18 ديسمبر، 2024 11:51 م

حسين عبد اللطيف : شاعرٌ تشدوا القوافي حُزنهُ وتَطرِبُ ! – الذكرى السنوية الثالثة لرحيله

حسين عبد اللطيف : شاعرٌ تشدوا القوافي حُزنهُ وتَطرِبُ ! – الذكرى السنوية الثالثة لرحيله

( نستذكر في هذه المقالة الشاعر البصري الكبير حسين عبد اللطيف في الذكرى السنوية الثالثة لرحيله الذي يصادف العاشر من تموز 2014 وآلية اشتغاله وتعامله مع الكتابة بخصوصية التركيز على الشعر وفق نظام ثقافي مفتوح على الثقافات العالمية بشكل محايد وبإطار شرقي- عراقي يؤسس إلى مملكة ثقافية تقوم على نظام دلالي – نقدي للحقب التي عاشها منذ أن تحيز للشعر في نهاية الستينيات من القرن الماضي وحتى رحيله ) .

الكثير يظن أن بعد الانتهاء من قراءة أي مقالة أو كتاب أو قصيدة شعر , أنها نمط لكتابة أدبية تصف وجه واحد أو أكثر من وجوه الحياة التي خاضها الكاتب نفسه , وان الكاتب يروم من خلالها بناء عالما يراه أجمل وأكثر ملائمة لروحه, ويأمل أن يكون جسده عمودا في هيكل ذلك العالم ليحيا به كتعويض له عن الاضطهاد والتغافل الذي حظي به و النوائب التي تعرض لها.

وفي هذا الوصف , عادة , يضع الكاتب مقارنة بين الواقع الحقيقي وبين الواقع المتخيل من دون أن يشترط على القارئ أن يتفق أو لا يتفق معه في هذا الوصف سواء بشكل عام أو بشكل جزئي . ولكنه يشترط على القارئ غير المبتدئ novice أن تكون قراءته عميقة وخاصة في موضوعة الشعر المليء بالإلغاز والقافية المتعددة.

الجدير بالذكر أن القارئ نوعان: الأول قارئ لا يمت بأي صلة أو قرب مكاني أو زماني propinquity مع كاتب النص , لذلك لا يستطيع أن يكشف بشكل تام عن خفايا النص المتمثلة بالرموز الغارقة في القلب ولا يتبين مزاج mood الكاتب الذي يتعين معرفته منذ بدء النص وحتى نهايته .أما القارئ الثاني فهو النقيض للأول تماما . فبحكم صلته بالكاتب (= الشاعر ) بنواح عديدة يستطيع الكشف وبقدر كبير عن خفايا النص وبيان مزاج الكاتب وهذان عنصران يرتبطان , بالطبع , بروح الكاتب نفسه.

ولا يمكن أن نتخيل أي كاتب حر أو شاعر أو روائي يكتب نصا أدبيا من دون أن يحرص على قيمته الأدبية حتى وان بلغ سن الشيخوخة , إذ في جميع الأحيان تكون الكتابة لدى هؤلاء بمثابة الإفراز الإنساني الذي يشبه إلى حد كبير إفراز شجرة ” اللبان ” Boswellia sacra tree ذات الفوائد الطبية العديدة. ففي بيئة هذه الشجرة , يعتبرها السكان رمزا للحياة والحضارة في إفرازها لمادة اللبان ( العلكة المرّة ) حتى موتها .
وإذا كانت شجرة اللبان رمزا للحياة في البرية , فان الشاعر(=الكاتب) هو رمز للمجتمع ومرآته في بيئة الأولى التي يأخذ منها مواضيعه ليصوغها بحرص في قطعة أدبية ذات طابع إنساني وقيمة فنية عالية حتى وان بلغ من العمرعتيا .
لا تنفرد الكتابة في إبراز الجمال الأدبي فحسب , بل يقترن فنها بالبيئة الطبيعية والثقافية للكاتب. وفي هذا شبه مع العديد من الفنون ذات الصلة وبالأخص الفن الباروكي Baroque art الذي نشأ في بداية القرن السادس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر وفن العمارة Architecture الذي عبّر عن العاطفة الإنسانية والثورة على الواقع في فترة امتدت طويلا .

مثالنا في هذا الصدد الشاعر حسين عبد اللطيف (1945ــ 2014) , الذي وضع أمام عينيه , بوعي تام , كينونته state of being في مقاربة له مع مقولة الشاعر شكسبير التي نطق بها على لسان “هاملت ” قائلا : “To be; or not be” – أكون أو لا أكون – إذ يقول بمقطع شعري قصير : ” إما أن أعيش شاعرا لي من أساي أنا في منزلي عندليب أو أموت كبوم على خربات البيوت ” .

في مقولته هذه التزام لخيار أتخذه بوعي تام ومسؤولية أمام نفسه والعالم . إذ ” إما و أو ” هما على التوالي حروف , الأول للتخير الذي يستلزم التكرار والثاني حرف عطف يفيد الاختيار بين أمرين كذلك . إذن الشاعر يضع نفسه بين خيارين : إما شاعرا بمزايا إنسانية وأخلاقية سامية أو بوم ( وهنا استعارة للمرء المرتبط بالشؤم والنحس ) في عالم الواقع المبتذلmundane والنوائب القاسية , والذي يعتبره بغير المنصف وذي خصائص أخرى كالقبح والعزلة والتغذية على الحيوانات الفاطسة والحشرات. فأختار أن يصنف نفسه ككيان شاعر بدلا عن كيان رجل يخضع لذل prostration الخصائص السلبية .

وهذا اختيار صريح heart-to-heart يظهره الشاعر لقرّائهِ ليشاركهم فيه مشروع قصيدة (= نشرة ) , prospectus تصف عالمه الجديد , والذات التي أختارها لنفسه ليعيش كشاعر في عالم من المعالي والقيم الإنسانية والمجتمعية ينسجه بنفسه شعريا من ناحية , وندا لمن يحمل ميزان النقد بدراية وخبرة وبمنهجية أخلاقية وذائقة فنية عند البحث في مواضيعه الشعرية من ناحية أخرى.
لذا يتعين على القارئ أن يتعامل معه كشاعر والتهيئة لهذه المقولة التي تبدو شرطا معياريا قبل الشروع بقراءة نصه الشعري غير المحدد Unlimited ليستفزه وعيه بالبحث عما تخفيه قصائده التي بين يديه والقصائد اللاحقة من تبصر في المواضيع insight والتعرّف على مكانته كشاعر التي وضعها فوق كل شيء في الحياة .

تنطوي أعمال الشاعر حسين عبد اللطيف على إثارة الذكريات evocative من دون أن يكشف علنا عمن آذاه أو أقترف جرما بحقه , لكنه وضع الحياة الواقعية في المقام الأول كعدو لدود , فتحمل وزرها ووزر من وضع العراقيل في طريقه . لذلك جاءت قصائده تلميحية ويغلب عليها طابع التعتيم enigmatic, لكنها ليست وصفا صريحا لحياته expository , بل وصفا لما فعلت به الحياة وبلغة هي مزيج من لهجة الجنوب واللغة العربية الفصحى التي يجيدها بشكل مذهل.

وكان في هذا السياق ليس مصطنعا وطنانا لهذا النوع من الشعرgrandiloquent , بل مصورا بارعا للرعب الذي رآه في الحياة التي أنجبته ولم تلبث حتى أعتقلته في نمط ملفّق من ناحية , وغاضبا لدرجة الأسى التي وصل إليها في صموده إزائها من ناحية أخرى من دون أن يتخندق بالضد من إنسانيته وكيانه الشعري مع أهل النفاق .

وكان دأبه على كتابة الشعر بلغتين , الأولى بلغته المحلية التي تعلمها من المهد إلى اللحد , والثانية بلغة الشعر التي كتب بها أسباب نزاعه مع الواقع وشكل العالم الذي يبتغيه . ففي الأولى ولدت قصائده في بادئ الأمر من رحم القصائد الدينية , ذات بنية بدائية protomorphic , كتبها في الستينيات متأثرا بالبيئة التي سادت بها قصائد التذكير بشهداء يوم ألطفّ وتواصلها تفصيليا مع إحداثها الدينية كما فعل فن الباروك في أوربا.
يقول ت . س اليوت : Home is where one starts from ” المرء يبدأ من البيت ” . فاستجاب لبيئته في تلك المرحلة لتبدأ مسحة الحزن منذ ذلك الحين في شعره, ولكن توقف هرمون النضج لهذا النوع genre من الشعر أو ربما ضمر فحال دون استمراره وهذا ينطبق على الشعر الغنائي المحلي الذي جربه وتعاونه في ذلك مع الفنان عدنان خليل وخاصة أغنية ” راح السبت والأحد ومابين منهم أحد ” وأغنية ” بالك يا ولفي بالك تسمع حجي عذالك “. أما لغة الشعر فكانت هي المختارة ومادته في التعبير الأدبي السامي عن خلجات نفسه.

كانت كتابة القصائد الدينية بمثابة الرد لتحية هذا الضرب من الشعر الذي زحف إلى أذنيه في الستينيات من القرن الماضي وهو مازال في حالة مخاض الولادة كشاعر. ولكن لم تتقد لديه أي قصيدة تذكر لهذا الصنف لأنه لم يدخله في صميم اهتمامه فيما بعد, ربما بسبب كونه ذو صفة دون الغالبة subdominantفي تشكيل كيانه الشعري. ثم تطور لون الكتابة لديه بسبب تطور خبرته فأنطلق في كتابة الصورة الشعرية الخيالية ذات المواضيع المكثفة بعد أن ضاق ذرعا من النحس الذي رافقه في عالم الواقع . لكن تبقى ذكرى تجربة تلك القصائد تلوح كبقعة ضوء خافتة في أفق تاريخه الأدبي.

في قصائده اللاحقة , يبدو أن الشاعر حسين عبد اللطيف لم يتفق في النقاش مع الحياة الواقعية ولا بسقفها الزائف false ceiling الذي وضعته تحته وهذا ما جعله يركّز على كتابة الشعر بلغة شعرية تتصف بالإيجاز وبتلميحات عن الأذى والحيف الذي لحقه من جراء ذلك العالم حتى اللحظات الأخيرة من حياته سنة 2016 :
يالجة المصائب
تهدم البيوت
وتغرق المراكب
يامرة الطعوم
والمشارب
تفرقين صاحبا
عن صاحب
إليك عني..
مرة أخرى
كفاك صفعا..
أيتها الحياة
وتطعنين ! ( قصيدة : ليس أن يحملك فجأة هذا القارب)

وكانت تلك القصائد بمثابة المرايا لمراحل حياته وبحثه عن التجديد في تراكيبه الشعرية , بدءا من مجموعته الشعرية الأولى “على الطرقات أرقب المارة” عام 1977 وحتى قصائد “بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة- متوالية هايكو” في العام 2012 .

يشير البعض من أصدقاءه أنه كان يخاطب الحياة بما فيها من أهل وأصدقاء وأعداء وحاسدين ومنافسين بإحساس مرير ومؤس حتى عبّروا عن ذاته بالبلبل الذي ألفَ الأسى في إشارة إلى النموذج الأصلي prototype لبيت من الشعر للشاعر الكبير الأخطل الصغير( يا دهرُ قد ألفَ الخميلة بلبلٌ .. يشدوا فتصطفقُ الغصونَ وتطربُ ) ولكن بسخرية الأصدقاء اللاذعة :
يا دَهرُ قدْ أِلفَ النوائب شاعرٌ تَشدوا القوافي حُزنهُ وتَطرِبُ

تبين ذلك الإحساس في شكل ومضمون القصيدة التي يخاطب بها الشاعر حسين عبد اللطيف قارئه. أما في بنية القصيدة , فكانت بنية شعرية متجددة إن لم تكن انقلابية حداثوية وبمزاج mood شاعر غاضب في اغلب الأحيان من دون خوف أو خجل , مما يتعين على القارئ معرفة نوع الصراع الذي يمور في داخله والنظر إلى كلماته من زوايا عديدة . فالقصيدة لديه تتكلم بفكرتين : الأولى صاخبة أما الأخرى فصامتة وبجلابيب من الرمزية:

راقبت على الطرقات المارة
يغدون , يروحون
لم يعبأ بي أحد منهم
يغدون , يروحون
لم يعبأ بي أحد منهم
يغدون , يروحون
لم يعبأ بي أحد منهم
أرأيتْ ؟
سأنام الليلة , إذ أني متعبْ
وغدا ( مع لعبة صبرٍ ) أخرى. ( قصيد على الطرقات أرقب المارة ص 52 )

في نواح أخرى سيجد القارئ أن شعره لا يتجمد ببنية واحدة , بل بالعديد وبحسب نوع ذلك الصراع :

الآن، اشعر ان الحظ قد واتى
فآخذ بتقبيل مصباحي السحري هذا
مراراً وأروح أفركه وأدعكه
ولكن بلا باب ينفرج
ولا من يصيح: لبيك.
ولليوم، لم يصبني غنىً
أو يثقل جيبي فلس! (قصيدة عرق السواحل )

في هذه النتفة من قصيدة ” عرق السواحل ” المستمدة من الحكايات الفولكلورية (= الشعبية ) لبيئته البصرية , ينتقل الحس النفسي من البهجة ليدلف إلى الخيبة من دون أن تهتز النتفة الشعرية في وحدتها الموضوعية أو في عناية الشاعر بدقة التفصيل الذي بدأه من مطلع القصيدة حتى نهايتها .

هكذا هي قصائد المجموعات الشعرية للراحل حسين عبد اللطيف. فهي متنوعة بين السياسية والرومانسية والحوارية السردية ذات السير الذاتية, ومثيرة في النفوس, معبرة عن الأسى المكنون وقسوة الحياة في نفسه:

غراب يحط فوق كتفي ناعقا:
هيهات من بعد الآن
الرحلة انتهت
والأيام
طوت سجلها..
وأسدل الستار
وانتهى الكلام. ( قصيدة : ليس أن يحملك فجأة هذا القارب)

وهي من ناحية أخرى تنطوي على التلميحات والتراكيب اللفظية في جميع مجموعاته الشعرية ما أعطت لنفسه رمزا للأسى eponymous فوصل في بعض قصائده إلى درجة الراثي لنفسه eulogist:
لي من أساي أنا
في منزلي , عندليب
يُسمعني
عند الصباح: النحيبْ
وفي المساء: النحيبْ
…………………

وفي الشكل والمضمون فان ملامح النص لديه تتحدد حسب درجة الصلة بينه وبين القارئ من جهة وحسب صلتة بالمفاهيم الأدبية التي يتبناها. وبغض النظر عن إثبات ذلك على ارض الواقع , يمكن للقارئ أن يلجا إلى شكل النص وعملية التوظيف التي يتبناها الكاتب لأسكتناه المعنى :
ما أسهل السهول
وأعقد الجبال
وأصعب العزلة
دون باب
قوارب المساء
تجيء بالذهب
وترفع الديوك
أعرافها .. قبعةً
لطلعة الصباح
وهذه المرآة
لاترى
– في عقدة العنق –
سوى
تفاحة مهشمة
وجثة
مكومة ( نار القطرب – موت ص 25 )