ما معنى العيش المشترك من منظور إسلامي؟ كيف فهم المسلمون فطرة الاختلاف بين الناس جميعا، ودعوة الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى العيش المشترك، ليس فيما بين المسلمين أنفسهم فحسب، بل مع غيرهم من معتنقي الديانات الأخرى وغير المتدينين؟ وماهي أسباب عدم التزام ثلة من المسلمين بقيم التعايش والتسامح مع بعضهم بعضا ومع غيرهم، والتي أدت إلى مزيد من الخلافات والنزاعات؟
في اللغة، العَيْشُ: معناهُ الحياةُ، وما تكونُ به الحياةُ من المطعم والمَشْرَبِ والدَّخْل. قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا} والمعيشة والأرزاق مقسومة في هذه الدنيا لكل الناس. والتعايش على وزن “تفاعل” الذي يفيد العلاقة المتبادلة بين طرفين. ومصطلح “التَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ” تَعْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ خَلْقُ جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ بَيْنَ الشُّعُوبِ بَعِيدًا عَنِ الحَرْبِ وَالعُنْفِ.
وفي الاصطلاح: العيش المشترك هو اجتماع مجموعة من الناس في مكان معين تربطهم وسائل العيش من المطعم والمشرب وأساسيات الحياة، بغض النظر عن الدين والانتماءات الأخرى، يعرف كل منهما بحق الآخر دون اندماج وانصهار. وقد يقصد بـ “التعايش” التفاعل ومشاركة الآخر بفعل العيش أي الحياة بتوفير مقومات الحياة التي تعين على العيشة الراضية.
يشمل مفهوم التعايش تعايش الإنسان مع ذاته هو، ومع الآخر داخل جماعته أو خارجها، وتعايش الجماعة مع الفرد العضو في نفس الجماعة أو في غيرها ومع الجماعات الأخرى، وتعايش الجماعات الأفقية والعمودية في المجتمع الواحد، وتعايش الأكثرية والأقلية، وتعايش بين الأغلبية من جهة، والأقلية أو الأقليات من جهة أخرى، وتعايش بين الشعوب أو الأمم أو الدول أو الحضارات المختلفة، وتعايش مع البيئة الطبيعة.
يكاد يتفق الناس على أن تنوع الثقافات واختلاف اللغات وتباين الأفكار سنة كونية، اقتضتها مشيئة الخالق عز وجل، فلا تفاضل بين الناس في أجناسهم وألوانهم وأصولهم وأممهم وشعوبهم إلا في التقوى، حيث قال الله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إن فِي ذلك لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) ذلك لأن الله خلق الناس أجناسا وألونا وعقائد مختلفة، وجعلهم شعوبا وقبائل لــكي يتعارفوا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ثم جعل التقوى ميزانا للتكريم الإلهي، ومعيارا أساسيا في تحقيق وحدة الغاية، عند بني البشر على اختلافهم، علاوة على أنها من أسباب حسن المعيشة وازدهارها.
وفي السنة النبوية، أوجد النبي “ص” في المدينة مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة، وحيث الانتماء القبلي، والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، المهاجرون من قريش، والمسلمون من الأوس والخزرج، والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة، بنو قينقاع، وبنو النظير، وبنو قريظة والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، وغيرهم.
رُوي إن النبي “ص” (آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة فكان يرث المهاجري من الأنصاري، والأنصاري من المهاجري ولا يرث وارثه الذي كان بمكة، وإن كان مسلما لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فـــــــــي سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا).
وفي الوقت الذي عقد فيه رسول الله “ص” مواثيق الأخوة بين المسلمـين، سعى إلى عقْد مواثيق المعاهدة بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك حـــــــين وضع الصحيفة التي تضمنت الخطوات الأولى لدستور المدينة المنورة الذي رام مــــن ورائه تنظيم الشؤون الاجتماعية لساكنيها من المسلمين وغير المسلمين، مـــــن خلال إبرام عقود المؤاخاة بين المسلمين أنفسهم، وعقود الموادعة بين المسلمين واليهود، إذ أن من جملة ما ورد في تلك الصحيفة: (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم … وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث ما ليهود بني عوف…).
يرى المرجع الديني آية الله السيد صادق الحسيني الشيرازي إن “التعايش هو الطريق الوحيد إلى الحياة الكريمة المطمئنة الخالية من العنف، وهي الحياة التي يتعايش فيها الإنسان مع أخيه الإنسان، وإن اختلف معه في التوجّهات الفكرية والعقائدية والسياسية، فالناس صنفان: (إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) كما يقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه”.
ويقول سماحته “يجب أن يبدأ هذا التعايش من أنفسنا، إي في علاقتنا مع الزوجة ومع الأهل ومع المجتمع، وينبغي أن يكون هذا التعايش في مختلف المستويات، من مرض وفقر ومصيبة وابن عاق يؤذي والديه وما أشبه. فعلى الإنسان أن يتكيّف مع هذه الأمور ويتعايش معها حتى تستمر عجلة الحياة بصورة طبيعية”.
