ان المتتبع للوضع في العراق بعد العام 2003 يجد تنافساً واضحا بين الدول الإقليمية للسيطرة عليه، وفي مقدمتهم تركيا وايران اللاعبان الرئيسيان والمتنافسان الإقليميان اللذان يحاولان الاستفادة من الحالة العراقية لفرض اجندتهما وبما يمتلكان من عناصر تؤهلهما لتأدية هذا الدور. وهو ليس بجديد فالتأريخ مازال يحتفظ بالكثير من الذاكرة للمعارك التي حدثت على تربة هذا الوطن وابرزها التنافس بين الامبراطورية الفارسية والامبراطورية العثمانية والتي ادت إلى التناحر بين طوائفه، وفي النهاية اوصلنا هذا التنافس الى الاقتتال الداخلي بيننا فما حقيقية هذا التنافس.
ان انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات من القرن الماضي فرض صراعا تركيا – ايرانيا على الجمهوريات الاسلامية في اسيا الوسطى واستطاعت تركيا من خلال الدعم الامريكي من احتواء الجمهوريات وابعاد النفوذ الايراني عنها مما ولد خيبة امل لدى القادة الإيرانيين وهم يرون تلك الجمهوريات المتاخمة لحدودهم تسقط بيد العدو التقليدي لهم تركيا، لذلك ذهبت انظارهم تتجه بقوة نحو العراق وخاصة ان الوضع في العراق بعد العام 1991 كان يتجه نحو الهاوية بعد ان كان القوة التي تؤثر وتمنع تركيا وايران من مد نفوذهما الى المنطقة العربية وكان الموازن الاقليمي لهذا التنافس ومن ورائها اطماع الدولتين.
ان العلاقات التركية – الايرانية بعد الحرب العالمية الثانية تميزت بالحذر الشديد وانعدام الثقة المتبادلة وذلك لحساسية الملفات التي يشتركان فيها، ولا ننسى تأثير العامل الديني في علاقاتهما كما ان ارتباط تركيا بعلاقات مع الولايات المتحدة واسرائيل قد اثر على التقارب بينهما الا ان هناك عوامل اخرى تشترك فيها مصلحة الدولتين منها القضية الكردية وكذلك المحافظة على بقاء العراق ضعيفا لكي لا يؤثر على نفوذهما في المنطقة. كما انهما يسعيان لزعامة الخليج العربي والسيطرة عليه.
ان احتلال العراق في العام 2003 قد غير موازين القوى وخلق فرصا امام الدولتين على المستوى السياسي والامني والاقتصادي واصبح نقطة خلاف بين الدولتين بدلا ان يكون نقطة التقاء بين تركيا وايران ومصالحهما الحيوية .
نأتي على الجانب السياسي فتركيا ترى ان الحل السياسي في العراق يتمثل في وجود حكومة مركزية في بغداد تسيطر على كافة الاراضي العراقية ويشترك كافة اطياف الشعب في المشاركة فيها والهدف منها تقليل النفوذ الايراني في السيطرة على الحكومة كما تسعى الى ايجاد موطئ قدم للتركمان من خلال تمثيلهم في هذه الحكومة كما انها وظفت علاقاتها المتينة مع اقليم كردستان للتأثير على القرارات المصيرية التي قد تتخذها الحكومة المركزية.
اما ايران فإنها تؤيد ان يكون العراق ذا حكومة مركزية ضعيفة معزولة عن التأثيرات العربية والغربية ومهيمن عليها من قبل التيارات السياسية القريبة منها، كما انها استطاعت ان تهمين على بعض التيارات حتى تلك التي تختلف معها عقائدياً وهذا ما لاحظناه مع الحزب
الاسلامي (احد ابرز الاحزب الممثلة للطائفة السنية) وكذلك المكون التركماني وخاصة بعد احداث داعش الارهابية حيث نسجت معهم علاقات ادت الى تطويق المشروع التركي ومنعته من التأثير عليهما في المناطق الخاضعة لسيطرة حلفائها. ولا ننسى ان لهذه الدولتين هدف واحد في منع عودة العراق الى سابق عهده بحيث يصبح قوة اقليمية مؤثرة وخاصة وان له عمقاً عربيا يستمد قوته منهما.
