23 ديسمبر، 2024 6:21 ص

حقائق خطيرة عن الجمهور الساخط..!!

حقائق خطيرة عن الجمهور الساخط..!!

الجمهور الساخط أو الناقم على الحكومات ، كان على مدى التاريخ هو مصدر الثورات والإنفجارات والثورات الإجتماعية، بعد أن يصل الحال الى الحد الذي لم يعد لدى الجمهور الناقم، إلا سلوك طريق (القطيع) كما يطلق عليهم المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) ، تعبيرا عن حالة السلوك الجماعي الذي تذوب فيه الفوارق الإجتماعية بين الطبقات الواعية ، وتلك التي تدخل ضمن إطار التنويم المغناطيسي، لتتحول تلك الجموع الى حالة تتساوى فيه أشكال السلوك وكأنهم كلهم (في الهوى سوى) كما يقال ، يتساوى فيه راعي الغنم مع حامل شهادة الدكتوراه في معظم الأحيان!!

وحتى في عصر الرسل والانبياء ، كان هؤلاء يعانون من إستفحال تلك الظاهرة، وهم يواجهون سيلا من الإتهامات من الجمهور الناقم، الذي يريد تحويل سلوكهم ، من التمرد والعصيان، الى مجتمع بناء، يسهم في تطورهم ورقيهم نحو حياة أفضل!!

كان الطبيب والمؤرخ وعالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون (1841 – 1931) قد وضع لنا تفسيرا منطقيا ، لسمات من يشترك في الثورة على الانظمة الحاكمة، وكيف يتحول سخطها من حالة الوعي الى حالة اللاوعي، حيث يذوب الأفراد من أعلى الثقافات الى أدناها في سلوك مدمر ومحطم، واذا ما انفجر اللاوعي وتخطى الحاكم في قمع الشعب او الانحراف عما يطمحون اليه، حدثت الثورة ولا يمكن التنبؤ بما تسفر عنه تلك الثورة من تدمير لبنى المجتمع وتحطيم لمعالم الحضارة والتمدن!!

وصف غوستاف لوبون الأشخاص الذين ينتمون إلى جمهور معين بأنهم هامشيون وشاذون عن المجتمع، كالذين يعانون من نقص في الانتماء، لهذا يلجأ البعض منهم لأي (فريق) يتجانس مع توجهاتهم ، وقد ينضمون الى ما يشبه الفريق الكروي ، ليصل الأمر بغوستاف لوبون الى ان يطلق عليهم “القطيع” أو ” الرعاع”، وغيرها من المسميات التي تنتقص منهم!!

لقد تعمق غوستاف لوبون في دراسة عواطف الجماهير وإتجاهات الرأي العام وأنماط التجمعات البشرية ، وهو يعتقد ” أن الجماهير التي هي فوضوية بطبعها تميل إلى حب السلطة القوية وتخاف من فقدانها، حيث أنها تتنمر وتنقلب على السلطة الضعيفة، وفي حال كانت السلطة تتأرجح بين هذا وذاك فإن الجمهور أيضاً يتأرجح بين الالتزام والفوضى، ولكن تبقى الغريزة الثورية والانتماء إلى قضية أمرًا مهيمنًا على روح الجماعة بشكلٍ كامل، فالأفكار كما يقول لوبون لا تفعل فعلها في الجماهير إلا إذا أدخلت إلى اللاوعي وتحولت إلى شكل عواطف، لذلك فإن السامع المثقف أيضًا ما إن تتلو عليه حقيقة وتعود إليه بعد أيام إلا وتجده قد عاد إلى خزعبلاته القديمة بصفتها رسخت وتحولت إلى عواطف بداخله لا يستطيع الحياد عنها، فالإنسان بطبعه منذ أن وجد لا يكف عن خلق عادات وتقاليد خاصة به ليقوم بتدميرها وبناء أخرى بديلة وهكذا”.

لذلك ومن هذا المنطق الذي يفترضه لوبون فأنك لايمكن ان تتنبأ بنتائج تصرفات هذا القطيع ، أو الجماعة المتمردة ، لكنه يعود ليخفف من وطأة تصرفات وتمرد القطيع بقوله : ” أن الجماهير هي فئة شغب بطبعها تحب النهب والسلب، بل في بعض الأحيان هي مستعدة أن تقدم تضحيات بلا مقابل، كما يحدث في الجماعات الثائرة وذلك بسبب ترويج شعارات وأفكار إيمانية على شكل صور معتقدية وخطابات مدروسة، تجعلهم يتحركون ضد السلطة ويغوصون بروح الجماعة دون الوعي لما هم عليه وماهية الخطاب الموجه إليهم، لذلك من السهل تعديلهم وتوجيههم إلى المسار الصحيح في حال كان الخطاب الموجه إليهم سليما في فحواه”.

أما الروائي والكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل فقد قدم نموذجًا واضحًا وصريحًا في روايته “مزرعة الحيوان” على ” انه يمكن توجيه سياسة الجماهير لتصدق ما نرغب بتصديقه، حيث أنها عندما تكتشف الحقيقة المخفية وتقف ضدها لا تتردد في أن تكون نسخة منها في المستقبل.أي أنه باختصار يمكن للجمهور بسهولة أن يكون جلاداً أو ضحية بنفس النسب تمامًا لأنه كالإنسان” الهمجي” لا يهتم إلا بالوصول إلى رغباته مهما حال بينه وبينها” بحسب قوله.

والحقيقة الأغرب من وجهة نظر علماء نفس ” أنه ليس بالضرورة أن يكون الجمهور في مكان واحد، بل قد يكون جمهورًا خاضعًا لنفس الفكرة في مختلف الأماكن في العالم، بينما قد يجتمع العديد من الأشخاص في مكان واحد صدفة دون أن يربطهم شيئ”.

ويقول لوبون “لكي نقنع الجماهير ينبغي أولا أن نفهم العواطف الجياشة في صدورها وأن نتظاهر بأننا نشاطرها اياها ثم نحاول بعدئذ ان نغيرها عن طريق اثارة بعض الصور المحرضة بواسطة الربط غير المنطقي او البدائي بين الاشياء.

ويضيف ” إن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي او الطبيب الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات و ايعازات أحد المحركين او القادة الذي يعرف كيف يفرض ارادته عليها .. وفي مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدىء بتنفيذ الاعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا اطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة .. فالقائد الزعيم اذ يستخدم الصور الموحية و الشعارات البهيجة بدلا من الافكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير و يسيطر عليها”.ويصل لوبون الى نتيجة مؤداها :” أن الثورات تساعد على التدمير الكلي للعقائد التي أصبحت مهجورة ولكنها لا تزال رازحة بسبب نير الاعراف والتقاليد”.

وما نريد الوصول اليه في خاتمة هذا الاستعراض، وفقا لرؤية غوستاف لوبون، انه لايمكن التنبؤ بما يحدث في هذا البلد من تطورات، نتيجة مايجري فيه الان، من حالة غليان اللاوعي، ومن سريان بعض أنماط السلوك الجمعي الغاطس تحت توجيه ( المنوم المغناطيسي) ، الذي يتساوى فيه سلوك الجماعات الواعية مع تلك التي تدخل ضمن الانماط الشعبية وقليلة الوعي والثقافة، ليتوصل الى نتيجة خطيرة، هي أنه من الصعب جدا السيطرة على انفلات الأمور عندما ينفجر هذا ” القطيع” فقد تتحول الثورة الى فوضى”!!

أحد شيوخ النجف وشيوخ آخرين من وجهاء محافظات العراق ، وبخاصة من محافظة ذي قار، قد فسروا ما آلت اليه الاوضاع في العراق على أن التمسك بـ (السلمية) الى نهاية المطاف أمر لن يجدي شيئا ، وهم يشيرون الى انهم يعتصمون منذ أكثر من شهرين ، في محافظاتهم، ولا أحد قد إلتفت اليهم، او إستجاب لنداءاتهم لوقف حالة التداعي والانهيار والفوضى التي شهدتها مناطقهم بل وعراقهم، وهم يشيرون في خاتمة سخطهم ونقمتهم على ضياع مستقبل البلد بين إيران وجماعاتها الموالية لها، أنه لم يتبق أمام العشائر إلا ان تواجه السلطة ، لأنهم يعتقدون أن بقي الأمر على الإعتصام السلمي، فلن يتم تحقيق أي ومطلب ولو بعد قرن من الزمان!!

وفي إعتقادي المتواضع أنه على من يتمكن من أن يقود الجمهور الناقم او الساخط أن يعرف كيف يحول إتجاهات الجمهور الناقم الى سلوكيات ترتقي الى آمال الجماهير الثائرة وتطلعاتها ، ولا يراهن على الزمن في تشتت توجهات تلك الجماعات الناقمة، ولن يكون بمقدوره الوقوف بوجه تطلعاتها المشروعة في أن تجد لها مكانا للعيش يليق بها، وأن لايبقى الحاكمون ومن يتسلطون على مقدرات الشعب أن يبقوهم في دائرة الإهمال والنسيان، وهم الذين يعيشون في مستويات عيش متدنية، خارج نطاق الآدمية، وهم يسعون الى إيجاد (مخرج مشرف) ينقذ أجيالهم من حالة الضياع ، الى بناء معالم دولة يسود فيها القانون والنظام وتنتهي حالة فوضى السلاح المنفلت ، ويتحول ” القطيع الناقم” الى جمهور” إيجابي” فاعل وبناء، ليعيد السلطة الى الشعب، بعد ان سلبها الدكتاتوريين منهم، وحولوا حياتهم الى ما يشبه ” القطيع” الذي لاحول له ولا قوة، وما إن إستشرى الظلم والجور وتفتشت مظاهر القتل والترويع والاختطاف والفوضى، حتى سما وعي الجمهور النوعي وارتقى بها الى الحالة الأمثل، بالاتجاهات التي تخدم أهدافه في أن يجد له بقعة أرض أو وطنا، يعيد اليه كرامته المسلوبة، وثورات الشعوب على مدى التاريخ، فيها من الدروس والعبر على قدرة الشعوب الحية على أن تعيد زمام المبادرة لنفسها، وتعيد الامور الى صوابها، عندها لن يكون بمقدور أي حاكم مهما بلغت جبروته إلا أن ينصاع لإرادة الجمهور، ويضع له المكانة التي تستحق!!