هذا الاختلاف في التكوين البشري، أوجد أرضية خصبة لتكامل العطاء الإنساني، من خلال تبادل المعارف والأفكار، وتنمية المواهب والطاقات، وتحقيق المصالح والاحتياجات، إلا أنه في الوقت نفسه، ساعد-أيضا -على تهيئة أرضية مناسـبة للبغضـاء والكراهية؛ فعوض أن يعيش الناس-في ظل وجود الاختلاف فيما بينهم-آمنـين على أنفسهم وأموالهم، متعاونين على تحقيـق مصـالحهم، يعيشون اليوم في ظروف قاسية، تكاد تهلك الحرث والنسل على حد سواء؛ بسبب وقوع الخلافات والنزاعات والحروب بين الناس المختلفين.
بعض المفكرين يرى أن “المخاطر التي تواجهها الأمة الإسلامية فـي مشـارق الأرض ومغاربها متنوعة ومتعددة، لكـن أعظمهـا خطـرا وأكثرها ضررا هو عدم قدرتها على تجاوز الأزمات التي تنشأ داخلها؛ والتـي تنـتج عـن الاختلافـات الفكريـة والمذهبية التي لا تخرج عن دائرة الإسـلام؛ إذ ينبثـق عن هذه الاختلافات الصراعات والنزاعات، التي تفضي في كثير من الأوقات إلى اعتداءات ماديـة؛ تصـل أحيانـا إلى سفك الدماء وانتهاك الأعـراض، وبعبـارة مختصـرة يمكن القول إن من أعظم ما تعانيه أمتنا الإسلامية في ظل هذه الاختلافات هو عدم القـدرة علـى التعـايش فـي وجودها، وذلك نابع من عـدم الفهـم الصـحيح لحقيقـة الاختلاف، لاسيما إذا أدركنا أن سنة الاختلاف سنة جارية لا يمكن زوالها لأن الله جل وعلا أرادها.
يحمل بعض المفكرين الأحزاب السياسية والقادة السياسيين مسؤولية التفرقة المجتمعية حيث يقول: “إن التعاطي السياسي النفعي مع مسألة التنوع المذهبي والديني والعرقي أو الطائفي والاثني جعلنا نعيش اليوم حالة من التكفير والصراع والتجييش العاطفي الذي يستنزف الطاقات العربية والإسلامية ويشيع البغضاء والإقصاء في امتداد فصولنا الأربعة، حيث أصبح الصراع مستعرا في كل مكان؛ السودان سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، البحرين، لبنان، وغيرها من ديار العرب، مثلما هو في أفغانستان وباكستان ومالي ونيجيريا وغيرها من بلاد المسلمين. ونجده يحدث على مستوى الأفراد والمجتمعات والمؤسسات كما هو على المستوى الوطني وعلى المستوى القومي والإسلامي، ورغم أن هناك العديد من الصراعات محلية الطابع إلا أنه يتم التعبير عنه بطرق متعدية للحدود والقيود.”
يذكر الامام المجدد السيد محمد الشيرازي عددا من متطلبات العيش والتي من أهمها: (معالجة الأنانية ونفي الغرور والتعصب، ورفض تحجيم فكر الآخرين، وتأصيل وحدة الجنس البشري، ورفض التجانس القهري تحت أي ظرف كان، والتسامح وقبول الآخر مهما كان دينه أو معتقده الفكري أو السياسي، والسماح للمُختلًف معه ممارسة قوانينه وطرح أفكاره حتى وإن كان ضمن المجتمع الإسلامي أو الحكومة الإسلامية التي تختلف معه).
وفي المحصلة، نخلص إلى ما يأتي:
– إن الاختلاف فطرة تكوينية، بها يحصل التعارف والتفاهم، وتحقق المصالح والاحتياجات، وإن جعل الاختلاف سببا للبغضاء والعداوة هو انحراف عن الهدف الإلهي في العيش المشترك.
– إن التعايش السلمي والتعامل الإنساني اللائق ييسر على الناس تبادل المنافع الفكريـة والماديـة، وحـل المشكلات التي تواجههم في مجتمعـاتهم، ويـوفر لهـم حياة آمنة مستقرة مطمئنـة، تتـيح لهـم فـرص التطـور والتقدم، وتساهم في تنمية المجتمع والرقي به.
– إن قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان. فالدين الإسلامي بكل نظمه وتشريعاته، جاء من أجل تحرير الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته. لذلك فإن الدين هو الرافد الأول الذي ننتزع منه حقوق الإنسان الأساسية.
– إن الصراع عرقيا كان أو دينيا، مذهبيا أو طائفيا ليس قدرا محتوما ولا حتمية تاريخية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ولا المجتمعات الإنسانية، إذا إن الإرادة الواعية والعقل النافذ الحصيف قادر على معرفة القضايا الكبرى التي تتخفى وراء ضلال التكفير والتجييش العاطفي للمشاعر المنحرفة.