لولا إيران لما استطاع الاميركيون احتلال العراق وافغانستان ، هكذا صرح قادة النظام الايراني قبل سنوات قليلة . لم تكن غاية الاستعماريون الجدد في طهران اهلاك العراق واضعاف العرب فقط بل تعدت اهدافهم ذلك بكثير صوب استعمار العراق وانطلاقا نحو المنطقة العربية عموما والخليجية خصوصا ، فكرة الاستعمار لم تأت من فراغ اذ ان التأريخ الاستعماري للامبراطورية الفارسية حافل وغني بالاحداث التأريخية ، وانما تجددت روح الهيمنة وثقافة الاستعمار مع مجيئ الاستعماريون الجدد ووصولهم سدة الحكم في العام 1979 فاصبح تصدير الثورة للدول العربية والاسلامية هدف جوهري إستراتيجي ، سخر من اجله النظام الايراني طاقات البلاد البشرية والفكرية والمالية وثرواتها النفطية ، فانعكس ذلك فقرا وجوعا على الشعب الايراني وشاعت ظواهر الفساد و الرذيلة والسرقة وتجارة الرقيق والمخدرات والحشيشة واحتلت ايران مراتب متقدمة عالميا في تجارة المخدرات بسبب سياسات النظام واهداره اموال الدولة على النشاطات والمخططات الاستعمارية وسيطرة رجال الدين المتطرفين على زمام الحكم وهيمنتهم على كافة مجالات الحياة في المجتمع الايراني بالقوة و الاكراه ، ناهيك عن اغراق الاسواق السوداء في الدول العربية بالمخدرات الايرانية والعراق نموذج! ،فالمخدرات والهيروين احدى ادوات النظام الايراني لسرقة عقول الشباب وتغيبهم عن حقائق الاهداف الايرانية في بلدانهم .
عكف النظام الايراني بعد انتهاء حرب الثمان سنوات مع العراق على تطوير الترسانة العسكرية والنووية وتجنيد عملاء لهم في الدول العربية و توزيع الادوار والمهام عليهم لتحقيق اهداف اجندة المشروع الاستعماري.
قدمت ايران المساعدة لامريكا في حربهم على العراق،رغم معرفتهم مسبقا بالثمن الباهظ على من يساهم فيها والتورط باحتلال العراق! ، في الوقت الذي اعتقد اغلب المحللين السياسيين ان الوجود العسكري الامريكي على الحدود الايرانية من جهة العراق وافغانستان والخليج يشكل تهديد مباشر على النظام الايراني ، يقوض من تطلعاته ونزعاته التوسعية ، الا ان مجريات الاحداث اثبتت عكس ذلك تماما فتورط امريكا في المستنقع العراقي ( فيما لو افترضنا ان احتلال امريكا للعراق وفق النظرة الامريكية كان مغامرة او مقامرة تورط فيها المحافظون الجدد عرابي الحرب ).
على اي حال ، كل الادلة والشواهد تؤكد ان احتلال امريكا للعراق وافغانستان اصبح عامل قوة لايران مكنها من فرض كامل سياساتها الاستعمارية تجاه دول المنطقة والايغال في نهج السياسات الاستفزازية والتوسعية الواضحة وتصعيد السلوك العدائي تجاه دول المنطقة وضرب قرارات المجتمع الدولي عرض الحائط فيما يخص البرنامج النووي ،والاستمرار في حصد المكاسب الكبيرة ( الصلبة ) بسبب ادوات القوة التي اكتسبها الفاعل الايراني جراء المغامرات الامريكية .
تكرار سيناريو انهيار السوفيت بالامريكيين في العراق وافغانستان غاية الايرانيين ، ورسالة قاسم سليماني الى بتريوس والتي جاء فيها ( انا قاسم سليماني اتحكم بالسياسة في العراق وافغانستان وغزة ولبنان ) تؤكد لنا هذه القراءة وتوضح للجميع مدى القوة التي تمتع بها الايرانيون بعد احتلال امريكا للعراق وافغانستان .
