اصحابها التخلص منها بالقتل رميا بالرصاص لذلك تحاول الدولة اذلال المتقاعد وتجويعه كجزاء لخدمة الطويلة وهذا ما يبدو من ممارستها الغير انسانية للمتقاعدين….!
تجاهل الاعلام قضايا الانسان العراقي المسحوق كشريحة المتقاعدين والاهتمام بمتابعة الصراعات السياسية والمذهبية بين الطوائف العراقية والمواضيع التي تخدم بعض الاجندات الخارجية التي ترمي لموضوع واحد هو تسقيط الحكومة ولم تقف عند مشكلة المتقاعدين تلك الشريحة الواسعة و المضطهدة في المجتمع العراقي….!؟
وانا غارق في صراعي الداخلي انطلقت مني حسرة بشكل عفوي، انتبه لها الرجل وسألني:
“ما بك يا اخي..!؟
” اجبت بارتباك وتلعثم وكادت الكلمات تهرب من لساني وقلت:
– ” انا…انا… مثلك يا اخي تقاعدت قبل عشرة ايام وهمي كهمك….!!”
حاولت الهروب من نظراته وكلامه المؤثر فغيرت مجرى الحديث متسائلا :
– “هل قدمتم شكوى عن طريق ممثليكم في البرلمان او اعضاء مجلس المحافظة للدفاع عن قضيتكم ..؟!”
نظر لي بتهكم واطلق ضحكة طويلة جلبت انتباه جميع المراجعين وقال:
_” رحم الله والديك يا اخي….هل تعتقد ان هؤلاء يمثلون الشعب العراقي، ان اهتمامهم منصب على مصالحهم الشخصية فقط….!؟ الم تشاهد تصريحاتهم الرنانة من الفضائيات وشتم واتهام احدهم الآخر…..!؟ مضت عشرة سنوات على تعديل قانون التقاعد ولم يقروه او يوافقوا عليه حتى ضاع بين اقدامهم…!!…..اذا اردت ، يا اخي ، ان تبحث عن حقك يجب ان تبحث في قمامة البرلمان او تحت الكراسي ستجد هناك حقوقك وحقوق الشعب العراقي المسلوبة……!؟”
ومرة اخرى تدخل كلماته ذهني كصوت الرصاص واشعر بحرارة الدموع بين جفوني دون ان احس بذلك حتى احمرت عيناي وتكسرت الكلمات في صدري ولم استطع الرد ،وخرجت من الدائرة هاربا افكر بالمصير الذي ينتظرني وعائلتي بعد تقدمي بالسن وبلوغي الرابعة والستين .بدأ الخوف يتسلل لمخيلتي والاسى والاحباط يغزو سريرتي وخاب ظني بكل شيء وشرخت كل القيم و المبادئ التي احملها عن التغيير والحرية والديمقراطية والتقدم و التحرر والوعي السياسي ….!! وبدأت اتساءل ، هل يعقل ان التغيير السياسي الذي انتظرناه طويلا هو اكذوبة كبيرة صنعها السياسيون للضحك على ذقون الشعب العراقي….!؟ واعدت النظر بكل شيء وبدأت انظر الى الاشياء بشكل معكوس ومختلف وسوداوي…..!
مر على ذلك اسبوع تقريبا وعدت الى دائرة التقاعد مرة اخرى لترويج معاملتي وحين دخلت الدائرة تملكني الفضول وسالت الموظفين عن ذات الرجل فجابوا بصوت واحد:
– “من تقصد الاستاذ علي”
واتضح ان اسمه معروفا لجميع سكان الدائرة لكثرة مراجعاته ..!!؟” قلت :
– “نعم !؟”
اجاب الموظف المسؤول عن ارسال المعاملات الى بغداد واستلامها :
-” لقد حدث خطأ في معاملته وصحح الخطأ ، ثم اعدنا المعاملة الى بغداد مرة اخرى لغرض تدقيقها…..!؟”
صفقت راحتي اسفا لحظ هذا الرجل التعس و الذي ارى نفسي فيه وسألت ! :
– “كم من الوقت يستغرق ذهاب المعاملة وعودتها من بغداد..!؟ “
ابتسم الموظف وقال:
– “حوالي ستة اشهر..!؟”
جفلت من جواب الموظف و شعرت بألم في صدري وكانه طعنة سكين ووخز في قلبي وقلت في تفسي، اعتقد اننا سنموت قبل استلام الراتب التقاعدي وان هذه المديرية هي مقبرة لمن افنى عمره في خدمة هذا الوطن…..!؟