تؤكد كل الحقائق إن أحداث النهب والسلب في العراق تزامنت مع دخول قوات الاحتلال.. فقد بدأت الظاهرة في البصرة باحتلال القوات الأمريكية والبريطانية لها.. ثم امتدت هذه الأعمال إلى بغداد فكركوك.. لتشمل غالبية المحافظات العراقية.. بمستويات مختلفة ..
ـ إن أولى واجبات القوات الأمريكية باعتبارها قوة محتلة وفق القانون الدولي: هي حماية الأملاك العامة والخاصة.. وتوفير الأمن والسلامة والصحة للأهليين المدنيين.. لكنها لم تعمل ذلك.. بل قامت بحراسة وزارة النفط.. والسيطرة على البنك المركزي فقط ..
ـ ومنذ اليوم الثاني لاحتلال القوات الأمريكية العراق.. أخذت هذه القوات تشجع الناس وتكسر بيدها إقفال الوزارات والمؤسسات الحكومية وتفتح أبوابها لتدخل السراق.. كما شاركً بعض الضباط والجنود الأمريكان بسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه ..
ـ وبدأت كل الكتل والأحزاب والشخصيات المعارضة.. التي جاءت مع المحتل بالسرقة والنهب.. وبطريقة منظمة وموزعة بينهم المناطق والمحافظات.. ويبدو إن هناك تنسيق مسبق بينها للاحتلال والاستحواذ على المناطق والقصور والدوائر من دون أن يكون هناك تتداخل أو تنازع أو تصادم على تقسيم المغانم والمناطق ..
ـ كما إن حزب البعث.. الذي فقد سلطته.. اصدر بياناً حال احتلال بغداد الى كل رفاقه أكد فيه: (اسرقوا كل محتويات المؤسسات والمصارف وأحرقوها).. أي احرقوا هذه المؤسسات والمصارف بعد سرقتها ..
ـ وبسبب غياب أية إدارة عسكرية أو مدنية أو شعبية في المناطق والمحافظات.. التي كان من المفترض إقامتها بشكل شعبي أو من قبل أحزاب المعارضة بالتنسيق مع قوات التحالف.. فقد تحرك المجرمون والسراق والعصابات التي أطلق سراحها صدام من السجون قبل الاحتلال بمدة وجيزة.. على المال العام لسرقته ..
ـ كما هجم الكثير من عناصر الشرطة على المراكز التي يعملون بها.. أو التي تقع قريبة من محل سكناهم.. وسرقت السلاح والأثاث وكل شيء في هذه المراكز ..
ـ وذهب العديد من الضباط.. ومعهم المتطوعون العرب الى معسكرات الجيش ومخازن الجيش وطبابتها وسرقوا السلاح والعتاد..وأخفوه في أماكن آمنة.. وقد استخدموه فيما بعد ضد القوات الأمريكية.. بعد أن شكلوا تنظيم القاعدة.. والكثير منه استخدمته القاعدة وحتى داعش فيما بعد ..
ـ إن أخطر السرقات كانت كارثة سرقة حضارة العراق التاريخية.. عندما تم السطو على المتحف الوطني العراقي.. حيث سُرق من المتحف 170000 (مئة وسبعين ألف) قطعة أثرية.. وكانت بعض هذه القطع من الضخامة في الحجم ما يستحيل سرقتها من قبل أفراد عاديين.. إذ برزت شكوك على أن تكون هذه السرقة بالذات منظمة ..
ـ لقد بلغت عمليات النهب ذروتها بين شهري أيار وتموز من العام نفسه.. بسبب عدم وجود قوات أمن توقف عمليات النهب.. واكتفت القوات الأمريكية بالتفرج بل وبالتشجيع.. قبل أن
تؤدي الضغوط الدولية.. في تذكير قوات الاحتلال بواجبها في حماية مواطني ومؤسسات الدولة المحتلة ..
ـ لقد سرق وأحرق ودمر كل شيء.. ولم تسلم من أيدي العصابات المنظمة.. الذين تجمعوا على عجل.. حتى دور الأيتام.. وكان واحد من كل أربعة مراكز نجا جزئياً.. أما بقيتها فقد هدّمت وسُرقت وأفرغت من محتوياتها.. وكان مركز قرب مدينة الثورة يضم 300 طفلاً وطفلة.. بقيً منهم 30 طفلاً فقط في بناية مهجورة بلا أبواب ولا شبابيك ولا ماء ولا كهرباء.. حتى مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعقلية (مستشفى المجانين) لم يسلم من الهجوم عليه.. وسرقً كل شيء فيه .. فهربً المجانين الى الشوارع في ذلك البرد القارص ..
ـ لقد حفزت عمليات النهب والفوضى.. التي عمت البلاد وانعدام سلطة القانون.. العقلية البدوية لدى الناس.. تلك العقلية القائمة على الغزو والاستحواذ على المغانم.. سواء لدى بعض المقيمين في المدن أو في الريف.. فكانت صور المآسي الحية تنتشر في الألفية الثالثة.. ولم تستطع العناصر الحضرية والريفية من أصحاب الشيم والنخوة من إيقاف تيار الظلام الجارف هذا.. سوى بالمحافظة على بعض المستشفيات والمؤسسات الصحية.. وعموم المواطنين لم يمتلكوا سوى الحسرة والبكاء والحزن على المال العام وتراث العراق ينهب ويدمر.. والألم يعتصرهم ودموعهم تجري بلا توقف.. ومن حاول الوقوف بوجه تيار النهب.. كان التهديد بالسلاح أو القتل مصيره ..
ـ وفي الوقت الذي اختصت العائلات الصغيرة الفقيرة بالسرقات الصغيرة أو البسيطة.. فإن شخصيات كبيرة.. وأغنياء وتجار و(مثقفين وإعلاميين وفنانين وفنيين وصناعيين معروفين) كانت لهم سرقات على مستوى اكبر.. وهي التي حازت على حصة الأسد.. ولم يكن من النادر أن ترى شاحنات كبيرة محملة بالخردة من جميع أنواعها.. أو محملة بالمعدات الجديدة مثل : الدبابات والصواريخ وأعمدة وأسلاك الكهرباء وغيرها.. وهي تتجه الى مجمع تجميع الخردة والسلع في دهوك مقدمة.. لشحنها الى تركيا ..
ـ كما إن السيارات الحديثة في مخازن الحصوة وبغداد.. كذلك سيارات مصلحة الركاب.. كلها سرقت بشكل منظم.. وتوجهت الى شمال العراق فوراً.. وعجلات الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة سرقت بشكل منظم.. معظمها استولت عليها الأحزاب السياسية.. فيما بعضها توجه فوراً الى الشمال ..
ـ استمرت أعمال النهب والسرقة حتى بعد تشكيل الحكومة المنتخبة.. وتشكلت عصابات منظمة لعمليات السرقة لمحال الصيرفة والذهب وغيرها.. وانتشرت أعمال خطف الأغنياء والأطباء وغيرهم لأخذ فدية مقابل إطلاق سراحهم أو قتلهم.. وما زالت حتى ألان مستمرة.. وما زال الوضع الأمني غير مستقر في كل إنحاء العراق ..
ـ وانتشرت عمليات الحرائق بشكل واسع منذ 12 نيسان 2003.. ولعل أول الأهداف كان إشعال النار في الطابق العلوي لبناية البنك المركزي.. ومبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية.. والطابق الأرضي لوزارة العدل.. ومبنى وزارة الإعلام.. ومكتبة الجامعة المستنصرية.. وقد أحرقت بعض المؤسسات مرتين أو أكثر ..
فقد دمرت وزارة الإعلام بعد حرقها.. ومثلها جرى لوزارات: التخطيط والتجارة والأسواق المركزية (28 نيسان).. وبقيت الأسواق المركزية الأخرى.. التي سوّيت بالأرض.. ودائرة
السينما والمسرح التي أحرقت أكثر من مرة.. وقد جرى سرقة المكتبة الهائلة من الأفلام فيها التي تشكل ذاكرة العراق.. وقسم منها جرى نقله الى شمال العراق.. وكانت مخزونة في الطابق الأرضي الذي امتلئ بالمياه مما سمح بإخفائها فترة عن أعين العصابات الأولى.. على الرغم من تعرضها بعضها للضرر.. كما تعرضت دائرة ومبنى دائرة الجنسية للاحتراق مرتين.. ووزارة التعليم العالي ثلاث مرات.. والعديد من الدوائر والمؤسسات الحكومية.. وفي أكثر من حالة شوهدً مترجمون يصاحبون القوات الأمريكية يدعون الناهبين إلى الإسراع في نقل الممتلكات العامة قبل الحرق! وتضافرت شهادات على إن غالبية أولئك المترجمين كانوا يتحدثون بلكنة كويتية ولبنانية ..
