10 أبريل، 2024 3:58 ص
Search
Close this search box.

حقول الرز وحقول الألغام

Facebook
Twitter
LinkedIn

القطارات تمضي وتأتي وأغلب الذين ينتظرون على أرصفة المحطات هم من الجنود ، أولئك الذين تنتظرهم أمكنة الحياة والموت فيها اللذان يرتهنان بقطعتي حديد ، أما أن تكون شظية قنبلة أو طلقة بندقية ، وأولئك الذين تجدهم يقفون متكئين على عكاز في ارصفة تلك المحطات فأن من أنتظرهم كان لغما ارضياً بلاستيكياً يسمونه ( القفاز ) وهو في اغلب إصاباته يبتر فيها الساقين.

وكنت اعرف جنودا دخلوا هذه الحقول برضاهم ورغبتهم حتى تُبتر سيقانهم ويتخلصون من قدر الرصاصة والشظية لقناعتهم أن الحياة بدون قدمين وبعكاز أو كرسي متحرك أفضل من الرحيل عن هذا العالم بنعش.

تسكنني مفردة الحقول لأنها تصاحب الروح الشعرية في الحبر الذي يملأ أقلامنا ونسطره على الدفاتر ، وطالما كانت الحقول التي نشمُ شتالها وهي ليست بعيدة عن قريتنا تمثل بالنسبة لنا بعض الأثر التي ابقتهُ دلمون الى هذه الاماكن ، ولهذا كانت تلك الأماكن الصورة الاقرب لهاجس المكان في قلب آدم ( ع ) يوم أراد لحظة النزول أن تكون الارض  حقل وبيت فقط.

لكن المعدان وهم عرب الأهوار وساكنيها الأوائل طوروها الى حقل وبيت وجاموسة ومن ثم اتسعت لتتحول هذه الحقول من حقول قمح وشعير ورز الى حقول ألغام.

لم يسمع سكان القرية التي تقع فيها مدرستي بحقول غير حقول القمح والشعير والرز ، وبالرغم من انهم لا يزرعون أي محاصيل ويعتمدون على تربية الجواميس وبيع منتجات الحليب ، إلا أنهم يتوجهون للريف الفلاحي القريب من   سلفهم ليشتروا القمح والشعير والرز ، وفي بعض المواسم يتسع الجزر في المياه وتظهر وسط الهور جزرات طينية كبيرة يستغلونها في زراعة الرز وقد عشت مواسم شتل فيها سكان قريتنا ( أم شعثه ) الرز ،

 وفي احدى سنوات الريع الوفير لحقل زرعوا فيه شتالهم ووسط بهجة الحصاد جاء الجندي ( رسن مهاوش ) من جبهة الحرب في الخفاجية وهو يمشي على عكازين ، ولأول مرة عرف أهل القرية ان هناك حقولٌ للموت وليس للزرع هي غير حقول الرز والقمح والشعير وتسمى حقول الالغام.

ومنذ مجيء رسن وحتى سفري من المكان بقطار الاغتراب أحسست أن المعدان يوصون ابناءهم الجنود بالحذر من هذه الحقول لأنهم رأوا المشقة التي يعاني منها الجندي الكسيح اثناء سيره بعكازته لأن الارض رغوة وطينية.

يومها قال شغاتي : لم نعرف في حياتنا العكاز ولا لمبة الكاز ، ولكنهما جاءا مع الحرب.

أجلس في غرفتي الآن ، أتذكر تلك الحقول البعيدة وذلك الرعب الذي سكنني يوم كان أمام ربيئتنا في خدمة الاحتياط حقل الغام صغير في محيطها كي يحميها في الليل من أي محاولة لاقتحامها ، ويومها كنت على حافة الربيئة اقرأ في كتاب النبي لجبران خليل جبران عندما جاءت هبة ريح وطارت بعض من اوراق الكتاب لتستقر بين اسلاك الحقل ، وبقيت هناك لا استطيع ان اجلبها حتى اصفرت ومعها اصفر وجه الشاعر اللبناني الذي عاش في المهجر ومات فيه واتمنى ان لا أكون مثله .

 بقيت تنتظر من يخلصها من فزع أن تقضي الليالي المقمرة بين وسط حقل الالغام ، ولكنها ظلت حتى نهاية خدمة الاحتياط عندما ودعتها بنظرة اشفاق وحنان وانا اعود الى مدرستي.

والآن مع ذكريات عكاز رسن وهو ( تطمس ) في الطين وقصائد الهايكو الياباني التي تتحدث عن حقول الرز ، امتع غربتي بشيء عن ذكريات حقول الرز الشتال وحقول الغام الحرب ، واتمنى أن اعرف اين أنتهى الامر برسن فلربما اتصل هنا بمنظمة خيرية المانية واحصل له على كرسي متحرك حديث لا يطمس في الطين.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب