لا جدال ان ايران ، وليس اميركا ولا السعودية أو غيرهما ، هي اللاعب الرئيس المتحكم بمقاليد امور العراق اليوم ..اذ مهد الاحتلال لاستلام حلفاء ايران مفاتيح السلطة فيه…وبالتالي التمدد عبرهم في كل المنطقة وليتواصل قوس التاثير الايراني الى سوريا ولبنان وغزة والخليج .
الرافضون للدور الايراني من العرب يخلطون بين البعد الديني الطائفي له وبين دوافعه الستراتيجية . في حقيقة الامر يشكل العراق محور الحركة الستراتيجية الايرانية كمجال حيوي للدفاع عن فارس والتوسع غربا…وذلك بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم سواء كان امبراطوريا ساسانيا أو شاهنشاهيا او اسلاميا خمينيا وخامنئيا . ولا تشكل الورقة الطائفية الا اداة في هذه اللعبة الستراتيجية …وهي اداة لم تكن يوما بمثل هذه الاهمية لولا سقوط النهج القومي العربي الذي عمل على ابقاء التناقضات والخلافات مع ايران في بعدها القومي ….الا ان موجات التطرف الديني عملت على تقديم الاعتبارات الدينية والطائفية على الاعتبارات والانتماءات الوطنية والقومية …فمنح ذلك ايران فسحة للنفوذ الى منطقتنا من هذا الباب.
لقد أثبت رجال الدين الايرانيون دهائهم السياسي في استغلال الفرص التاريخية الستراتيجية المتاحة لبناء دور جديد وكبير لايران على المستوى المحلي والاقليمي …فتلقفوا اخطاء النظام العراقي السابق واخفاقات الغزو الاميركي لافغانستان والعراق …وسذاجة التفكير الستراتيجي الخليجي البدوي…فبنوا عليها جيدا لتمدد ايراني واسع في منطقة شاسعة ومهمة تمتد من افغانستان الى سواحل المتوسط الشرقية والى اليمن وسواحل الخليج …وتم تطويع الورقة الدينية – الطائفية لتاسيس محاور قوية حليفة لها داخل العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول الخليج ( بالمقارنة مع الاداء الباهت لرجال الدين العراقيين والمتأسلمين ،الذين تخلوا عن دينهم ومبادئه من اجل السياسة التي لم يفقهوا فيها شيئا ولم يفلحوافي الحكم فكشفوا البلد ستراتيجيا للتاثيرات الخارجية ورضوا بدور تنفيذ الاوامر والتعليمات الصادرة لهم من الخارج) .
اهم اهداف الستراتيجية الايرانية في العراق تتلخص في الحفاظ على الوضع الحالي في العراق بأي ثمن…….. …فاهمية العراق تفوق اهمية غيره من البلدان كخط دفاع وصد وهجوم امامي لايران ، وساحة للتواصل الجغرافي مع الحلفاء في سوريا ولبنان . من اجل ذلك تعمل ايران على ابقاء المحاصصة وعدم التفريط بالائتلاف الشيعي الحاكم الذي اسسته ويضم اهم حلفائها ، وهذا يتطلب بدوره تهميش واقصاء الشيعة العلمانيين والقوميين واليساريين لان فكرهم ونهجهم لا يتفق مع الرؤية الايرانية . كما يتطلب ذلك ايضا تهميش اي دور مؤثر للسنة العرب لعدائهم التقليدي لايران ، ومنع اي تغيير حقيقي في الوضع السياسي من خلال السيطرة على حركة السياسة الداخلية والخارجية العراقية بأدوات مختلفة معروفة للجميع …
السيطرة الايرانية على الاوضاع في العراق ليست امرا حيويا للامن القومي الايراني وامن حلفائها في المنطقة فقط …وانما ايضا لاستخدام هذه الورقة في المساومة مع اميركا والقوى الدولية الكبرى حول مسائل النووي واخرى اقليمية حيوية ….وهذا يفسر القبول الضمني الاميركي للتدخل الايراني العسكري المكشوف في العراق بعد استيلاء المسلحين على الموصل …لانه دور يصب في المصلحة الاميركية .
في ظل هذا الوضع ستبقى اشكالية العلاقة مع ايران محورا للصراع والانقسام الداخلي العراقي بين حليف ومؤيد يراهن على ايران حتى النهاية ( انطلاقا من خلفية طائفية او ارتباط سياسي ..تم تغذيته وتوسيع قاعدته الجماهيرية طوال السنوات السابقة )…وبين رافض( توسع بدوره بفضل سياسة التهميش الحكومية ) يرى ان هذا الدور في حقيقته تخريبي وتفتيتي ومضيّع للهوية العراقية الجامعة وللهوية العربية ..
برأيي ان كلا الفريقين يمتلكان قدرا من الموضوعية في الموقف ، لكن المشكلة تكمن في التطرف والغلو فيه ….فالرهان الكامل على ايران يوقعنا في اشكاليات عدة ليس اقلها الانغماس في هواجس ايران الاستراتيجية بلا مبرر …ومنها الدخول في صراعات مع دول الخليج ومع التنظيمات الجهادية ، واستفحال الارهاب وانتاج الازمات
الداخلية التي لها تاثيرات مدمرة على الامن والاقتصاد والوحدة الوطنية …والانهماك كدولة في صراع طائفي محلي واقليمي خطير يهدد مسقبل كل العراقيين .
والطرف المعادي لايران على طول الخط ، يخطئ ايضا بتجاوزه حقائق الواقع ومعادلاته الاقليمية التي تمنح ايران ميزة واضحة في الشأن العراقي والاقليمي لا ينبغي تجاهلها انسياقا لعصبيات قومية او ترسبات تاريخية او ( وهذا المهم ) لاعتبارات طائفية اوانسجاما مع مواقف حلفاء خارجيين ( اتراك وخليجيين ) …فالبعد الطائفي ليس الا اداة وليس هو الاساس في التحرك الايراني رغم خطورة هذه الاداة ، وجعل هذا البعد الاساس في السلوك السياسي والميداني يعني دفع الناس دفعا الى التخندق الطائفي حتى لمن لا يرى في ذلك تعقلا .
وقد اثبت الارتهان الكامل لايران في منطقة تسودها اغلبية سنية ، انه لا يجلب سوى المشاكل لاصحابه …فالاعتماد السوري المتزايد على ايران ادى الى عزل سوريا بالكامل عربيا والى اشتداد اوار الحرب الاهلية وفتح ابواب التدخل الخارجي على مصاريعه ، دون ان تكون هناك اشارة الى نهاية قريبة بعد كل الدمار الحاصل….
وبعد ان كان حزب الله يتمتع بشعبية عربية عريضة لدوره التاريخي المشرق المقاوم للعدو الصهيوني ، تم سحبه الى بؤرة الصراع الطائفي المحتدم فاصبح متورط عسكريا في سوريا والعراق ، وانحسرت شعبيته عربيا بل بات محاصرا داخل لبنان سياسيا ومستهدفا هو وجمهوره من قبل التنظيمات السنية المتطرفة .
أما الحكومة العراقية بقيادة الائتلاف الشيعي فهي في وضع لا يحسد عليه : نصف مساحة البلاد خارج سيطرتها ، والمجاميع المسلحة السنية والشيعية هي التي تحكم الشارع … ونذر التقسيم والحرب الاهلية تهدد الاخصر واليابس ..وهي( الحكومة ) الى ذلك لا تحظى بثقة الشيعة ولا الاكراد ولا السنة وتحكم في بيئة معادية لها عربيا …واقليميا ومدانة بالسلوك العنصري المذهبي دوليا ..
نخلص ان الرهان الكامل على ايران في الواقع لن يفسح المجال لتأسيس علاقة ثقة متبادلة بين المكونات الوطنية …لان المصلحة الايرانية لا تكمن في بقاء العراق متماسكا …ومادامت ايران تتعامل مع المكونات بانتقائية مميزة .
التجربة العالمية تقول ان اي تحالف يكون قويا وحقيقيا فقط عندما يكون اعضاء التحالف في مواقع متكافئة او يمتلكون حدا من الاستقلالية في القرار الوطني ، لانه لا يمكن بأي حال تطابق كامل لمصالح بلد ما مع بلد اخر حليف نظرا لاختلاف ظروف كل منهم …واذا لم يكن اطراف التحالف يمتلكون حرية اتخاذ القرار المستقل المتلائم مع المصالح الوطنية عند الحاجة ، يضحى التحالف مجرد علاقة اذعان من الطرف الضعيف للطرف القوي ….وهذه هي حقيقة التحالف بين الائتلاف الوطني وايران بعيدا عن اي تجميل مذهبي او سياسي …وهذا وضع لا يصب في مصلحة العراق حتما ….
المطلوب اذن شجاعة من كل الاطراف للتقدم خطوة الى الامام …على حلفاء ايران ان يضعوا خطوطا نهائية لما هو مسموح او غير مسموح به في الرهان على ايران والتفريق بين ماهو وطني وقومي وبين ماهو ديني ومذهبي ….فهذا الخلط يعقد الامور اكثر … وعلى الطرف المناهض لايران ان يتحلى بالواقعية ويبتعد قليلا عن العاطفة والارتهان للنظرة التاريخية او الارتباط الخارجي في تعامله مع ايران احتراما للضرورات الوطنية التي قد تختلف عن الاعتبارات المذهبية والقومية ….وفيما عدا ذلك فان العراق ذاهب بسرعة اكبر في طريق المجهول… ….