حين قرر الطيب الصحفي الغير مشهور اطلاقا ان يكتب هذه المرة شيأ مألوفا جدا ولكن بشكل وصيغة جديدتين نوعا ما. طالما احزنته وضايقته فكرة التشطر والغلبه عن طريقها. تلك الفكرة تناقض تماما مايؤمن به ومادرسه على ألأقل. وما يزيد من حيرته هو يتماشى عليه الواقع من فقاعات ثقافية كما يروق له تسميته. لاتزعجه هذه الفكرة بل تؤلمه, الواقع شيء, الذي درسه ايضا شيء, ومايؤمن به هو شيء آخر.
أيجوز أن يحمل هذا التناقض في نفس الوقت على شيء أسمه ألواقع. ألواقع ألذي لو لانا لما كان, نحن هم ألذين يرسمون الواقع وما سيكون عليه هذا الواقع في ألغد. ألمستقبل هو ألغد وألغد هو ألواقع الذي رسمناه بواقع أليوم.
سرعان ماتنبه ألطيب الى انه اذا استمر بتفكيره هذا سيضيع ويهرب ألوقت منه وسوف لن يكتب ولا حتى حرفا واحدا.
عاد الى موضوعه ألأول وكيف له اصاغته وطرحه بشكل أفضل, واضح, صريح, سهل ألهضم والوصول الى ألأخرين.
وتسائل كم هو صعبا ان تصل لحد ألأقناع, للأخرين, أم هو ألأيمان صعب؟
لسنين طويلة ظل هذا ألموضوع شاغلأ أذهان الناس وليته شغل بالهم فقط بل التف حول حياتهم كأفعى سامة أو كحبل مشنقة. رغم نعاسه ألشديد لم يستطع النوم بسبب هيمنة أفكاره عليه,, بالأحرى هي فكرة واحدة هناك تدور في رأسه ورغما عنه سببت له ألأرق في تلك اليلة. يشعر بالأجهاد والنعاس يثقلان عينيه ورأسه يترنح بفكرة النوم والكتابة معا حتى شعر انه ومن الصعب جدا عليه اسناد جمجمنه على الوسادة التي تحولت الى صخرة تصده وتدفع بتحجرها اليه, فجأة ومن بين كومة المعانات في ان ينام أو يكتب قفزت اليه صورة صديقه القديم وذكراه, أنه رفيق الدراسة, ألفيلسوف ألصامت, هذا اللقب أطلقه عليه صديقنا الثالث, وما هو اسمه؟ سفير,,سفير كان يماحكه دائما لغرض في نفسه, لربما ألأستفزاز, ليجعله يشرع في الكلأم وفيلسوفنا أبدا كان أذكى وأكبر من هذا. نعم هو كان صامتا. ولكن تسائل ألطيب:
_ أيطرد تلك ألذكرى ولماذا ألأن,, في هذا الوقت, وقت انشغاله, تأتي!
كم هذه ألذاكرة هي جهاز عجيب تخزن ألأشياء وألأحداث وألأحلام, وألأسماء, وألمواضيع,و, ,كل شيء مثل صندوق نخزن فيه حاجاتنا وأشيائنا حتى يمتلأ ثم نقفله وحين نفتحه تقفز لعبة ما أو حاجة ما كنا تقريبا اشرفتا على نسيانها, ألذاكرة هي هذا الصندوق, صندوق ألأعاجيب وفيه من المصادفات والمفارقات الكثير, الكثير.
الى هنا وكفى صرخ ألطيب ,,وقد قرر النهوض من فراشه, لم يعد يمتلك أي سبب يدفعه للبقاء هكذا في جحيم الصراع مابين النوم, الوسادة, أو فكرة ألكتابة. كيف يقنع جسده بالنهوض وألأنصياع لهذا القرار المفاجيء ونبذ النوم رغم التعب وألأجهاد وهناك رغبة في الهروب من أية مسؤولية وألأخلاد الى حرية الفراغ.
ألمواضيغ بكثرتها هي مجموعة من الخيوط تنسج فكرة واحدة وهاهي الفكرة واضحة مطروحة أمامه وليس عليه الا التقاطها وتبنيها وصناعتها, أليست هي صورة صديقه الفديم, ألفيلسوف ألصامت؟.
