ذكرتُ ضمن مقالاتي المنشورة على هذا الموقع الأغر أن قوّة مدرّعة من الجيش المصري كانت قد تقرّر أن تتواجد بشكل دائم في العراق، وكان ((الهدف المُعلَن)) من ذلك إجراء تمارين ومناورات مشتركة مع وحدات من الجيش العراقي، إضافة الى تحقيق لقاءات وصداقات بين ضباط من الجيشين كي يتعرّف كل جانب على إمكانات وخواص وأساليب عمل الجانب الآخر وحتى مستوى ضباط الصف والجنود، من خلال التدريب المشترك كخطوة أُولى نحو تحقيق الوحدة العسكرية بين الجيشين وصولاً الى الوحدة السياسية بين البلدين.
ولدى إلتحاقي الى “الحرس الجمهوري” مطلع شهر (آب/1964) علمتُ أن تلك القوة سترابط في “معسكر التاجي” الواقع على بعد (40) كيلو متراً من قلب “بغداد”… وكان الرأي السائد آنذاك، وخاصة في الشارع العراقي، أن القوة المذكورة هي التي ستكلّف بمهمة حماية “بغداد” من أية تحركات عسكرية قد تحاول الوصول الى العاصمة لتنفيذ محاولة إنقلابية ضد الرئيس “عبدالسلام عارف”، إذْ كان العراقيون يتحدثون عن ذلك جهاراً.
ولكن الحقيقة كانت غير ذلك في قناعتي، فنحن ضباط الحرس الجمهوري، وعلى الرغم من إطلاع آمِرينا لنا على بعض تفاصيل “خطة أمن بغداد” في أول الأمر، والتعديلات التي أُجرِيَتْ عليها لاحقاً، لم نتعرّف على أيّ دور للقوة المدرعة المصرية ضمن تلكم الخطة، ولا لأي تنسيق معها في هذا الشأن… وإذا ما إفترضنا أن لها دوراً ما، فلربما كان بتنسيق مباشر بين ديوان رئاسة الجمهورية والدوائر الكبرى المسؤولة في وزارة الدفاع وبين قائد القوة المصرية من دون أن نطّلع عليها.
وصلت طلائع تلك القوة فعلاً الى قاعدة الرشيد الجوية شرقيّ بغداد، على متن طائرة نقل عسكرية يوم (5/أيلول/1964)، والتي حملت بضع عشرات من الضباط وضباط الصف المصريين الذين إنحسرت مهمتهم في تأمين إسكان القوة التي ستصل لاحقاً، واُسلوب إعاشتها والبحث في تفاصيل أمورها الإدارية والمعيشية، وتحديد ثكناتها وتسلّم تجهيزاتها ومعداتها وأسلحتها، وتوزيع أفرادها على القاعات المخصصة لمنامهم، وكيفية التنسيق مع الدوائر العسكرية العراقية ذات العلاقة، وتحديد نهج الإرتباط بين قيادتها ورئاسة أركان الجيش العراقي.
وبإنقضاء الأيام وصولاً الى نهاية عام 1964، علمتُ من زملائي الضباط حقائق محددة، لا بدّ من ذكرها في هذا الصدد، ولكني وغيري من الضباط لم نطّلع عليها في وثائق مكتوبة، أو نسمعها من شخص مسؤول في الدولة، إنما كان حديثاً متداوَلاً في بهو الضباط وغرف منامهم:-
أولاً: أن ضباط ومراتب القوة المدرعة المصرية قد تمّ نقلهم الى العراق على متن طائرات نقل عسكرية عراقية، وعلى نفقة الحكومة العراقية، تنفيذاً لبرتوكول الوحدة العسكرية المزمع إقامتها مع “ج.ع.م” إستناداً إلى إتفاقية (26/مايس/أيار1964) والتي أرْسَتْ الأُسس الأولى للوحدة.
ثانياً: أن القوة المذكورة لم تجلب معها سوى الملابس العسكرية والتجهيزات الشخصية، وأن الجيش العراقي قد تَكَلَّفَ بتجهيزها بعشرات الدبابات من طراز (ت-54) وناقلات الاشخاص المدرعة من طراز (ب.ت.ر-152) وبعض المدرعات سوفييتية الصنع، وبمختلف الأسلحة الشخصية والمَدافع والأعتدة والمُعدّات والسيارات والأجهزة اللاسلكية والسلكية، والتجهيزات العسكرية الضرورية، والآثاث، والتجهيزات المكتبية، وفقاً لملاك متكامل وعلى نفقة الدولة العراقية.
ثالثاً: أن القوة المصرية، لدى قيامها بإجراء التمارين والمناورات في الأراضي العراقية، فأنها تطبّقها في منطقتي” الثَرثار والحَبّانية”، وأن ناقلات دبابات وشاحنات عسكرية عراقية هي التي تنقلها إلى المنطقتين، وأن طائرات القوة الجوية العراقية تقوم بإسنادها بالعتاد الحي.
رابعاً: أن جميع ضباط ومراتب القوة يتسلّمون راتبَي شهرين معاً بـ”العملة الصعبة” من خزينة الدولة العراقية (البنك المركزي)، يُدفَع أحدهما الى عائلاتهم في “مصر” والثاني إلى شخوصهم في العراق، وأن الحكومة المصرية التي تتسلّم مجموع الراتبَين معاً، فإنها لا تدفع مبالغها إلى منتسبي القوة بـ”العملة الصعبة” بل بـ”الجنيه المصري”… ولمّا كانت هناك إتفاقية إقتصادية بين الحكومتين تقضي بمعادلة” الجنيه المصري” بـ”الدينار العراقي” لدى” البنك المركزي” للدولتين، فإن الضابط أو الجندي المصري لدى تسلّمه راتبه في “معسكر التاجي” بالعملة المصرية، فإن له الحق في مراجعة “البنك المركزي العراقي” أو أحد فروع مصرف الرافدين في “بغداد” لتبديل ما يحمله من جنيهات مصرية بـ”الدينار العراقي”، ممّا يكلّف خزينة العراق مبالغ كبيرة مُضافة.
خامساً: أن تلك القوة ليست” كتيبة دبابات” لوحدها، بل أنها “جحفل” متكامل، أي أنها تضم أفراد فوج مشاة آلي/ميكانيكي وكتيبة مدفعية إسناد قريب، وسرية مغاوير،
وسرية تموين ونقل، ومعمل تصليح، ووحدة ميدان طبية وغيرها، وأن تعداد أفرادها يبلغ حوالي (2200) شخص يعيشون ويتمتّعون من موارد العراق فيشكّلون عبئاً ملحوظاً على ميزانية الدولة.
كان معظم ضباط فوجنا-وأنا من ضمنهم- يتحدّثون بإمتعاض عن هذا ((البذخ)) الذي لم يكن له مُوجِب في قناعتنا، وحينما نصل الى باب مغلق في المناقشة الدائرة، نعود إلى ترديد المثل المصري الذي كان سائداً في حينه، والقائل ((ما لنا وما للسياسة))، فالقرار السياسي الذي يتّخذه رئيس الجمهورية لا قدرة لنا على مناقشته أو تغيير توجّهاته.
خلال الأيام الأولى من تكليف سريتنا بواجب حماية القصر الجمهوري إعتباراً من (1/12/1964) شاهدتُ ليلاً ضابطاً يرتدي ملابس عسكرية غير عراقية وقبّعة رأس (كاسكيت)، طويل القامة، رشيق البنية، أحمر الشعر، وقد وضع على عينيه نظارات طبية ذات عدستين ملوّنتين، يحمل تحت إبطه “عصا تَبَخْـتُر”، يسير بخطوات متّزنة مُوحَّدة مع خطوات “عبدالسلام عارف” الذي كان متواصلاً في حديثه، وقد خرجا من أروقة الجناح الخاص لرئيس الجمهورية إلى وسط الباحة الوسطى للقصر، وتوجّها نحو الباب الرئيسي وصولاً الى خارج المبنى حيث الحديقة الأمامية الكبرى… وقد علمتُ -بعد الإستفسار- أنه “المقدم الركن إبراهيم عُرابي” قائد القوة المدرعة المصرية المتمركزة في العراق، وأن تسمية منصبه الرسمي هو “قائد القوات العربية في العراق”، وأنه يزور “عبدالسلام عارف” بمعدل مرة واحدة كل شهر على أقل تقدير، ولكنه مخوَّل بالحضور في القصر الجمهوري في أي يوم يشاء، وأن رئيس الجمهورية يَكُنُّ لشخصه إحتراماً خاصاً، لا لكونه قائداً للقوة المصرية فحسب، بل لأنه من عائلة الزعيم المصري الراحل “أحمد عُرابي”ó، وبوصفه أحد الضباط المقربين الى شخص الرئيس “جمال عبدالناصر”، ناهيك عن وصف “عبدالسلام عارف” إياه بأنه “ضيف عربي عزيز على قلبه”.