ـ ظاهرة إضرام النار.. وإشعال الحرائق استمرت.. وشملت أهدافاً أخرى مثل حرق بساتين النخيل والفاكهة في محافظات ديالى والبصرة وواسط وغيرها.. وقد ذكرت التقارير أن السكان أكدوا إن (عصابات إجرامية جاءت من إيران والكويت.. هي التي أشعلت الحرائق بمواد حارقة سريعة الاشتعال).. ومن المحتمل إنها مزارع لأعضاء متنفذين في حزب البعث وقياداته أو انتقاماً من مسؤولين سابقين ..
ـ أما موقف الإدارة الأمريكية في بغداد فالأمر فلم يقتصر على الجنود والضباط بهذا المجال.. بل هو سياسة مقصودة كما يبدو.. حيث تذكر الكاتبة الأمريكية المعارضة لسياسة الإدارة الأمريكية “نعومي كلاين” عن بيتر ماكفرسن كبير المستشارين الاقتصاديين لحاكم الاحتلال المدني في العراق “بول بريمر”.. انه لم ينزعج لمرأى نهب ممتلكات الدولة.. كالسيارات والشاحنات ومعدات الوزارات المختلفة.. فالأمر بالنسبة له كمسؤول أساسي عن العلاج بالصدمة الاقتصادية.. كان يعني تقليص حجم الدولة وخصخصة ممتلكاتها.. وبالتالي فإن الناهبين إنما أعطوه انطلاقة البدء بالعمل فحسب.. وطريقة للتخلص من ممتلكات قديمة بامتلاكها من مواطنين فقراء عانوا عصوراً.. فترفع مستوياتهم مؤقتاً الى عودة الأجهزة الحكومية للتأثير.. ويذكر ماكفرسن انه رأى في النهب نوعاً من الخصخصة تحدث بشكل طبيعي ..
ـ أما الناطق باسم البيت الأبيض “آري فلايتشر” فقد صرّح في 12 نيسان 2003 : بأن عمليات النهب التي تتعرض لها بعض المدن العراقية.. من قبل مواطنيها بعد أن سقطت سلطة النظام العراقي.. سوف تتوقف حال تعزيز الوضع الإنساني في العراق.. مضيفاً في مؤتمر صحفي: (إن ما نراه هو نوع من التعبير عن الإحباط الذي عاشه العراقيون على مدى ثلاثة عقود على يد النظام) ..
ـ وزير الدفاع الأمريكي “دونالد رامسفيلد” قبل أن تُثار ضجة دولية بعد نهب كنوز المتحف العراقي.. قال مبرراً أفعال الناهبين بأن: (لا أحد يشجع على النهب.. لكن علينا أن نتفهم الاستياء والكبت الناتج عن عقود من القمع الذي يشعر به الأشخاص الذين قتل أقارب لهم على يد نظام صدام حسين.. مضيفاً: إن العراقيين قاموا بنهب “رموز السلطة” بشكل خاص لاسيما القصور الرئاسية ومقرات حزب البعث) ..
ـ بقيً أن أقول إن ضعاف النفوس من الموطنين دخلوا عملية السرقة.. في اليوم الرابع من الاحتلال.. بعد أن سُرقً كل شيء بشكل منظم.. فتجد هذا الفقير سرقً تلفزيون أو مبردة لحاجته إليها.. أما النهب والسرقات الكبرى فكانت منظمة كما أوردناه أعلاه.. فلا تسيء على شعبكً.. ولا تطبل دون معرفة.. هذه هي الحقائق موثقة بالصور والصوت والوثائق ..