هدفين رئيسيين في مساعدة ايران لامريكا في احتلال العراق وافغانستان ، الاول ازاحة نظامين عدوين لها ( حرب ، تدمير ، ازاحة خصمين بالوكالة بواسطة الفاعل الامريكي ) دون ان تتكبد ايران في ذلك خسائر بشرية ،عسكرية ،مادية .
الهدف الثاني ، جر امريكا لمستنقعين يصعب عليها الخروج منهما دون ان تتكبد خسائر باهظة تصب في مصلحة النظام الايراني فيتمكن الفاعل الايراني من انتزاع دور اللاعب الاقوى في المنطقة .
بقاء القوات الامريكية بنزيف طويل الامد بساحات مفتوحة كالعراق وافغانستان تغلغلت فيها ايران وقوت شوكتها بتغذية الجماعات والميليشيات المسلحة ومد جسور التعاون مع اطراف محلية نافذه في كلا البلدين مكن اللاعب الايراني من صياغة قواعد اللعبة ورسم حدود الملعب على الساحتين وخلق حالة ونموذج ايراني بإمتياز بمناطق الصراع . اي بمعنى ان اضعاف قوة اللاعب الامريكي عزز عوامل القوة للاعب الايراني على الملعب العراقي و الافغاني ( الفاعل القوي).
فاصبحت عوامل القوة الايرانية ادوات ضاغطة تتحكم بها القيادة الايرانية في تجيير القرارات والسياسات الامريكية اقليميا ودوليا لصالح اهدافها التوسعية(الاستعمارية ) بمختلف القضايا الايرانية ( التوسعية الاستعمارية ، البرنامج النووي ، المكاسب المصلحية ) في عموم منطقة الشرق الاوسط.
باعتقادي ان ابرز الشواهد على هذه الحقيقة هي نوعية التحول في الخطاب الايراني بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، حيث نلاحظ ان الخطاب الايراني في الفترة الاولى من الاحتلال لم يكن بمستوى القوة التي صار عليها بالفترات الاخرى ، نذكر جميعا ان قوة الخطاب الايراني استمرت بالتصاعد ضد الامريكيين بعد الخطاب الشهير لاحمدي نجاد بأن ايران قادرة على ملئ الفراغ الامني في العراق ، هذا التحول في الخطاب الايراني جاء بعد ان تيقن قادة نظام ولاية الفقيه بأن ادواتهم في العراق باتت قوية بالقدر الكافي لدخول مرحلة التصعيد الاعلامي والسياسي من خلال تحريك الادوات الموالية والمؤثرة في ساحات الصراع ( سياسية ، اعلامية ، ميليشياوية ) واستهداف كافة الاصوات المناهضة لسياسات النظام الاستعماري من العراقيين والايرانيين على حد سواء بشتى الوسائل والادوات .
يستخدم النظام الايراني سياسة الترغيب والترهيب في استقطاب او اسكات الاصوات المناهضة لمشروعهم الاستعماري ، فتصفية الكفاءات العراقية جسديا او معنويا او شراء الذمم بالمال ، غاية في افراغ البلاد من الطاقات الوطنية كجزء لا يتجزأ من مراحل المشروع الايراني ، ناهيك عن حملات الاستهداف المستمرة اعلاميا وسياسيا وامنيا ضد معسكر اشرف ومجاهدي خلق في العراق ،هدف في انهاء كافة الاصوات المعارضة للنظام الايراني.
أحد الخيارات والسيناريوهات المطروحة في عقلية الفاعل الايراني اكثر من الامريكي . حينما تصبح ايران المخرج الوحيد لامريكا من مستنقع العراق وافغانستان وتكون صاحبة الحلول الجاهزة لقضايا المنطقة فلن تتوانى السياسة الامريكية من الانحراف 180 درجة رضوخا للامر الواقع واعطاءهم ما لا يملكون من الاراضي العربية يتقاسمونها معهم فيستعمرونها باسم الدين والجيرة ! ان لم نقل بان تسلم امريكا لهم بالكامل وتذهب ابعد من ذلك بكثير! في خيار يعد الاصعب والاخطر من نوعه على العرب والامريكيين انفسهم .
انهار الاتحاد السوفيتي وانهزم الروس شر هزيمة في غضون عشر سنوات جراء احتلالهم افغانستان ، والولايات المتحدة الامريكية تقارب على الافلاس بسبب الحروب الاستباقية مما ينذر بحدوث هزات وفوضى داخل الولايات المتحدة تتسارع وتيرتها وقد ينجم عنها انحسار كبير للنفوذ الامريكي وتقليص شديد لقواتهم العسكرية المنتشرة في العالم . في الوقت الذي تمر فيه المنطقة العربية بدوامة من التحولات الجذرية ، بوادرها خير ، رغم المخاض العسير . فغياب موقف عربي قوي موحد وفراغ موقع الزعامة في العالم العربي يسرع من تمدد الاخطبوط الايراني واستعماره للمنطقة برمتها
زلماي خليل زاد؛ دبلوماسي أمريكي مسلم تدرج في سلم السلطة الأمريكية وعُين إبان حكم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش سفيرًا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة ثم سفيرًا في أفغانستان -مسقط رأسه- ثم سفيرًا في العراق في الفترة بين يونيه/آيار 2003م وإبريل/نيسان 2007م. مؤخرًا نشر الرجل كتابًا بعنوان «الموفد» ليسرد بين طيّاته الرحلة التي قطعها في هذا العالم الهائج -هكذا وصفه- من أفغانستان إلى البيت الأبيض، وكان الرجل قد نشأ في أسرة متواضعة في قرية أفغانية عتيقة «مزار شريف» حتى وصل مؤخرًا إلى البيت الأبيض كأحد أهم السياسين الأمريكين المسلمين في إدارة الرئس السابق بوش الابن.
صدر الكتاب مؤخرًا في مارس/آذار الماضي وتناولته وسائل الدعايا الأمريكية في إطار النزاعات الانتخابية الدائرة هناك في الولايات المتحدة. وما يهمنا في هذا الكتاب الآن أن ننقل شهادة الرجل على حرب العراق كواحدة من الشهادات المثيرة للجدل، إذ يحكي الرجل عن لقاء جمع مسئوليين بالإدارة الأمريكية لم يسمّهم و جواد ظريف وزير الخارجية الحالي لدى إيران والذي كان سفير إيران لدى الأمم المتحدة وقت الحرب على العراق مارس/آذار 2003م.
تضمن اللقاء برواية خليل زاد طلبًا أمريكيًا من الجانب الإيراني بعدم التعرض للمقاتلات الأمريكية إذا ما اخترقت الأجواء الإيرانية بطريق الخطأ وهو الطلب الذي قابله ظريف بالموافقة. وعرضًا أمريكيًا آخر برغبة الولايات المتحدة الشديدة في أن يتبوأ كبار السياسيين الشيعة الموالين لإيران والمعارضين لنظام الرئيس العراقي الراحل مقاعد من الحكومة التوافقية التي ترغب الولايات المتحدة تمكينها بعد الحرب ويتابع خليل زاد أن قناة الحوار هذه قد أُغلقت بسبب ما أسماها اتهامات الرئيس بوش في مايو/آيار 2003م للجانب الإيراني بإيوائه عناصر من تنظيم القاعدة كانوا قد تورطوا في أعمال عسكرية معادية للولايات المتحدة على الأراضي السعودية وراح ضحيتها ثمان أمريكيين.
العراق وإيران وتاريخ من العداءات الثنائية
عُرفت العراق وإيران منذ قديم الأزل كإمبراطوريتين متنافستين، فبلاد ما بين النهرين والتي تُعرف اليوم بالعراق كانت موطنًا للإمبراطوريات الآشورية والبابلية والعباسية في القرون الوسطى. أما السلالات الأخمينية والصفوية في القرون الوسطى والقاجريون فكانوا يحكمون بلاد فارس. وكانت العراق بالنسبة لإيران ذات أهمية خاصة فهي المهد الذي نشأ فيه المذهب الشيعي كما أن المدن الشيعية المقدسة والتي هي قبلة الحجاج وطلاب العلم عراقية بالأساس كالنجف وكربلاء. ويُعتبر الحضور الإيراني في كليهما تاريخي، وعلى إثر ذلك فإيران تعتبر جنوب العراق جزءًا من مجال نفوذها التاريخي.
لا تزال رحى الحرب تدور على مستوى العديد من الجوانب، بطريقة أو بأخرى، وكرةً بعد كرة
هذه المقاربة التاريخية برزت وبشدة في أعقاب الثورة الإسلامية فبراير/شباط 1979م، إذ تعالت الأصوات الإيرانية المنادية بتصدير مبادئ الثورة الإسلامية وكان الهدف الأول للمنادين بتصدير الثورة هو الجار العراقي. وهو ما دفع صدّام لافتعال حرب عسكرية مدمرة مع الإيرانيين استمرت لثمان أعوام وراح ضحيتها قرابة المليون قتيل من المدنيين والعسكريين.
انتهت الحرب 1988م ولم تزل رحاها تدور، ورغم أن الجمهورية الإسلامية نتيجة لتعاقب بعض الرؤساء الإصلاحيين عليها قد خففت من وطأة الشعارات المنادية بتصدير الثورةإلا أن ذلك لم يكن بشكل من الأشكال عامل تسوية بين الفرقاء الإقليميين حتى كانت لحظة سقوط صدّام 12 إبريل/نيسان 2003م.
في عصر التاسع مع أبريل /نيسان لعام 2003م اقتحمت الدبابات الأمريكية ساحة الفردوس في قلب العاصمة العراقية بغداد لتُسقط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في رمزية هي الأهم منذ بدء عمليات الغزو العسكري للعراق. وقد تم الترتيب لهذا المشهد بالتنسيق مع جماعة المؤتمر الوطني العراقي -الفصيل العراقي المعارض الأكبر نفوذًا وقربًا من الإدارة الأمريكية- بحسب ما نشرته جريدة الشرق الأوسط.
من غير المعقول أن نظن بأن دول المنطقة لم تكن على علم بالنية الأمريكية المبيتة لغزو العراق وإسقاط حكومته، وبحسب الشهادة التي أوردناها في مقدمةالتقرير والتي هي حديثة الظهور فإن طهران كانت على علم بالنية الأمريكية إذ تم إخطار سفيرها في الأمم المتحدة -آن ذاك- جواد ظريف بقرار الغزو في إطار طلب أمريكي لإيران بعدم التعرض للمقاتلات الأمريكية إذا ما اخترقت بالخطأ أجواءها.
وفي ضوء العداء الأمريكي لإيران بعد الثورة فإن إيران كانت على شفير نهر من القلق، فالولايات المتحدة التي غزت أفغانستان قبل عامين على الحدود الشرقية لإيران وصنفت إيران -على لسان رئيسها جورج بوش الابن- قبل عام ضمن ثلاث دول تمثل محور الشر في العالم -وكان هذا تحديدًا في الثاني من فبراير /شباط 2002م- باتت بعد غزو العراق قادرة على تطويق إيران وإذلالها عسكريًا واقتصاديًا إن أرادت أو بمعنى أدق إن استتبت لها الأوضاع العراقية، إذ افتقدت إيران عمقها الاستراتيجي العراقي.
لذلك كان التحرك الإيراني تجاه الغزو الأمريكي مزدوج بين تأييد صامت لإسقاط صدام وبين خوف وريبة من تمكن الأمريكان من زمام الأمور في العراق. ومن هذه المفهوم انطلقت الاستراتيجية الإيرانية في مواجهة التحدي القادم من الحدود الغربية. وتمكنت في أعقاب الغزو منتطوير رؤية واضحة نسبيًا لمصالحها الإستراتيجية في العراق، تكمن في بناء قاعدة متينة ومتعددة الركائز اقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، وأمنيًا، وسياسيًا، تتيح لها أن تكون في وضع استراتيجي يسهّل عليها التأثير المباشر وغير المباشر في الواقع العراقي خدمةً لتلك المصالح.
فعلى سبيل المثال؛ زاد حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران بعد انسحاب القوات الأمريكية ل11 مليار دولار وبالنظر لجانب السياحة الدينية فقد ارتفعت أعداد السيّاح الإيرانيين لثلاثة آلاف سائح يوميًا وهو رقم ضخم. كما سعت إيران لتوحيد الأحزاب الشيعية في العراق لتكون هذه الأحزاب قادرة على ترجمة أهميتها الديموجرافية إلى نفوذ سياسي. وانطلاقًا من هذه النقطة شجعت طهران أقرب حلفائها -فيلق بدر والمجلس الأعلى الإسلامي في العراق وحزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري- على المشاركة في الحياة السياسية والمساعدة في تشكيل المؤسسات الناشئة في العراق. وقد دعمت طهران مجموعة من الأحزاب والحركات الأخرى لتوسيع خياراتها وضمان تقدم مصالحها.
افتقاد إيران لعمقها الاستراتيجي من جرّاء الحرب جعلها تستخدم حلفاءها في الداخل لإشغال القوات الأمريكية من خلال الإفشال المتعمد للداخل العراقي والحيلولة دون إعادة ترميم الأوضاع المهترئة.
ساعد إيران على إنفاذ استراتيجيتها عدة عوامل، أبرزها عجز الدولة العراقية الجديدة عن أداء مهامها الداخلية، والحقيقة أن إيران لعبت دورًا كبيرًا في الحيلولة دون إقامة حكومة عراقية موحدة في أعقاب الغزو خشية أن تتشكل هذه الحكومة في أحضان الأمريكان فتعادي إيران.
وثانيًا؛ تميُّز الواقع الداخلي العراقي بالفوضى وعدم الاستقرار من جراء قرار حل المؤسسات الذي أصدره الحاكم الأمريكي بول بريمر. وكانت إيران قد وجدت في هذه الحالة مساحة أكبر لتحرك حلفائها ولشغل الأمريكيين بالوضع الداخلي الآخذ في التفاقم، ومن هنا صبّت إيران من خلال حلفائها الزيت على النار التي أوجدها الإحتلال الأمريكي ابتداءً.
إضافةً لذلك فقد بدت العراق كمنفذ للاقتصاد الإيراني في أشد أوقات العقوبات الاقتصادية حُلكةً، وكما يقول الكاتب العراقي المختص بالشأن الإيراني سرمد الطاني للشرق الأوسط قبل ثلاث سنوات «شيعة العراق كانوا مصابين بالدُوار في ظل نظام قمعي -نظام صدام حسين-، لكن الآن بعد عشر سنوات اختلف الأمر بالنسبة لشيعة العراق حيث أصبحوا أثرياء وأقوياء ويحكمون بينما الأمر يختلف بالنسبة لشيعة إيران الذين يعانون العقوبات الدولية وعملتهم شبه منهارة، حيث صار الآن شيعة إيران هم من يحتاج شيعة العراق لا العكس».
كما قال الروائي العراقي سنان أنطون فإن رحى الحرب لا تزال تدور على العديد من المستويات والجوانب. ولاشك أن حربًا دمرت بلدًا بحجم العراق وشردت شعبًا بحجم الشعب العراقي تبعاتها لم ولن تنتهي بين عشيةٍ وضُحاها وتأثيراتها كما هي جوهرية على الصعيد الداخلي العراقي فهي بالطبع جوهرية على الشعب الأمريكي وتغير على إثرها الموقف الجمعي الأمريكي تجاه خيارات الحرب والسلام واستخدام القوة والردع خارح الحدود الأمريكية. وإن كان الرأي العام الأمريكي خرج من الحرب الباردة بتبعاتها المؤلمة أكثر تحمسًا لقرار الحرب والردع العسكري فإن الحرب العراقية 2003م غيرت على نحو كبير هذا التوجه.
وبدا ذلك جليًا في السباق الانتخابي الأمريكي عام 2009م والذي أفرز لنا باراك أوباما، وهو الذي حاول لثمان سنوات متتابعة النوء ببلاده عن أي تورط عسكري خارجي، حتى أنه في الحرب على تنظيم الدولة اكتفى بالطلعات الجوية العسكرية. وكانت حملة أوباما الانتخابية تسوق للرجل على أنه عارض التدخل الأمريكي في العراق في حينه.
والصراع الانتخابي الحالي كذلك أفرز لنا مرشحين أمريكيين أغلبهم يستبعد أن يتورط ببلاده في أي تدخل عسكري بري في مواجهة تنظيم الدولة أو غيره. فقط، تكتفي الولايات المتحدة بتقديم المعونات اللوجستية والمعلوماتية والتدريبية كما تفعل حاليا مع القوات النظامية العراقية وبعض فصائل المعارضة السورية المعتدلة. فلم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تدفع فاتورة حرب جديدة في المنطقة أو خارجها. لاسيما وأن الحرب العراقية التي دفعت الولايات المتحدة على إثرها ثمنًا باهظًا ذهبت أغلب ثمارها للجار الإيراني،الذي استفاد بشكل كبير من الفوضى وهدم المؤسسات العراقية بعد الحرب.
اليوم إيران هي التي تدفع الفاتورة في سوريا بميليشيات حرس الثورة ومؤخرًأ بوحدات من الجيش الإيراني -كانت قد دفعت بها قبل أيام لإنجاز مهمات استشارية حسب ما أعلنت- فهل ستحقق إيران ذات المكاسب التي حازتها من سقوط العراق، لاسيما وأنها اليوم هي من تدفع فاتورة القضاء على الجماعات المعارضة -المعتدلة وغير المعتدلة- للنظام الموالي لها؟
إن الوثائق الإيرانية التي كشف عنها الأسبوع الماضي تظهر حماقة المغامرة الإيرانية في الشرق الأوسط, والاهتمام بالمراجعة والتي قامت بها وزارة الدفاع الأمريكية لغزو العراق بعد عقد من الإطاحة بصدام حسين. وبدأت المراجعة تحت إشراف الجنرال ري أوديرنو وانتهت تحت إشراف الجنرال مارك رايلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الحالي وجاءت في مجلدين من 1.300 صفحة، وهي نظرة شاجبة للغطرسة الامريكية حيث انتهت مراجعة البنتاغون بعبارة واضحة: “في وقت نهاية هذا المشروع عام 2018 يبدو أن إيران التوسعية والجريئة هي المنتصر الوحيد”. ونعرف الآن بالضبط كيف حققت طهران النصر وبمساعدة أمريكية كما تظهر البرقيات السرية التي أعدتها المخابرات الإيرانية.
وحصل موقع “ذا انترسيبت” على الوثائق من داخل الاستخبارات الإيرانية ونشرها الأسبوع الماضي بالتعاون مع صحيفة “نيويورك تايمز” وتقدم بطريقة مثيرة وتعيد حكاية كيف استفادت إيران من الفوضى التي تلت الغزو الأمريكي عام 2003 حيث اخترقت إيران النظام السياسي والإقتصادي للبلد. وذكر موقع “إنترسيبت” أن الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري وصل الشهر الماضي إلى بغداد لدعم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في وقت كان فيه مئات المتظاهرين يحاصرون الحكومة ويطالبون بالإطاحة به. وبحسب “إنترسيبت” فقد مزقت الولايات المتحددة العراق وعليها تحمل المسؤولية، وفي الحقيقة كانت تريد عراقا محطما وغادرته. و “لكن إيران هي التي بقيت لتتعامل مع القطع التي تركها الأمريكيون وراءهم.
وتكشف الوثائق أن الإيرانيين استفادوا من كل عثرة أمريكية واستخدموها لتوسيع تأثيرهم. فعندما حلت سلطة التحالف المؤقتة الجيش العراقي بناء على سياسة اجتثاث البعث استغلت إيران حمام الدم الطائفي بين السنة والشيعة من أجل دمج الضباط السابقين فيه واستخدامهم.
وعندما بدأت الولايات المتحدة بإعادة بناء المؤسسات التي تحطمت بفعل سياستها قام المبعوثون الإيرانيون ببناء علاقات وتحالفات مع مسؤولين بارزين مثل عبد المهدي. وأعضاء في حكومة حيدر العبادي. ولم تتوقف جهود إيران على العراق بل وحاولت تجنيد عميل داخل وزارة الخارجية الأمريكية. وعندما أعلنت أمريكا عام 2011 عن خطة الإنسحاب من العراق قامت إيران بمحاولات لتجنيد معظم الارصدة الأمنية والعملاء الذي تعاونوا مع المخابرات الامريكية. فقد تركت سي آي إيه عددا من عملائها الذين خدموها طويلا ورمتهم في الشارع بدون عمل وفقراء في بلد حطمه الغزو خائفين على حياتهم بسبب علاقتهم مع الأمريكيين. ولهذا بدأ عدد منهم بالتعاون مع المخابرات الإيرانية وأخبروها كل ما يعرفونه عن عمليات سي آي إيه في العراق. وباع مصدر للإيرانيين كل ما يعرفه عن المخابرات الأمريكية من البيوت الآمنة وأسماء الفنادق ومسؤولي سي آي إيه وتفاصيل عن أسلحته والتدريب الرقابي الذي تلقاه. وأسماء العملاء العراقيين الذين عملوا مع الأمريكيين. ومثل تاريخ البنتاغون عن حرب العراق فالوثائق الإيرانية ليست دليلا على ذكاء الإيرانيين ولكنها شجب لجهود بناء الدول في القرن الحادي والعشرين. وهدم الغزو العراقي الذي جاء محملا بالغطرسة العسكرية الأمريكية كل ملمح من الإستقرار وأشعل الخلافات القديمة التي لم يكن يمكن حلها من خلال دورة قصيرة باللغة الفارسية.
والمفارقة أن مشروع بناء الدول في الشرق الأوسط تحول إلى أداة يستخدمها أعداء أمريكا لتوسيع تأثيرهم. ففي أفغانستان التي تقوم فيها أمريكا بسحب قواتها وسط توسع سيطرة طالبان على البلد. وأثبتت روسيا وإيران القدرة على جلب مسلحي طالبان إلى طاولة المفاوضات، بشكل زاد من تأثيرهما على حساب أمريكا المجهدة. وفي سوريا أدى الخروج السريع للقوات الأمريكية لنفس الفراغ استعرضت من خلاله تركيا وروسيا عضلاتهما. وخلق التخلي عن حلفاء أمريكا الأكراد وضعا مثل تخلي سي أي إيه عن عملائها في العراق، حيث وجد أكراد سوريا أنفسهم في تحالف مع نظام بشار الأسد الرهيب. وتشبه محاولات أمريكا الحديثة لبناء الدولة مثل سارق غريب يدخل بيتا ويقضي 20 عاما لكي ينظف ما تركه. ثم يطلب هذا الغريب مساعدة جيرانه.