لم أُقابل “إبراهيم عرابي” وجهاً لوجه، إذْ لم يصادف وأن مَرَّ أو جلس في “غرفة التشريفات”، بل كان يدخل الى القصر من بابه الرئيس ويتوجّه مباشرة إلى الجناح الخاص لرئيس الجمهورية مصحوباً بأحد المُرافقين دون إنتظار… ولكن، عندما أوعَزَ ديوان الرئاسة الى آمر فوجنا بضرورة تكوين وإدامة علاقات شخصية مع ضباط القوة المدرعة المصرية، تكون بدايتها مأدبة إفطار كبيرة لهم يقيمها فوجنا
خلال الأيام الأولى من شهر (رمضان المبارك/1384هـ) والتي صادفت الأيام الأولى من شهر (كانون الثاني1965) إذْ حضرها أكثر من (50) ضابطاً مصرياً لتناول طعام الإفطار في مطعم ضباط فوجنا… فقد رأيتُ ذلك القائد عن قرب.
كان “إبراهيم عرابي” ذا شخصية متسلّطة، لا يضحك ولا يبتسم حتى مع ضباطه الأقدمين، قليل الكلام، هادئ الحركات… لم يتناول من الطعام إلاّ قليلاً، على الرغم من إحتواء مائدة الإفطار على ما لذّ وطاب من اللحوم الحمراء والبيضاء، والفواكه والحلويات، وذلك قبل أن يؤدي صلاة المغرب بخشوع تام أمام جمع من ضباطه الذين إصطفّوا خلفه… لاحظناه مستمعاً جيداً قبل أن يكون متكلّماً دقيقاً يستقي عباراته وطروحاته وإجاباته بحذر وذكاء… وبينما حضر الضباط المدعوّون قبل ما يزيد على نصف ساعة من موعد الإفطار، فإنه لم يحضر سوى قبل بضع دقائق منه، إذْ نهض الجميع إحتراماً له.
قابلتُه للمرة الثانية عندما أقامت قيادة القوة المذكورة حفل عشاء لضباط من فوجنا في معسكر التاجي، ولم يحضره “إبراهيم عرابي”، بل قام بزيارة القاعة التي كنّا جالسين فيها بوقت متأخر بعد صلاة العشاء، ولبضع دقائق وقوفاً، ومن دون أن يكلِّف نفسه بالجلوس معنا.
لم أتلمّس تأثيراً يُذكر، بعد الحساسية السلبية التي أحدَثَها تصرّف الرئيس “جمال عبدالناصر” بمنح اللجوء السياسي لعدد من كبار الضباط العراقيين الذين حاولوا القيام بحركتهم الإنقلابية يوم (15/أيلول1965) على العلاقة الشخصية الحميمة التي كانت قائمة بين “عبدالسلام عارف” و”المقدم الركن إبراهيم عرابي”، إذْ ظلّت زياراته متوالية الى القصر الجمهوري، وتجواله مع الرئيس في حدائق القصر وأروقته قائماً، وذلك قبل أن يتم تبديله بـ”العقيد الركن عبدالحميد حمدي عبدالعزيز”… حتى أن كتيبة الدبابات وسرية المغاوير التابعة للقوة المصرية تقرّر إشراكهما في إستعراض الجيش العراقي لمناسبة الذكرى (45) لتأسيسه، والذي صادف يوم (6/1/1966) إذْ حضرت الكتيبة المذكورة بدباباتها الـ(33) وسرية المغاوير المصرية لتُقيما في ثكنة فوجنا طيلة شهر كامل قبل موعد الإستعراض.
توالت لقاءاتنا مع الضباط المصريين حتى تكوّنت مع بعضهم صداقات شخصية، ومن دون دعوات أو مناسبات رسمية، إذْ كان أعداد منهم يزوروننا في بهو الضباط، ونردّ لهم الزيارات بالمثل في”معسكر التاجي”… وفي مرات عديدة كنا ننزل سوية إلى “بغداد” لنحضر معاً عروض أحدث الأفلام الغربية في دور السينما، والتي كانوا محرومين من مشاهدتها في بلدهم، وذلك قبل أن نتناول طعام العشاء في
مطاعم إعتيادية، ومن الطبيعي أن يكون “الدجاج/الفراخ المشوي” ضمن وجباتهم المفضلة، والتي كانوا يستمتعون في تناولها بشراهة ملحوظة.
كانوا في أُولى لقاءاتنا معهم حذرين من طرح آراء سياسية صريحة، فبينما كنا نتصور أن معظم المصريين -إن لم نقل جميعهم- يُقدِّسون شخص زعيمهم “جمال عبدالناصر”، بل ربّما يعبدونه تعظيماً وإجلالاً من هَول ما كنّا نقرأه في الصحف والمجلات ونشاهده في الأفلام المصرية التي توفّرت بشكل منتظم في الشارع العراقي وبمعدّل يومي خلال تلك السنوات، ومثلما كان عليه “الناصريون” من العراقيين الذين باتوا يشكّلون أعداداً غير قليلة من الطبقات المختلفة في المجتمع العراقي، ونخصّ منهم الشباب، فمن المُسَلَّم به أن يكون صغار الضباط المصريين، وهم من الجيل الذي عاصَرَ ثورة (يوليو/1952) والتي إنقضت عليها أكثر من (12) سنة، والذين تَشَرَّبوا بدروس ومحاضرات “الثقافة القومية والإشتراكية” التي تلّقَوها في مراحل دراساتهم المختلفة ومحاضرات “التوجيه المعنوي” والتي كانوا يحضرونها بمعدل يومي، أن يكونوا من المتحمّسين الأشداء لسياسة الرئيس المصري دون أدنى شك.
وفي حين لم يطرحوا بشكل مطلق أي موضوع سياسي في بهو ضباط فوجنا، فأن معظمهم، وبعد أن إطمأنّوا إلينا خلال جولاتنا داخل مدينة “بغداد” وقامت بيننا أواصر صداقة، فقد باتوا يُبدون إستياءَهم الشديد من سياسة الرئيس “عبدالناصر”، موجّهين نحوه نقداً لاذعاً وبعض الشتائم والسباب في بعض الأحيان، لكونه أَوقَع “مصر” في مشكلات إقتصادية وإجتماعية خطيرة، وأحدَثَ شرخاً عميقاً في علاقاتها مع العديد من الأقطار العربية والدول الإسلامية، ومع دول العالمَين الرأسمالي والشيوعي على حد سواء، حيث لا يوجد سوى “العراق” ممّن يؤيّد سياسته الرعناء -حسب قولهم- بحرارة، وأنه قد غدر بالعديد من رجالات “مصر” وشخصياتها وفئاتها التي ساندت الثورة التي قادها عام (1952)، وأولئك الذين لهم تأريخ مجيد وحافل في مقارعة الإستعمار البريطاني، وبالعديد من أصدقائه الذين شاركوه في الثورة والمسيرة.
كان الضباط المصريون مستائين بشدة من وضعهم المادي والمعاشي، إذْ لا يزيد راتب الضابط برتبة”ملازم” عن (25) جنيهاً مصرياً، يحوّله لهم ضابط حساباتهم إلى (25) دينار عراقي… وكانوا يستغربون، بل أن بعضهم لم يكن بإقتداره إخفاء حسده من تسلّمنا راتباً قدره أكثر من (50) دينار عراقي، والذي يعادل حوالي (155) دولار أمريكي… ولكنهم كانوا يهمسون في أسماعنا أنْ لا نتحدّث معهم في مثل هذه الأمور أمام بعض زملائهم من الضباط الذين يُشكّ بإنتمائهم إلى
“المخابرات المصرية”… وكانوا يَشكُون تماماً من أنهم تحوّلوا الى مرضى مصابين بـ”إزدواج/ أو إنفصام الشخصية” حين يتحدّثون مع جنودهم خلال محاضرات “التوجيه المعنوي” -مُجبَرين- حديثاً مُعاكساً تماماً لما هم مؤمنون.
كان معظم الزملاء من الضباط المصريين لطيفين في معشرهم، سلسين في أفكارهم، لبقين في كلامهم، كثيري النكات، مَوزونين بشكل عام في تصرّفاتهم، ولم نتعرض في جولاتنا وسفراتنا العديدة معهم إلى مواقف محرجة، ولم أجد بينهم من يشرب الخمر أو يحاول ملاحقة النساء، وكان الكثير منهم يؤدون الصلوات، والبعض منهم يحرص على أدائها في مواعيدها، ولا أحد منهم إستَحرَمَ حضور عروض الأفلام الأجنبية في دور السينما… ولكني لم أجدهم مهووسين إلاّ حين حضر الى “بغداد” عام (1965) -بدعوة من العراق- نخبة من المطربين والمطربات المصريّات، ومن بينهم “عبدالحليم حافظ، نجاة الصغيرة، فايدة كامل، أحمد غانم، لبلبة، محمد عبدالمطلب، محمود شكوكو” وغيرهم، حيث أقاموا حفلات غنائية لثلاثة أيام متتالية في قاعة “سينما النصر” بشارع السعدون، إذْ كان الضباط المصريين يغنّون معهم والبعض يرقص طرباً دون تحّرج.