يقول المثل الايرلندي ( اذا لم تستطع ان تكون قويا فحاول ان تكون ذكيا )
انشغلت الاوساط السياسية في العراق بموضوع التوغل التركي في الاراضي العراقية في محاولة لاثبات غيرتها على السيادة الوطنية العراقية وتعددت بيانات الاستنكار والشجب من كل حدب وصوب وصارت الاصوات تتعالى بالويل والثبور وعظائم الامور في محاولة خائبة لاظهار الغيرة الوطنية التي لاتتمتع بها تلك الاصوات الا ان اعجب ردود الافعال هي الردود التي صدرت من الحكومة العراقية وكانها تفاجاءت بهذا التحرك التركي وانها الان تستعد للدفاع عن الاراضي التي انتهكتها القوات التركية (الغازية) بل ان الحكومة العراقية دخلت في ميدان المزاد العلني لاثبات الوطنية وفي محاولة للتسويق الداخلي واثارة العواطف بين العراقيين الذين عملت الحكومات المتعافبة على جعلهم بعيدين عما يجري في الميدان الدولي . مما يؤسف له ان القوى السياسية العراقية في سباقها المحموم لاثبات الوطنية عرضت على العالم مدى جهلها بمايجري في العالم ومدى غيابها عن الواقع وللاسف ان ينضم اليها من يقدم نفسة باعتباره خبيرا قانونيا وعلما عارفا بالقانون الدولي . مما تقدم يجب ان نشرح لاولئك (الغيارى ) الحقيقة فيما يجري حولهم علهم يلتفتون الى البحث عن طرق لحماية ماتبقى من اثار السيادة التي تحفظ للعراق ماء وجهه .
ماجرى في الحقيقة انه في يوم الجمعة المصادف 5 كانون الاول هو قيام الطيران الحربى التركى بشن أكثر من 50 طائرة حربية تركية غارات كثيفة لمدة 6 ساعات على 20 هدفا لحزب العمال الكردستانى فى شمال العراق، وأسفرت الغارات عن ما بين 35 و40 من القتلى و ان نحو 150 جنديا تركيا وصلوا الجمعة الى محيط الموصل التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الاسلامية تؤازرهم ما بين 20 الى 25 دبابة، انتشروا في منطقة بعشيقة شمال الموصل. واوضحت وكالة انباء الاناضول ان العملية التي جرت الجمعة هي استبدال للوحدة التركية المنتشرة في الاقليم بوحدة اخرى. والسؤال الذي يثار هنا هل ان هذا الموضوع يحدث لاول مره ؟ وهل ان الحكومة العراقية لاتعلم بهذا التواجد العسكري ؟ وهل ان التواجد العسكري التركي كان بدون تنسيق مع الحكومة العراقية ؟ وسنحاول في مايلي ان نجيب على هذه الاسئلة .
بدون العودة الى بدايات العلاقات العراقية التركية منذ تاسيس الدولة العراقية عام 1921 واتفاقيات ترسيم الحدود التي تمت وقضية الموصل نقول ان اول اتفاق بين العراق وتركيا سمح للقوات العسكرية التركية بالتوغل في الاراضي العراقية تم توقيعه عام 1982 بين الحكومة التركية ونظام صدام حسين , سمحت بموجبه الحكومة العراقية للقوات التركية التوغل في الاراضي العراقية لمسافة تصل الى 20 كم لملاحقة مسلحي حزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية لإقليم كردستان واستمر هذا الاتفاق بدون الغاء او تعديل لحد الان .
