23 ديسمبر، 2024 9:26 م

حقولنا من دون نواعير

حقولنا من دون نواعير

في الصف الثاني متوسط قرأت الكتاب القصصي الساحر ( رسائل من طاحونتي ) للفرنسي الفونس دوديه ، وعلي أن اتخيل بتلك النثرية الجميلة لتفاصيل حياة الريف الفرنسي وهو حتما الريف الذي استنشق هواءه الان في مواويل سفر القطارات بين بروكسل وباريس عندما صيف باريس يغريني بشهية النوم تحت اجفان ذكرياتنا عندما قال لنا معلم أيام الابتدائية :من يشاهد منكم الموناليزا يستطيع أن يكون من صُناع الروعة في الخيال والكُتب.

أنه والطواحين التي على ضفاف نهر السين على امتداد الريف يشكل هاجسا لصنع الحياة والجُبنة والقصص الرومانسية ، وحين امضي معه وأسال صديقتيَّ فرنسية : الى أين ينتهي السين ؟

ترد : الى القنال الانكليزي حيث عليه مهمة الثأر لنابليون بونابرت ذات يوم .

أتذكر بستان جدي وناعوره ، والحمار الذي يدور بلاهوادة ليرفع الماء من النهر الى حقول الفجل والبصل الاخضر والكرفس والريحان ، وطالما أقارنه بتلك الطواحين التي اتخيلها تسبح في السماء في قصص الفونس دوديه حيث يتحول الحمار في قصصه الى ببغاء يردد احلام الفلاحين وسط عناق سري بين حقول الشوفان او تحت اشجار التفاح.

في الاهوار حيث قدري انتهى معلما لم اجد للنواعير أثرا ولا للطواحين ، وبالرغم من هذا يسكنني الحنين الى العيش في امكنة الرغبة التي كنا نقراها في الروايات ونشاهدها في أفلام السينما . فأخذت معي رسائل من طاحونتي لأعيد قراءته متى أردت أن اضيفَ الى مخيلتي وموهبتي شيئاً من دافع الكتابة ، ولآن الاهوار ليس فيها طواحين ولا حتى نواعير ابقيت في الكتاب آمال أن التقط صورا قرب تلك الطواحين وقد اغراني مشهدا رومانسيا كانت واحدة من طواحين الهواء مسرحا لقبلاته العاصفة والتصاقه الجسدي الذي جعل كل ارائك قاعة السينما تهتز كعاصفة يوم عشنا اغراءها وكان الفيلم من بطولة عمالقة ثلاث ، عندما يلجأ الشاب الهارب من القوات النازية آلن ديلون الى منزل في الريف الفرنسي الى بيت تسكنه الارملة سيمون سونريه وحفيدتها المذهلة الجمال الإيطالية اورنيلا موتي ، وهناك تبدأ طروادة حرب الجسد والقبلات .

هنا في الارض التي يسكنها الماء والقصب واطياف الهة اغلقت نوافذ جنائن عدن واسكنت خواطرها الى رعاة الجواميس ومسوحات رجال الاثار ، حين تشتاق الى طاحونة او ناعور يردون عليك :

 طواحينا هنا هي ( الرُحى ) التي تطحن لنا القمح والرز ، فلا نحتاج الى الهواء مادامت سواعد نساءنا بقوة سواعد الرجال لتمسكها وتدير الصخرة الدائرية ليتحول الرز والحنطة بين اضراسها الى دقيق.

 أما النواعير فنحن لا نحتاجها لأننا وسط الماء وحقولنا ينبتها الله فيه فلا تعطش كما البساتين .

دائما وأنا أراقب حياة هؤلاء الناس فأشعر انها حقا لا تحتاج الى الطواحين والنواعير ، وأن حياتهم لها نواعيرها الخاصة غير تلك التي تحدث عنها ( دودية ) في قصصه ، حيث تدور بهم لحظات اليوم نفسه بصمت ، وبدورة واحدة وليست عدة دورات كما في ناعور جديد الواقع في بستانه الذي زحف اليه الملح اليوم وصار مهجورا بعد أن مات فيه النخل واقفا .

هذه الدورة تبدأ من صياح الديك لأيقاظ النائمين على سوابيط القصب وحتى المساء الذي يعودون فيه من دوابهم.

الآن وأنا اشاهد الطواحين في دورتها الابدية في الأراضي المنخفضة والعالية على ضفاف نهري السين والراين .

اتذكر ناعور جدي ، وطواحين الرُحى التي تتراقص في دورتها الازلية بين أصابع نساء القرية وهن يرددن تلك الأنشودة الازلية : دللوه يا الولد يبني دللوه … عدوك عليل وساكن الجول………!