البيئة التي يعيش فيها الشاعر تعكس ذاتها عليه، أن كان في الوعي أو في العقل الباطن، من هنا نجد الطبيعة العراقية تفرض ذاتها على “صاحب الشاهر” فنجد الطيور وخاصة العصافير منها حاضرة في أكثر من قصيدة، وكأنه من خلالها يريدنا أن نتفكر في تحليقها عاليا، فنتعلم منها الحرية والتحليق عاليا نحو فضاء شايع، غير محدد.
ونجد حضور نهري دجلة والفرات اللذان يمثلان أهم معالم العراق الطبيعية، فالماء أيضا يساهم إثراء جمالية الديوان، وكأنه من خلال هذا الحضور يريدنا الشاعر أن نربط واقع العراق الحالي بتاريخه العريق، منذ أن بدأت تتشكل المدن السومرية الأولى على ضفتي النهريين.
وبما أن العراق يمتاز بوجود حدائق/غابات طبيعية من النخيل كان لا بد لها أن تذكر في القصائد، فهي تشكل أحد أهم معالم العراق.
من هنا سنجد بعض القصائد تحكي عن طبيعة العراق، وكأنها حالة من الصفاء، حالة الفتاة البكر العذراء التي مازالت تعيش بعيدا عن مغريات وإغواءات الحياة، فيقول في قصيدة “سعادة”:
“حين أعود صبيا يتعاطى قبل الريفيات
قريبا من ذاكرة العشب: تعالي!
صوتك ينتحل الآن خرير النهر
غناء الطير
مواويل أخياتي
… وتعري.. عند نهايات لا متناهية
يا عاشقة لا تسبح إلا في عيني” ص13 نجد في هذا المقطع حضور كامل لطبيعة العراق وما عليها، النهر والماء، العصافير وشدوها، وأثر ذلك على الأنسان الذي يتغنى بهذه الطبيعة، والمرأة البهية التي تطفي لمسة جمالية وناعمة تزيد من حسن وروعة الحياة في هذا المكان.
وإذا تمعنا في اللغة التي استخدمها الشاعر نجدها لغة بسيطة، تتماثل بمضمونها وألفاظها مع اللغة الطبيعة البسيطة، فبساطة اللغة هنا ليست ضعفا في القصيدة، بل قوة فيها، حيث خدمت النص والفكرة التي أراد طرحها الشاعر.
ويقول في قصيدة “الحدائق تغادر أسوارها”:
“صبابتك العشب والماء.. قد تستعير الطبيعة
أسمي ..
وأن الدروب التي أوصلتني إليك مؤطرة
بالتوهج والشجر المستفز
فما أجمل الملتقى
طائران تغرب لون الظهيرة فينا
ولم نحترق
طائران مع الريح نصعد .. نهبط .. نصمد
لكننا كالينابيع لم نحترق” ص15، تشكل روعة الطبيعة في المقاطع السابقة وهجا فنيا للشاعر فنجده يستخدمها ـ كما هي ـ مضيف عليها العنصر الإنساني، المرأة والرجل، فكانت لوحة طبيعية إنسانية مذهلة الجمال.
أعتقد بأن أفضل ما في الديوان هذا التوحد بين الطبيعة الأنسان، فكلا منها يضيف لمسة ناعمة على الديوان، فيجعله أكثر ثراءً وجمالا، فيندفع المتلقي نحو مزيد من التمتع بما يقرأه.
وفي قصيدة الأغنية الأخيرة
يتحفنا الشاعر بهذا المقطع قائلا:
“يا ليل ترفق!
يا ليل حانيك أرقت دموعي
وأنا ظمأ ابيض
قد يشربني النخيل نبيذا
لكني أبدا..
أبدأ .. أولد في رئة الينبوع” ص54 و55. وكأن الشاعر بهذا المقطع لا يكتفي بجزء من طبيعة العراق “نبيذ النخيل” لكنه يريد أن يتوحد/يتماهي مع العراق الكلي، بكل ما فيه وما عليه، وما يحسب لهذا المقطع بأنه أوضح لنا بأن الطبيعة العراق هي المفتاح/الحل/العلاج/المخلص لأي كآبة أو حزن أو خطب يصيب الشاعر.
المرأة
والمرأة أحد العناصر التي الاساسية الفاعلة في الديوان، فهي حاضرة ومؤثر في الشاعر من هنا نجدها في العديد من القصائد، وهي تأخذ شيئا من صفة الطبيعة الجميلة المهدئة للشاعر،
“وحين يحاصرنا الليل تشتعلين حوالي عشقا
تحلين شعرك في رغوة الحلم
تغتسلين معي
ثم نعدو وراء المرايا
لعينيك لون الأغاني التي تحتسيها الفصول
وصوتك أطفأ الثلج شيئا .. فشئيا
تكور ساق المسافة
ماذا تقولين؟.. نحن اقتربنا
أمام اشتهاء الصبيان ماذا تقولين
نحن افترشنا معا
كبرياء الرياح .. ونما” ص35 و36، في هذا المقطع يحاكي الشاعر طقوس الزواج المقدس التي كان يقيمها العراقي القديم، والتي تعبر عن مفهوم الخصب والنماء، والشاعر تعمد أن يكون اللقاء بحبيبته في الطبيعة فوق الأرض المعشبة، والوقت كان ساكنا، ليل، والسماء الرحبة تعتلي الجسدين، ففي هذا المكان الخلاب والوقت الجميل، الذي يزيد من الحسن ويعطي دفئا اضافيا للحبيبين، فكان حوارهما يتناسب مع روعة المكان والوقت، وهنا يؤكد لنا الشاعر عملية التوحد والتماهي بين الإنساني والطبيعي في هذا المقطع، بحيث كلاهما يخدم فكرة صفاء وجمال الطبيعة.