بعد حرب الخليج الثانية والتطورات التي لحقت بوضع الأكراد في شمال العراق، اصدرت وزارة الدفاع التركية “البيان الأبيض”، أوضحت فيه السياسة العسكرية وخطط تحديث الجيش وتسليحه، واتهمت إيران وسوريا، والعراق، واليونان، ودولاً أوروبية بتقديم الحماية والدعم المالي لحزب العمال الكردستاني،
الذي يقاتل من أجل المقاومة وإقامة دولة كردية مستقلة في جنوب شرق البلاد. وقد ألمح الرئيس التركي توركوت أوزال انذك إلى حقوق تاريخية سابقة لتركيا في كركوك والموصل. وسبق لاوزال في الخامس عشرمن كانون الثاني 1991،أي قبل شهر ونصف من بدء الحرب على العراق، ان عرض على رئيس الاركان التركي الفريق أول نجيب تورمتاي دخول القوات المسلحة التركية إلى شمال العراق وصولاً إلى الموصل وكركوك مع بدء قوات التحالف بدخول الأراضي العراقية. وفي عام 1995،طالب الرئيس التركي سليمان ديميريل بضرورة إعادة ترسيم الحدود بين تركيا والعراق لأن منطقتي الموصل وكركوك مازالتا تابعتين لتركيا وكجزء من إقليم تركيا . في هذا السياق اتخذت تركيا الإجراءات العسكرية كافة، لمهاجمة قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق (1995)، وتوغلت في الأراضي العراقية، تبعها عملية أخرى عام (1996)، واستمرت المطاردة حتى شنت هجوماً أسفر عن احتلال الأراضي العراقية في الشمال، وبقيت حتى عام (1997)، مرابطة في الأراضي العراقية بهدف إخماد تحركات حزب العمال الكردستاني .
أطلقت تركيا في الأعوام 1992، و1995، و1996، و1997 عمليات عسكرية واسعة النطاق شارك فيها عشرات الآلاف من جنودها، فضلاً عن القصف الجوي والمدفعي المتكرر والعمليات المكثفة لقواتها الخاصة التي إستمرت إلى يومنا هذا . في عام 1997 أعلن الجنرال إسماعيل حقي رئيس أركان الجيش التركي (1994-1998) والذي قاد انقلاباً في عام 1997 ضد رئيس الحكومة التركية آنذاك نجم الدين أربكان فقد أفصح عن مسألة خطيرة وهي ضرورة تعديل الحدود مع العراق لأسباب أمنية إذ يقول: (إن الحدود مع العراق تمر برؤوس الجبال وهذا ما فعلته انكلترا، وهذه الحدود يصعب الدفاع عنها، لذا يجب تصحيحها) .
بعد عام 2002،شهدت تركيا وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة في تشرين الثاني من العام 2002، وشهدت تركيا في تلك الحقبة تغيرات في السياسية الداخلية والخارجية ،فان على المستوى الداخلي كان هناك العديد من الاصلاحات السياسية والاقتصادية قام بها الحزب ،الا ان السياسية الخارجية التركية غدت تشهد تحولات عميقة ،وكان احمد داود اوغلو وزير خارجية السابق ورئيس الوزراء الحالي ،هو الذي رسم خطوط التحول في السياسية الخارجية التركية من خلال كتابة (العمق الاستراتيجي ) وضع نظرية (تصفير المشكلات مع دول الجوار) الا انه في مايتعلق بالملف العراق نرى انه في عام 2003، قال وزير الخارجية عبد الله كول خلال لقاء صحفي ((سنأخذ حق تركيا من البترول هناك (الموصل وكركوك)).
خلال الفترة مابين 2003 – 2004 كان العراق تحت ادارة سلطة الائتلاف المؤقته التي لم يكن لها صلاحية ابرام معاهدات دولية ممكن ان تلزم الدولة العراقية وقد استمر التواجد التركي بدون تغيير كما هو الحال في ظل حكومتي اياد علاوي وابراهيم الجعفري اللتان كانتا في سباق للحصول على اعتراف دولي بشرعيتهما لذلك لم يحاولا اثارة موضوع العلاقات العراقية التركية او التواجد العسكري التركي على جزء من الاراضي العراقية .
كان اول اثار التدخل التركي في عراق مابعد 2003 هو الايعاز الذي وجهته تركيا الى طارق الهاشمي في حينها لقيام الحزب الاسلامي بالتصويت لصالح مسودة دستور عام 2005 الذي جعل الموصل تصوت لصالح الدستور .
في عام 2007 في ظل حكومة نوري المالكي الاولى شهدت العلاقات العراقية التركية منحنى دراماتيكي عندما قدم وزراء القوائم السنية استقالاتهم احتجاجا على مااعتبروه تفردا للمالكي في ادارة البلاد لذلك سعى المالكي الى الاستعانة بالحكومة التركية للضغط على القوائم السنية لعودة وزرائها وكان ثمن الوساطة التركية تكريس تركيا كمرجعية سياسية للمكون السنّي والاتفاق الذي تم بين وزير الداخلية العراقي انذك جواد البولاني والتركي بشير اتلاي في 27 ايلول 2007 اثناء زيارة الاول الى أنقرة العراقية على تمديد الاتفاق الذي سبق ان وقعه صدام حسين عام 1982 وهو اتفاق امني يسمح بموجبه للقوات التركية مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية الا ان هذا الاتفاق مدد المساحة المسموح بها بالتوغل من 20 كم مربع الى 25 كم مربع.
في عام 2008 أعلنت الحكومة العراقية تأسيس “مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي” بين العراق وتركيا وذلك خلال زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى بغداد.ونص الاتفاق على ان “تلتزم حكومتا جمهورية العراق والجمهورية التركية بتطوير شراكة استراتيجية طويلة الامد تهدف الى تعزيز التضامن بين شعبي البلدين”.وقع الاتفاقية في بغداد رئيسا الوزراء العراقي نوري المالكي والتركي رجب طيب اردوغان
في عام 2009 اعلنت الحكومة العراقية اثناء زيارة قام بها رئيس الوزراء التركي في حينه رجب طب اردوغان التوقيع على(48) إتفاقية بين العراق وتركيا ضمن مجلس التعاون الاستراتيجي العراقي- التركي تشمل الأمن والطاقة والنفط والكهرباء والمياه والصحة والتجارة والبيئة والنقل والإسكان والإعمار والمواصلات والزراعة،والتربية والتعليم العالي والدفاع. وقد تم التاكيد في حينه على الإستمرار في محاربة الإرهاب ومكافحة النشاط الإرهابي لحزب العمال الكردستاني وبقايا حزب البعث وجميع المنظمات التي لاتريد الإستقرار في المنطقة
وكان آخر مشاهد الحضور التركي في الأزمات العراقية مع نهاية العام 2010، حين بذلت تركيا مساعٍ حثيثة في إقناع “القائمة العراقية” بقبول نوري المالكي رئيسا للحكومة، وفق اتفاق إطار لتقاسم السلطة عقد في أربيل.
في عام 2014 اعلنت الحكومة العراقية عن اتفاق مع الحكومة التركية يشمل التعاون الامني والاقتصادي واحياء ما يسمى بمجلس التعاون الاستراتيجي العراقي التركي الذي توقفت اجتماعاته منذ عام 2009 .
في منتصف عام 2015 كانت خارطة التواجد العسكري في داخل الحدود العراقية تشير الى ان لتركيا قاعدة عسكرية كبيرة في بامرني الواقعة على بعد “45 كلم ” في محافظة دهوك باقليم كردستان العراق منذ عام 1997، فضلاً عن ثلاث قواعد أخرى صغيرة في غيريلوك “40 كلم شمال منطقة العمادية”،وكانيماسي “115 كلم شمال دهوك”، وسيرسي “30 كلم شمال زاخو” على الحدود العراقية-التركية، وهذه القواعد ثابتة وينتشر فيها جنود أتراك على مدار السنة, كما ان القوات التركية قامت بنشر 600 مقاتل تساندهم العربات المدرعة في منطقة بعشيقة .
مما تقدم يتبين بان الانتشار التركي بالرغم من انه مما يؤلم كل من له غيره على سيادة العراق فانه تم بعلم الحكومة العراقية وبالتنسيق معها واستنادا الى اتفاقات موقعه بين البلدين . اذن لماذا هذه الضجة والجعجعة التي لانرى منها طحين ؟
ان الاجابة تكمن في ان القوى السياسية العراقية وفي اطار تخبطها امام الانتقادات التي توجه لها داخليا وخارجيا بالفساد وسوء الادارة اصبحت تبحث عن طريقة للخروج من تلك الدوامة عبر اثارة ازمات تتصور بانها سوف تصرف انظار العراقيين والعالم عن واقع الطبقة السياسية المزري . فهم يدركون بان الأمر لن يتعدى الشجب والاستنكار والإدانة يتم عن طريقها الهاء الشعب وتوجيه انظاره الى عدو خارجي مصطنع لحين حدوث ازمة اخرى .
وبالعودة الى المثل الايرلندي يبدو ان الحكومة العراقية عجزت عن ان تكون قوية الاانها فشلت في ان تكون ذكية .