18 ديسمبر، 2024 6:28 م

“حفلات القرن” … ليالي “محمد عبده” في مسقط

“حفلات القرن” … ليالي “محمد عبده” في مسقط

لم تكن الحركة عاديّة في محيط دار الأوبرا السلطانية مسقط في تلك الليلة التي شدا بها مطرب العرب محمد عبده، فالمواقف ممتلئة، والحركة على أشدها، وكنّا كلّما نقترب من الدار يزداد عدد الأشخاص الحاضرين الذين يبدون من مختلف الجنسيّات ، بخاصة الخليجيّة، والسعوديّة تحديدا، وحين وصلنا بوّابة الدار وجدنا طابورا، ومجموعة من الشباب العمانيين العاملين بالدار ينظّمون عمليّة الدخول، ولم أطل الوقوف في البهو الرئيس للدار لشدّة الزحام، فدخلت القاعة، مسرعا، وأخذت مقعدي المخصّص، رحّب بي الشاب الذي يجلس على يميني ، وكان اسمه زكي الزدجالي، وقال لي إنّه حجز للحفل منذ ثلاثة شهور!!

وهو واحد من الكثيرين الذين جاءوا لقضاء ليلة مع الطرب الأصيل، يحييها أشهر الفنانين العرب ممن عاصروا جيل العمالقة، في الستينيّات، إذ برز في مرحلة صعبة مزدحمة بكبار المطربين، وتدافع معهم بالمناكب حتى أخذ نصيبه من التميّز، ممضيا نصف قرن متربعا على عرش النجاح، وواصل تألّقه ، واستطاع الوقوف على المسارح العربية الكبرى في دول الخليج العربي، الشام، وافريقيا ، وأوروبا، ولم يعد ذلك الشاب الخجول القادم من جدّة التي درس صناعة السفن في المعهد الصناعي، ثم سافر في بعثة إلى إيطاليا لمواصلة تعلّم تلك الصناعة، حاملا على أكتافه مرارة اليتم التي ذاق طعمها في طفولته عندما فقد والده وكان في السادسة من عمره، ويبدو أن مرارة اليتم هي التي جعلته يلتفت للشاعر بدر شاكر السيّاب الذي ذاقه قبله، فاختار “أنشودة المطر” التي جعلها عبده في مقدّمة أغانيه في ليالي مسقط التي وصفها بأنّها ” حفلات القرن”:

تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال

تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ.

كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام:

بِأنَّ أمَّـهُ – التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ

فَلَمْ يَجِدْهَا، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال

قَالوا لَهُ: ” بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ.. ” –

لا بدَّ أنْ تَعُودْ

لكن تلك المرارة لم تقف حائلا بينه ، وبين أحلامه التي لم يجد أنّه سيحقّقها في صناعة السفن ، ليصبح بحّارا مثل والده ، بل بصناعة ثانية هي صناعة تاريخ جديد للأغنية السعودية، والخليجية ، والعربيّة، فعندما سمع صوته (عباس فائق غزاوي) انبهر به عندما غنى، فأتاح له فرصة المشاركة في برنامجه الإذاعي (بابا عباس) وذلك عام 1960م، فأبهر من سمعه وكان الشاعر طاهر زمخشري من أوائل من أشاد بحنجرته، وتنبّأ له بمستقبل باهر، فغيّر مساره إلى بيروت التي كانت تمثّل حاضنة فنيّة، وثقافيّة، ووصل إليها قادما من جدّة برفقة الغزاوي وطاهر زمخشري وهناك سمع صوته الملحن السوري (محمد محسن) ليغني أغنية(خاصمت عيني من سنين) ، ويتوقف عن غناء أغاني من سبقوه، وغنّى أيضا (قالوها في الحارة.. الدنيا غدارة)، ليعود إلى أرض الوطن نجما صاعدا بقوّة صاروخيّة، وليواصل تألّقه.

هنا قطع سرحاني صوت ناعم ، يأتي عبر مكبّرات الصوت، ألفناه قبل بداية كلّ عرض في الدار يرحّب بالحضور، ويطلب منهم اغلاق الهواتف النقّالة، والتذكير بأنّ التصوير الفوتوغرافي، وتسجيل مقاطع الفيديو غير مسموح بهما داخل القاعة، متمنيا للحضور قضاء وقت ممتع، أغلقت هاتفي، وبدأت أترقّب مثل البقية الذين ازدحمت بهم المقاعد اطلالة النجم الذي ملأ الأسماع عذوبة ،وشغل الساحة الغنائيّة بروائعه المعروفة: مالي ومال الناس، إبعاد ، الأماكن، أنشودة المطر، يا راحلة، جمرة غضى، مذهلة، رسولي قوم، المسافة، صوتك يناديني، أخت النهار، وغيرها من الأغاني التي وضع ألحان الكثير منها، وبعضها كانت ثمرة تعاون مع الملحن الدكتور عبد الرب إدريس، الذي وضع ألحان العديد من أغنيه منها : محتاج لها، جيتك حبيبي، أبعتذر، كلك نظر، وواصل مشواره ليضع أسس أغنية خليجية، لها نكهة خاصّة.

تذكّرت أوّل مرّة استمعت لصوته في حفل أقيم عام1984 في ملعب رياضي في العاصمة الرياض، وكنت مشاركا ضمن وفد بمهرجان الشباب العربي السادس، فوقف الجمهور مصفّقا له، وللراحل طلال مدّاح الذي شاركه ذلك الحفل الذي بقي في الذاكرة.

بعد قليل، صفّق الجمهور للمايسترو وليد فايد محمد قائد الفرقة التي عزفت برفقة كورال، وإيقاعيين من الخليج. ومن بينهم عدد من العازفين العمانيين ، وعلاقة المايسترووليد فايد بعبده قديمة، تعود إلى عام1997م في لندن، ومنذ ذلك التاريخ وهو يقوم بإعداد التوزيع الموسيقي لأغانيه ، فأثمر التعاون بينهما أعمالا لاقت نجاحا كبير ومنها: اختلفنا، شبيه الريح ، مذهله ، طيري معي، مساء الخير ،مجنونها، ومجموعة إنسان، ومثلما ازدحمت القاعة بالحضور ازدحم المسرح، بالعازفين ،والكورال، والجمال، وبخطى هادئة، وبدون استعراض ألفناه من المطربين، سار النجم على أرضيّة المسرح، بينما وقف الجمهور مصفّقا، مرحّبا بــ “أبو نوره” الذي ردّ على حفاوة الجمهور بانحناءة خفيفة، وابتسامات أخفّ، ثمّ مضى في حوار مع المايسترو وليد فايد مقلّبا صفحات كتبت بحروف بارزة، وبعد قليل بدأ العزف، ومع أوّل جملة موسيقيّة، صفّق الجمهور، الذي لم يكتف بحفظ أغاني ( فنان العرب )، وهو لقب أطلقه عليه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، في الثمانينيات عندما أقام عبده حفلة في تونس، بل تجاوز ذلك إلى حفظ موسيقى تلك الأغاني .

وبعد انتهاء العزف، بدأ الغناء، ومع نطق أوّل جملة لحنيّة، هبّت عاصفة من التصفيق ، وواصل الغناء ، لاحظت أنّه اكتفى بإسماع صوته للجمهور وهو يغنّي، فلم يلق كلمة، وكأنّما اكتفى بالكلمة التي وجّهها عبر الكتيّب التعريفي بالبرنامج ، ونشرت بخط يده ، والتي جاء فيها” بسم الله الرحمن الرحيم أحبّائي جمهور دار الأوبرا السلطانيّة مسقط ، يسعدني أن ألتقي بكم في هذا الصرح العربي الثقافي العظيم لكي نستمتع بالطرب العرب الأصل ، وقد اخترت لكم في هذه الأمسيّات باقة من أغنياتي التي أتمنّى أن تكون من ضمن توقّعاتكم إلى جانب بعض الأغاني الحديثة التي أتمنّى أن تحوز على إعجابكم ، سوف أقدّم لكم على مدى ثلاث أمسيات باقات مختلفة من أحبّ أعمالي حتى يستمتع الجمهور بأكبر عدد من الأغاني ، ولكم كلّ الحب … الفنّان محمّد عبده ”

وبهذه الكلمات اختصر الكثير من الكلام، حول الحفل الذي كما ذكر لـصحيفة “أثير” أن التمهيد ، والإعداد له، تمّ قبل أكثر من ستة أشهر ،أمّا الفكرة فقد كانت سابقة للإعداد بأكثر من سنتين ، وتمحورت حول عمل حفلات توثيقيّة لبعض مسيرته الفنيّة الخمسينيّة ، وهذا ماتمّ إذ شاهدتُ حوالي 8 كاميرات في القاعة تسجّل كلّ صغيرة، وكبيرة، وهذا أراه للمرّة الأولى في دار الأوبرا السلطانيّة ذات القوانين الصارمة بشأن التصوير التلفزيوني، إلاذ بشكل محدود، وكان العاملون بالدار ينبّهون الجمهور الذي يهمّ بالتقاط صورة، عبر الهواتف النقّالة، أو يهمّ بتسجيل مقطع فيديو بأن ذلك ممنوع، ومع ذلك نجح جاري الذي يجلس على يميني بالتقاط صورة مرتبكة، مرّرها لي، وقمت بنشرها عبر حسابي بـ”تويتر” لأحصد الكثير من الـ “لايكات” .

وكان كلّما ينتهي من مقطع، يصفّق الجمهور بحرارة، وأحيانا يعبّر عن اندماجه من خلال ترديد الألحان، ومنها “جمرة غضى” للأمير بدر بن عبد المحسن، وألحان فنّان العرب :

جيتك من الإعصار .. جفني المطر .. والنار

جمرة غضى

والله الجفا برد .. وقل الوفا برد

والموعد المهجور ما ينبت الورد

ياحبي المغرور .. ياللي دفاك اشعور

رد القمر للنور .. واحلى العمر .. في وعد

بردان .. بردان أنا تكفى.. أبي احترق بدفا

يا أول الحب .. شفتك أنا مره

واهديت لك قلب

ورديت لي جمرة

ومن يومها كان الرحيل

وليل الشتا .. القاسي الطويل

وآه يا الحنين

لليل باب له حارسين

برد وسحاب

وقاطعه الجمهور بالتصفيق وهو يغنّي “مجموعة إنسان” والأخيرة من ألحانه، وكلمات خالد الفيصل فمجرّد أن قال :”قالت من انت .. وقلت ” تعالى التصفيق ،وردد خلفه “مجموعة انسان” ليواصل تحليقاته في فضاءات الجمال :

من كل ضد وضد تلقين فيني

فيني نهار وليل .. وافراح واحزان

اضحك ودمعي حايرٍ وسط عيني ..

فيني بداية وقت .. ونهاية ازمان

اشتاق باكر واعطي امسي حنيني

واسقي قلوب الناس عشقٍ وضميان

واهدي حيارى الدرب .. واحتار ويني ..

واحاوم طيور السما حوم نشوان

واسيل الوديان دمعٍ حزيني ..

في عيني اليمنى من الورد بستان

وفي عيني اليسرى عجاج السنيني

تهزمني النجلا .. وانا ند فرسان

واخفي طعوني والمحبه تبيني ..

ان ما عرفتيني فلانيب زعلان

حتى انا تراني احترت فيني ..

في تلك الليلة سقطت مقولة الرازي الذي قال”كلّ غناء يخرج من بين لحية وشارب لا يستعذب” تلك التي أدلى بها لمن سأله عن سبب تركه الغناء الذي بدأ حياته به!

في تلك الليلة، والليلتين التاليتين، استحضر الجمهور الأصوات الخالدة التي حفرت ملامحها في الوجدان العربي، فصدق بها وصف (فنّان العرب) لها بأنّها (حفلات القرن) .
نقلا عن صفحته الشخصية ـ فيس بوك