وهناك مقطع آخر يوحد فيه الشعر بين المرأة والطبيعة حيث وجد محبوبته بهذا الشكل:
“صوتك ينتحل الآن خرير النهر
غناء الطير
مواويل أخياتي” ص12، ما يحسب لهذا المقطع أنه يحمل المعني أتجاها رمزيا واتجاها واقعيا، بحيث يمكننا أن نأخذ بأياً منهما أو بكلاهما، وبصرف النظر عن هذه ثنائية الفكرة، يبقى النص متألقا ناصحا ممتعا، فأجمل ما في هذا الديوان الامتاع الذي يجعل المتلقي يتجلى بما يقرأه من قصائد.
القرآن الكريم
هناك تأثر بالقرآن الكريم عند الشاعر يظهر لنا في عدة قصائده كما هو الحال في المقطع: “هزي إليك بجذع القصيدة يساقط الألم الشاعري عليك” ص25 “يتوجس خيفة” ص64، كلما انتبذت نخلة في دمائي مكانا قصيا” ص108، وكأن الشاعر في هذه المقاطع يريدنا أن نماثل القصائد، وهنا موضوع الفكرة متعلق بالإنسان، والنخلة وهي متعلقة بالطبيعة، بالكيفية، بالظروف، بالعلاقة التي كانت بين مريم وعيسى عليهما السلام، وجاء استخدم النص القرآني وليس نص الكتاب المقدس لما للقرآن من دقة جمالية في التصوير.
الثقافة الوطنية والطبقية
ونجد في الديوان ثقافة طبقية تضيف جمالية اضافية عليه،
“يا وطنا يتبنى احزان العمال
ـ الفلاحين
ـ الشعراء” ص67
وكأن الشاعر بهذا المقطع أراد أن يقول بأن الوطن هو مكان الذي يهتم بناءه ويخفف عنهم المعاناة، يمنحهم كل ما يريدونه من متطلبات الحياة، المادية والروحية.
وكتب الشاعر قصيدة “طقوس” يتحدث فيها عن بغداد ما تحمله من معنى/أثر/ماضي/ في نفس الشاعر، وكأن بها يحاكي بغداد الآن، بغداد التي فض بكراتها المحتل، وتركها سبية للغرباء:
“هذا هرم الماء يدور علي
هذا وجهك يشبه خارطة ما
ظلك يمشي بمحاذاة زنين
.. يترنح فوق رصيف الأسماء
هذا صوتك يا بغداد طريا
ونقيا
مثل خيال المتغرب في الصحراء
فعلام تجف زواياك الأربع بين يدي
حتى يطرحك الصيف رمالا
وعلام تهدهدك الأسئلة
عطشا
فوق شواطئ دجلة لا تعرف أي الضفتين هي المنفى!
بين يديك
وعدتك أن أقرأ ليلة أمس
قليلا من شعري
وعتدك أن أبكي .. وأغني
لتخصب أولى شهوات الفرح البريء
وعدتك.. لكن الموعد ضيعني
نسيتني الأيام طريحا في منطقة الظل
فدعيني اعتدل الساعة مثلك
متشحا بالرهبة.. أريم للآتين ملامحك
لونك
طعم شفاهك
هذا الوجع الطافح بين أصابعك
ودعيني أتجاوز ذاكرتي
ألتصق جرحك منشورا في القلب
فتلبسني الساقية
المتلبسة .. العشب المتوحد والضلع
الخامس والعشرون بصدري
.. وأغني” ص 29 ـ 31، لم أكن أريد تقديم غالبية القصيدة، لكن روح الشاعر، رؤيته التي سبقت العصر وتجاوزت الزمان، جعلتني أمتثل للنص وأقدمه بشكل شبه كامل، فرغم كتابة هذه القصيدة في شهر نيسان من عام 1973 إلا أنها تحكي عن بغداد اليوم، بغداد التي تركها جل أبنائها وحيدة، تغتصب من قبل المحتل، بغداد التي تركوها للقوادين يستبيحونها لكل غريب، ويقدمنها كسبية، كجارية تباع بابخس الأثمان.
الديوان من منشورات وزارة الثقافة والأعلام، دار الرشيد للنشر، دار الحرية للطباعة، بغداد الطبعة الأولى 1980.