وكما أنشتاين صرخ مع نفسه وجدتها هو ألأخر, هو ألطيب ألصحفي الغير مشهور, هو بنفسه وجدها, فكرته, مغتبطا بصوت عال صاح:
-أنت هنا ياصديقي, نعم أنت هنا معي ياصديقي ألقديم, اية مصادفة غريبة وسعيدة ان نكون معا من جديد ورغم كل هذه السنين الطويلة؟.
نسيج من حبال غامقة وفاتحة في أللون تشبه بالضبط صورة عضلات الجسد في كتاب ألأحياء أو العلوم وبدون ملامح تذكر, لا شعر يكسوا رأسه, لاأهداب تظلل عيناه ألواسعتان ومجرد من الملابس أيضا, من فرحته ألطيب لم يهتم ولم يسأل بل من لهفته قال هاتفا:
-ياصديقي, أهلا بنا مرة أخرى.
كعادته , هو لايحب المجاملات او أللف والدوران, هكذا هو يحب من ألأخر الدخول في موضوعه وماالذي هو نفسه يستطيع القيام به لأجل هذا ألأخر لذا رد عليه بجدية لاتخلو من نبرة ألصداقة وحنينها:
-ياطيبي أدخل في موضوعك .
-ما رأيك بالذي يجري؟.
-وماالذي يجري؟.
-كل شيء.
-مثل ماذا؟.
ألسؤال يصورة أخرى؛ لماذا ( الفيلسوف ألصامت ) ؟.
لقب أطلقتموه ولابأس به.
-لم الصمت؟.
-لنقل ألخوف.
-ممن؟
-أنت تعرف.
-أهي مراوغة أم مساومة؟.
-لست بالمراوغ ولااملك ما أساوم عليه, تعرف ماأخاف عليه ولست بخائف وليكن سؤالك هكذا, ولا تجيبني بسؤال.
-أنا الذي يسأل فأنا صانع المقابلة!.
-بالتحديد, ماحاجتك مني ألان؟.
-كم لديك من الوقت, ساعتان؟.
-خذ يومان.
رائع كما عهدتك.
-حسنا وبعد؟.
-الكثير,,الكثير من الناس شغلتهم وتشغلهم قضايا ليس لها من ألأختلاف في شيء, اعني الكل مشترك أو يجمعه لنقل نفس القلق وربما الخوف حول قضايا محددة ولكنها تكاد تكون مصيرية.
-ماذا ترى؟.
ماذا أرى,,أليك ما أرى:
أرى هذه ألأرض وهذا البلد, هذه ألأرض هي أرض الزراعة ألأولى. أرض التجارة ألأولى,,,أرض التكوين البدائي ألأول,,من بطن هذه ألأرض التكوين الفطري للأنسان,,ألأنسان الذي انساب مع الزرع والماء وامتد مع أرضه السمراء ولم يظمر حقدا حتى لرمل الصحراء العقيم وأعلن حضارته التي هي اعماله, فكره, أيمانه, صنعه هو. أرى هذا البلد وهذه ألأرض هذا التراب الذي أحتضن ألأنبياء حملوا أجزائا لرسالة واحدة لكلمة واحدة,,,والناس غرسوا بذورهم ورعوا حيواناتهم بأمان,,,شيدوا أكواخهم بدون اسراف. هذا البلد كان فجره صلاة ونهاره عمل وليله استرخاء. أرى نفس ألأرض تحمل أنبياء اليوم, أنبيائها اليوم يحملون رسالة منتهية بألظلام يخطونها بحروف من بشر.
ياصديقي, اني أرى ملكا يقف في ألأعلى وحيدا وبدون تاج, وأناسه ينظرون جهات مختلفة, منهم من في القاع ينظر الى ألأعلى ينتظر,, مكدس في القعر بحيرته وخوفه, ومابين ألأثنين المدى المحدودالفارغ الفاصل مابين المتدكدس ببضاعته من الجوع والحيرة ومن هو هناك يتادي بصوته فقط. هناك أجنحة تحوم تبتغي ألطيران ومنها أفترشت الفراغ بأجنحتها ,, حلقت وبدون انتظار لصوت طلقة ألأبتداء.
أكثر من هذا ما رأيت وأرى, ليس لدي الحكمة بعد ولاأمتلك حلا لنهاية التفسير.
-أسمع ياصديق, ماسأقوله لك هو ماتعرفه عن شيء قديم. مسرح الدمى لم يأت من عبث, وجاء ليقتل الملل والعبث كما ظهر قديما ليحمل رسالة الكلمة, يحملها صدى ضحكات ألأطفال والكبار, يحملها الشعور الناتج عنها في النفوس. الطرفين, الصانع الراوي والمستقبل لهذا النوع من الرواية والطرفة كلاهما هذا يعطي وذاك يأخذ وألأسفنجة تمتص الماء ولا بد لها من اعادته. تكوين وصنع ألعاب ودمى من مواد هي أصلا متوفرة في الطبيعة, في محيطنا, من عيدان الشجر وأخشابها أو من القصب أو حتى من الكرتون وربطها بالخيوط ونهاياتها ستكون في النهاية بيد صانعها. وحتى الظل كان يتكلم هو لا يظلل فقط وانما يحكي بتكويناته وأشكاله المختلفة التي هي أنعكاس للأشكال المكونه من قبل صانعيها, هي انعكاسات ظلهم المتحرك وحسب ارادتهم هم. ظلنا ما عاد يتكلم ما عاد يحكي حكاياه, ببساطة يا صديقي لقد اضعنا ظلنا. ألان نرى ظلالا واسعة بأمتدادها غير قابلة للتشكيل. علينا أن نسعى جاهدين للعثور عليهما. كلاهما. نهايات أطراف ألخيوط لنحرك دمانا لتروي روايتها والعثور على ظلنا ليعكس هيئاتنا وأشكالنا.
-يافيلسوفنا وياصديقي انت ترمي علي كل الشبكة, ما أنا بحوت, خيط واحد يكفيني حتى اشقى ولاأنام أبدا.
-طيب, أيها ألطيب, هنالك مثلا آخر ولكنه أسهل.
-هاته, وقد خرجت من صمتك.
-قتل ألأفرازات والقضاء عليها. ألأفرازات كالنفايات. أذا قررت ان ترفع عن شارعك أو من أرض ما كل النفايات التي من شأنها عرقلت المشي وقتل النظافة ,,رفعتها وأرسلتها الى مكانها الخاص بها,,,نظفت الشارع او ألأرض ,,,بللتهما بالماء,,سيبهرك منظر الشارع,,وتريحك رائحة التربة الطيبة,, متى قررت ذلك,,أنت لاتقرره,,التآلف مع ألأفرازات والنفايات هو استسلام وخدر,,هو سماح لهذا الخدر بالتسلل عبر مسامات جلدك الى خلاياك الى وعيك المنغمس فيه,, متى قررت ذلك,,فقط عندما تشعر انك وقد ضقت ذرعا بهذا الشارع أو تلك ألأرض . لا يأتيك هذا الشعور وانت مستسلم مخدر بأفيون ألأفرازات ولكن فقط حين تقرر حقن نفسك بأبرة مضادة وهي أبرة التعليم.
التعليم هذه الكلمة تستطيع أنقاذ أجيال عدبدة قادمة من الضياع المؤكد. أنظر ألى البستاني ومايفعله, هنالك فرق مابين الفلاح والبستاني. الفلاح يحرث , يغرس, يسقي ويداري ويجني ويبيع أيضا. البستاني من الممكن ان يعمل كل هذا ولكن وقته مخصص للأهتمام بنشذيب وتهذيب وحشية الطبيعة. ليس من الضروري ان تحمل شجرة الورد وتثقل نفسها بالكثير من البراعم وألأوراق , يهذبها البستاني لتنمو بصحة جيدة ورشاقة الى ألأعلى.
تنهد ألطيب, وقال بيحيرة وقلق واضحين:
-كل هذا جميل ولكن من أين تأتي بهذا البستاني ( الحدقجي ) ؟.
-أتسأل من أين ونحن ياصديقي الغرس مهنتنا, هذا البلد فيه العديد,,هذا البلد,,,,هذا البلد,,,هذا البلد,,,من فراشه وجد ألطيب نفسه يردد هاتين الكلمتين.
وبصوت خافت ولكنه مسموع كلم نفسه:
-ياااااه , أأنا صاح أم كنت نائم؟ , أم هناك شيء مابين الصحو والنوم, وصديقي الفيلسوف أين هو ياترى وعلى أية أرض يعيش وهل تكلم أم مازال صامتا؟.
أنتهت.