اما في الملف الامني فانهما تشتركان في اهداف قد تكون متقاربة و منها منع قيام دولة كردية مستقلة في الحدود المشتركة بينهما، كما يشتركان في مكافحة الاحزاب الكردية المسلحة التي تنشط على حدودهما ومنها حزب العمال الكردستاني وحزب الحياة الكردي والذي لديه قواعد في شمال ايران. في حين ان تركيا تخشى من بقاء العراق مصدراً للإرهاب الموجه ضدها، كما انها تخشى من التغيير الديمغرافي في العراق لأنها ستفقد الكثير من نفوذها السابق وخاصة في كركوك، في حين ان ايران تستفيد من هذا التغيير لزيادة نفوذها داخل المناطق التي كانت تعتبر عصية على تواجدها واستفادت من قضية محاربة تنظيم داعش الارهابي في العراق في توحيد الفصائل المسلحة تحت قيادتها واصبحت تؤثر في المشهد الاقليمي وهي الان تتواجد عند الحدود التركية في معارك الموصل وكذلك في سوريا ليضع تركيا في موقف حرج قد يدخلها في مواجهة وهي غير مستعدة لها ولكنها لا تغامر في امنها وستضطر لإظهار الحزم عندما تستشعر الخطر الحقيقي وخاصة عن وجود معلومات تشير الى تعاون ايراني في الفترة الاخيرة مع حزب العمال الكردستاني والذي تعتبره تركيا خطا احمر لا تسمح بتجاوزه نهائياَ.
ان احتلال العراق في العام 2003 خلق فرصا قوية تمثلت بالمصالح الاقتصادية لكلتا الدولتين واستغلتهما دون ان تكون هناك تكافؤ في الفرص بسبب ضعف الدولة وانعدام الحس الوطني لدى قيادته والعمولات التي نخرت الدولة بكاملها، إضافة الى حماية الفساد والمفسدين من قبلها.
ان العراق يمتلك من احتياطات الطاقة مما يجعله محط اطماع الدول وبالأخص دول الجوار، إذ ان ايران بدأت تشعر بتقلص احتياطاتها من النفط وتركيا تسعى لكي تصبح سوقا تسيطر على مصادر الطاقة في هذه المنطقة من العالم، كما ان ايران وبفعل سيطرتها على مصادر القرار في العراق استطاعت من الاستحواذ على الكثير من الابار النفطية القريبة من حدودها مع العراق وبالإضافة الى تشجيعها على تهريب النفط الخام اليها عن طريق الفصائل المنضوية تحت قيادتها او تلك التي لها نفوذ عليها دون ان تكون هناك اجراءات رادعة من قبل الحكومة. كما انها جعلت من العراق سوقا لمنتجاتها الصناعية والزراعية كما قامت بقطع كل الروافد المائية التي تغذي العراق لتدمر الزراعة فيه ويبقى الاعتماد عليها في استيراد الفاكهة والخضروات الى بلد الرافدين او كما يطلق عليها ارض السواد، كما ان تركيا كذلك تشترك مع ايران في حرب المياه وانشاء سدود اضافية على نهر دجلة والفرات وتتحكم بحجم المياه المتدفقة الى العراق والتأثير على الزراعة بحيث تدفع العراق الى الاستيراد بدلاَ من الانتاج.
المشكلة في هذا التأثير ان العراق لا يستطيع ان يتجاوزه وذلك بسبب تركيبته العرقية والدينية والتاريخ المشترك مع هاتين الدولتين بحيث اصبح يمثل امتدادا للأمن القومي التركي
والايراني ويحتل الاولويات في تخطيط سياستهما الامنية والاقتصادية وسيبقى التأثير فاعلا لسنوات عجاف اخرى. وان تلك الدولتين تعتمد في فرض الهيمنة على المعسكر الذي تربطه مع تلك الدولة قواسم مشتركة أيديولوجية وتاريخية وغيرها وكأننا نعيش عصر مابعد الحرب العالمية الثانية.
الايميل: