7 أبريل، 2024 2:47 ص
Search
Close this search box.

حسين عبد اللطيف .. أيهّا البحر يا راعيا يا صديقي !

Facebook
Twitter
LinkedIn

    ” نحو أي الطرق
                                   سوف تمضي بنا السنوات
                                  وتقود خطانا ..
                                 نحن قد نلتقي او يضيع كلانا ؟ ”
                                              دوارة الرياح
                                      ـ1ـ
كان يوما تموزيا قائظا كعادته وثماني دقائق قد تقضين من بعد منتصف النهار حين رن هاتف مصمم جريدة الاخبار صالح جادري معا ليخبرني ان حسين عبد اللطيف معه على الخط ثم سمعته وهو يحادثه بشأن سعدي يوسف .
اقفل الخط .
الثانية عشرة وعشر دقائق من بعد منتصف النهار ..
خطر لي بغتة ان اتصل به لأخبره عن قصص قصيرة سبع كنت انجزتها ورغبت في نشرها في  جريدة (ذاكرة البصرة ) الذي كان الراحل احد المشرفين على تحريرها  مخبرا إياه بأنني قد تركت القرص الذي يضم المادة  لدى احد الزملاء من اجل إيصالها الى ناصر موزع الجرائد أوالى مكتبة ( القبة ) معتذرا له عن تقصيري بتأخر زيارتي له فرد معاتبا وهو يقول :
ــ  تعال ..الأهل يسألون عنك ..
الرابعة وأربعون عصرا .
 كنت امسح على عجل ما يرد على شريط احدى الفضائيات  من اخبار حين صعقت بخبر رحيل حسين وملء القلب سؤال :كيف يخاطبني بكل ما في نبرة صوته من حيوية اعتدتها لديه في عز الظهيرة ثم يعانق الابدية  في غضون ساعتين او اقل؟.. هكذا؟ بهذا النحو وبهذه السرعة ؟!
هكذا اذن .. كان الاتصال وداعا .. !
                                   ـ2ـ
 هي سبعة وأربعون عاما من صداقة خالصة الود متقطعة اللقاءات سوى الاعوام التسعة الاول التي سبقت رحيلي للكويت فقد تميزت صحبتنا او كادت بالتلازم.
 بداية تعارفنا كانت كالآتي : ذات يوم اخبرني زميل من زملاء الابتدائية والكلية فيما بعد اسمه كاظم زاير راضي ان صديقا له يسأل عني بالحاح ،طالبا مني في الوقت نفسه ان احضر له أعدادا من ملحق الجمهورية الاسبوعي . كان ذلك في عام 1967، وكنت حينها اسبق حسين حضورا في المشهدين البصري والبغدادي اثر فوز قصتي باحدى جوائز الملحق سنة 1966اضافة للكم الكبير من التراجم الشعرية التي نشرت على صفحات الملحق . غير اني ومن خلال لقاءاتي الاولى بالصديق الراحل حسين اكتشفت انني امام نموذج مختلف تماما عن كل من عرفت من الأصدقاء . كان صديقا ودليلا وراعيا في آن معا . و كان اكثر جدية وصرامة بكل ما يتمخض من جهته ذائقة وإبداعا ومواقف . اثر تعارفنا تكررت لقاءاتنا ما بين مكتبة فيصل حمود (جامع البصرة الكبير حاليا ) ومقهى الميثاق ( الركن الشرقي المجاور لمبنى بلدية البصرة القديم ) بموقعها الاستراتيجي الذي يمكن ان يكون لعب دورا في نحت عنوان ديوانه الاول (على الطرقات ارقب المارة ) . وعلى تخوت تلك المقهى المرتفعة توطدت صلتي بحسين وبآخرين : محمد صالح عبد الرضا ، صباح الربيعي ، عبد الرزاق حسين ، الراحل محمد طالب (عبر لقاء عابر) ، مهدي جبر ، حسين عبد الزهرة مجيد ، عبد الحسين الغراوي ، مزيد جاسم ، مصطفى السواد وآخرين .وللحقيقة والتاريخ كان أكثر الأصدقاء ملازمة لنا القاص عبد الحسين الغراوي لا في المقهى وحسب بل في بيت الشناشيل حيث كان يسكن في غرفة كبيرة منزوية في آخر الجناح الشرقي للطابق.وكنا احيانا نتناول طعام الغداء او وجبات سريعة من إعدادنا في بيته ،  قبل ان نتوجه الى مقهانا . وما زلت اذكر وليمتنا للصديقين القاص ابراهيم اصلان والشاعر محمد عفيفي مطر . كانت وليمة سمك ، صحيح .. لكنها كانت امتحانا للصديقين في كيفية انتزاع اشواك الصبور وكانت المحصلة انهما التهما اقل ما يمكن من ( بلوح ) الصبور وقاما بنفض ايديهما  على عجل وشعور بالاحراج !
  لابد من ذكر حقيقة قد تكون ذات أهمية كبرى وسمت شخص الراحل حسين وبالتالي وسمت علاقتنا نحن الاثنين : أحسست شخصيا ومنذ اللقاءات المبكرة ان في داخل الراحل روحا مغرقة لحد النخاع بمرارة كانت محصلة لتجارب اسرية يقف شظف العيش والحرمان على رأس القائمة منهما .
ومع تطور صداقتنا أمسيت واحدا من أفراد اسرته المؤلفة من والدته الحنون وشقيقته واهل ابنة عمته ( بيت ام جعفر ) وواحدا من افراد اسرته بعد الزواج ،وكم فجعت برحيل ولده البكر حازم ايما فجيعة ،كما ان الراحل كان و زوجته أم حازم من اوائل الذين زاروني في قسم انعاش مستشفى ( الفيحاء ) في اكتوبر من العام الماضي فور سماعهما بوعكتي القلبية الثقيلة .
ولأطباق والدته على بساطتها طعم فريد من نوعه مازال مذاقه خالدا على طرف اللسان رغم تقادم الزمن !
                                      ـ 3ـ
 ثمة نقطة في غاية الأهمية تتعلق بالتكوين السايكولوجي للصديق الراحل . كان في تلك الفترة حاد الطبع صعب المراس :” حسين عصبي مثل ابيه ” هذا ما كانت تردده والدته . ومحور ما اردت قوله ليس متعلقا بمزاجية الراحل بقدر ميله الطاغي للعزلة والزهد والترفع ، فقد كان يتجنب المهرجانات الرسمية ، ومن هنا اقتصرت جل لقاءاته اواخر الستينات واوائل السبعينات على اسماء ادبية كانت وقتذاك اقرب لروحيته المتمردة حياتيا وشعريا مثل امير الحلي ، فالح المنصوري ، فاضل العزاوي ، جمعة اللامي ، حسين حسن ، البريكان وآخرين . كان اذن وقتذاك شديد الميل الى العزلة والاعراض والمشاكسة والرفض الحاد للمواضعات اليومية وهي الممارسات التي أبعدته وأبعدتني بالتالي عن اللجان الرسمية المنظمة لمهرجانات المربد ودور الثقافة الجماهيرية . وفي الواقع ان مواقفه تلك لم تكن سياسية في المقام الأول انما كانت ثقافية محضة تمثلت في تأييده اللامحدود للبيان الشعري الذي صدر عام 69 وهي الخطوة التي قربته من اصوات شعرية كالعزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي تمخضت عنها فيما بعد صدور ديوانه الأول ( على الطرقات ارقب المارة ) الذي حمل سمات تمرده على كل ما هو مبتذل ومألوف شعريا  وقدم في الوقت نفسه لغة متفردة ستصبح فيما بعد بصمة من بصماته الخاصة .
 ومع رسوخ قدمي الراحل شرع بممارسة دوره النقدي التوثيقي ليجري عددا من اللقاءات مع كل من القاص محمد خضير والراحل البريكان ومحمود عبد الوهاب اضافة الى كتابته التوثيقية المدهشة عن الحركة الادبية في البصرة والتي نشرها في مجلة ( المثقف العربي ) وتركت تأثيرها الايجابي البالغ الاهمية في رسم ملامح اكثر اجتلاء لخارطة المشهد البصري الثقافي شعرا وسردا .
  وعلى الرغم من مغادرتي البصرة الى الكويت ولاربع عشرة سنة بقيت اتابع اخبار الصديق الراحل. انما لم نلتق قبل عام 1983 في وقت كانت نيران الحرب العراقية الايرانية تلتهم الأخضر واليابس . وحين صدرت مجموعتي القصصية الاولى ( العين والشباك) في الكويت ارسلت نسخا منها اليه فسر بها سرورا عظيما غير انه اعترض على غلاف المجموعة الذي فرض على فرضا وبالفعل ارسل لي غلافا بديلا من تصميم الصديق الفنان التشكيلي خالد خضير هرعت به للمطبعة التي طلبت مبلغا تعويضيا لاستبدال الغلاف فاعطيتها ما تريد . ولكن ولسوء الحظ ان عددا كبيرا من النسخ المعدلة بقيت في ثلاثة صناديق مركونة في شرفة شقتي بالكويت في الوقت الذي وجدتني في مدينتي البصرة وقد تقطعت بي سبل العودة لمقر إقامتي . وفي عام 86 وضمن اصداء صدور مجموعتي الاولى وصلني عن طريق الراحل حسين دفترا ما زلت احتفظ به ضم بين دفتيه ما كتب ونشر من قراءات حول المجموعة كان من أبرزها قراءة الناقد جميل الشبيبي والمخرج فايز الكنعاني . كما ان الدفتر تضمن عددا من  النصوص القصصية واللقاءات الادبية القصيرة لكل من سلمان كاصد ، لؤي حمزة عباس ، سامي الكنعاني ، فاروق السامر واسماء اخرى قمت بنشر حواراتها تباعا على الصفحة الثقافية لجريدة ( الرأي العام ) الكويتية .
 الملاحظة التي جذبت انتباهي ـ اثر عودتي الطوعية  ـ وربما حتى قبل ذلك ان ايقاع الراحل السايكولوجي قد تبدل 360درجة ليتساوق مع سجيته الأولى : العيش مع الآخر ومن اجل الآخر ، والدليل على ذلك علاقاته وصداقاته المتسعة الحلقات والعابرة للبصرة الى بغداد والوطن العربي والى العواصم الاوربية  توجتها صداقته العميقة العابرة مع الراحل المبدع الفنان والشاعر احمد الجاسم الذي التقاه، كما هو معروف ، اثناء رحلته الى باريس، ذلك اللقاء تمخض عنه صدور مرثيته الشعرية الجارحة المؤسية ( أمير من اور ) .
وما يؤلمني ان مؤسساتنا الثقافية اما انها لا تلتفت الى المبدع في حياته كما ينبغي وأدلتي على ذلك انه لم يمتلك دارا في حياته ، بل انه اضطر الى مغادرة مرابع الشباب في البصرة القديمة الى دار مستأجرة بحي الأصدقاء البعيد نسبيا بحيث انه كان يجد مشقة في الوصول الى العشار حيث الأصدقاء والى المراكز الثقافية بوسط المدينة . وكانت ابيات ريلكه التي تصدرت مجموعته الشعرية (نار القطرب) والتي تقول: ” من لايملك الآن بيتا ، لن يبني لنفسه بيتا “
بمثابة صرخة استغاثة فيها قدر كبير من الترفع والتعفف والإباء كان ينبغي لذوي الشأن استيعابها وتحويلها الى حقيقة .
العتب الثاني : كان يجب على المؤسسات المعنية ان تطلق اسمه على احد المهرجانات الشعرية الكبيرة اكراما  لشخصه واحتفاء بدوره الابداعي الكبير .
المطلب الثالث متعلق بالترجمة الانكليزية لديوانه الموسوم (لم يعد يجدي النظر
Viewing Is No More Useful  ) والذي أنجزته شخصيا وقدمه الراحل لوزارة الثقافة والذي قوبل بالاهمال آملا ان يعيد القائمون في دار المأمون النظر في امر الطلب المقدم بطبعه على نفقة الدار ، متمنيا ان يكون الراحل قد استبقى لدى الأهل نسخة احتياط من الترجمة من اجل التوجه اذا لزم الامر الى جهة طباعية اخرى .
 عزيزي حسين
 هاهو السكري قد انشب أظفاره في جسدي واني واثق انني اسير على خطاك ولسان حالي يردد :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
                                  وأيقن انا لاحقان بقيصـرا
فقـلـــت لـه لا تــبـك عـينــك انــما
                                نحاول ملـكا او نمـوت فنعذرا
                                  4
حسين عبد اللطيف .. يطول الحديث ولا ينتهي ..
ولأحاديث صحبتنا عود والعود احمد ..
ايها البحر يا راعيا يا صديقي
لترقد روحك  في سلام !
———————————–
• قاص ، مترجم وصحفي

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب