على عكس مثلنا القائل: “إذا ضاگ خلگك اتذكر ايام عرسك”. فلقد بات استذكار “الأعراس الانتخابية” التي عاشها العراقيون طيلة العقد ونصف العقد الماضية من أعمارهم، مدعاة حزنهم ومصدر أرقهم وألمهم، لما خلفتها من مآتم ومصابات، ما فتئوا يتجرعون مرارتها حتى ساعة كتابة هذا المقال، ولا أظن الساعات والأيام والسنين المقبلة ستشهد انفراجا، مادامت الأسباب والمسببات في ذلك مازالت قائمة. فمن المؤكد أن لكل شيء سببا ومسببا، ومؤكد أيضا أن المسببات تتنوع بين عفوي وعرضي، وبين مدروس ومخطط له، وبإيجاز أكثر مصداقية، بإمكاننا القول أن المسببات تنحصر بين قوسين لاثالث لهما، فهي إما بريئة وإما “خبيثة” والأخيرة هذه هي عين ما أقصده في التالي من سطور.
إن لنا في السنوات التسع عشرة الماضيات، أدلة كثيرة على دور الأحزاب وتسببها في إشاعة الخراب، فما من ركن من أركان البلاد إلا والفساد فيه يحمل بصمة واضحة لحزب من الأحزاب، بل بصمات لأكثر من حزب، وما أكثر المؤسسات التي نخر الفساد هيكلها بسبب الأحزاب، ولو أردنا إحصاءها لما توقف العد لدينا عند رقم أو عدد بعينه، بل على العكس، سنبحث جاهدين على حزب أحسن صنعا في البلاد، لكن خفي حنين سيكونان حصيلة بحثنا لامحال.
وإن أردنا الاقتداء بعبارة (المجرب لايجرب) واقتفاء أثرها، لا أظننا نحتاج تأكيدا على مافعلته الأحزاب بثروات البلاد، وكيف تبددت المليارات على أيدي هذا الوزير أو ذاك المسؤول، من الذين أتت بهم أحزابهم إلى سدة الحكم، وارتقوا سلم المسؤولية تحت جنحها، وتسنموا مواقع حساسة في البلد بتزكية منها، وصاروا يعيثون فيما وقع تحت أيديهم بتأييدها ونصرتها ومددها، حتى أوصلوا البلاد إلى مفترق طرق، بل متاهة الطرقات، فالخزينة فارغة، والبطالة المقنعة تنهش بالميزانية العامة، والترهل الوظيفي تدلى كرشه حتى غدا عاهة مستديمة، لاينفع معها علاج أو استطباب أو رجيم، وتعددت الآفات بين فساد مالي وإداري وأخلاقي وسياسي ومهني، وضاعت قيم، واستجدت أخرى، فيما ترفع الأحزاب راية النصر المزعوم، معلنة فوزها وغلبتها، وهي صادقة في زعمها، إذ أن نصرها وغلبتها وقعت على أم رأس المواطن المسكين، فيما كل حزب بما لديهم فرحون، يعمهون، يسرقون، يسرحون، يمرحون، ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون.
يقابل هذا إصرار المفوضية العليا للانتخابات، يؤازرها مجلس النواب، على فسح المجال وفتح الأبواب على مصاريعها أمام الأحزاب -ولاسيما الإسلاموية- وخير مثال على هذا، قرارها الذي أصدرته في آذار عام 2017، والذي نص على منح إجازات تأسيس جديدة لعدد من الأحزاب، لتنضم الأخيرة بقضها وقضيضها، وقيطها وقرميطها، و (شعيطها ومعيطها) إلى هلمة الذباب -عفوا الأحزاب- التي تتسيد خزائن البلاد، وحقول نفطها لشفطها ولفطها أولا بأول.
كذلك قانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015 الذي شرعه مجلس النواب، لإسباغ ثوب الرسمية والقانونية على السراق، ومنحهم حصانة المنصب تحت غطاء الشرعية، بغية تنفيذ أهدافهم، وإكمال مشروعهم الذي جاءوا من أجله، وما هدفهم إلا السرقة وإشباع نهمهم اللامنتهي، وما مشروعهم إلا إحلال الفساد بأشكاله وأصنافه كافة.
الأحزاب إذن، هي المعضلة العظمى والطامة الكبرى، وهي السبب والمسبب فيما وصلته البلاد من حال. ومع الدخان المتصاعد من نيران الانتخابات المبكرة الموعود بها، يبقى المواطن يجوع ويجوع لتشبع الأحزاب وتُتخم، وقد قالها الشاعر جميل صدقي الزهاوي قبل قرن من الزمان:
تقدم أهله الطاوين يمشي
إلى ذي نعمة أثرى وجمّع
وغمغم قائلا إنا جياع
فقال يرده جوعوا لنشبع
[email protected]