العلاقة ما بين منهج التحليل النفسي و منطقة معايير و مفاهيم النقد الأدبي مسألة في غاية الاشكالية و التعقيد و ضياع مقصدية حقوق ميزان النقد الجاد ، و هذا الامر بدوره لا يزال يشكل وقوفا في وجه العلاقة النقدية إزاء حيثيات و أحكام النص المدروس . و تقودنا هذه العلاقة عادة إلى حمولات ذلك الموطن النوعي الذي نسميه ( النص ) حيث نراه من وراء كل هذا يشكل عملا لا نكاد ان نرى من خلفه ثمة استثمار لثمرات العلاقة الحقيقية ما بين منهج التحليل و ادوات العملية النقدية ، و القارىء لدراسات البحوث النفسانية الحديثة للنص الأدبي ، لربما يشعر على الفور بعدم جدوى تلك الدراسات و المقالات ، التي أختلطت مع ذاتها بطريقة ، تبعث على الاحساس القرائي الفوري ، بأن ما وراء هذه الخطاطات ما هو ألا التهجين المعرفي و الاختلاط التعرفي في هوية النقد الأدبي . كلنا يعرف الدكتور الناقد ( حسين سرمك حسن ) و كلنا قد قرأ له أكثر من كتاب في منهج التحليل النفسي المختص في معاينة النص الابداعي ، ان لم يتابع نشاطاته الصحفية الدؤوبة في مجال قراءات الاصدارات المعرفية و النصوص الأدبية في الصحافة . فأنا شخصيا من المعجبين بحضور هذا الكاتب الدؤوب و إلى حد لا ينضب من الانتاج
والانتشار . و لكن هل معنى هذا بأن معيارية انتاجات هذا الناقد ، هي مخصوصة وفق اشكال و مواطن مفهومية ايجابية دائما في معاينة النص . من خلال قراءة تجربة كتاب
( مملكة الحياة السوداء ) للمؤلف ذاته ، التي أختصت بمتابعة و قراءة نصوص مجموعة ( المملكة السوداء ) للقاص الكبير محمد خضير ، حيث لاحظنا كم ابذل الدكتور سرمك ، جهدا رفيعا ، في مجال المنهج لمعاينة تلك النصوص ، و هذا الامر ما جعلنا نتخذ من مجالية تلك الاجرائية التحليلية ، مدى واسعا و عميقا في فهم ما تضمره بعض نصوص محمد خضير في قصص ( المملكة السوداء ) من اشتغالات نفسانية في غاية الصحو و العلاقة الانفتاحية على جدلية المعنى السردي المتقدم . و تبعا لهذا سوف اتعامل مع قراءات الدكتور سرمك ، على اساس من انها معاينات نفسانية بحتة ، و ليس على اساس دلالات الانفتاح النقدي و المعاينة المفهومية في تلك النصوص . فمثلا عندما نقرأ محور فصل قصة ( المئذنة) نشعر بأن الدكتور سرمك ، راح يتعامل مع احداث و كيفيات الموضوعة الحكائية ، بمقصدية تتابع حالة وصفية و ليس بمقصدية تركيبية و مفهومية ، من شأنها ايضاح ما هو متراكب في حالات الشخوص النفسانية . و على هذا الحد وجدنا خلاصات الناقد التحليلية تحاول الوصول إلى ثيمات الاطار التحليلي ، بموجب حالات مروية ، و ليس بموجب حالات فنية ترميزية في تراكيب النص بشكل دقيق :
( تتحدث قصة المئذنة عن بغي سابقة تركت ماضيها الملوث و تزوجت بعد ان أودعت طفلتها الوحيدة التي تقول عنها : ليست ابنتي تماما : في المبغى السابق الذي كانت تعمل فيه لتعتني بها مسؤولة المبغى : القوادة : و يقص علينا القاص أحداث امسية يوم من أيام هذه المومس تقرر فيها الذهاب إلى
بيت الخطيئة السابق .. ص12 ) . ان سرمك كما هو واضح يحاول جاهدا اظهار عمليات البناء النفساني في الشخوص ، على اساس مطالعات شروطية من حيوات الشخوص و سلوكياتهم النسبية من مساحة التمهيدات النصية المتوفرة داخل فضاء الحبكة القرائية القصصية . كذلك الحال عليه في فصل دراسة قصة ( أمنية القرد ) : ( من استهلال قصة أمنية القرد نفهم ان بطلتي القصة الرئيستين هما فتاتان تتشاركان في صفة كونهما عاملتين بسيطتين في احد معامل الخياطة الحكومية كما انهما غير متزوجتين و تعيشان وحيدتين في غرفة مستأجرة تربض عند رأس سلم حجري جعلهما القاص تقفان عنده / عند رأس السلم الذي سيلعب كما هو الحال في أغلب قصص القاص دورا رمزيا مركزيا في تشكيل تأثيرات المكان النفسية .. ص35) لعلنا سوف نكتفي بهذا القدر من استعراض فقرات شروحات سرمك لنصوص ( المملكة السوداء ) لنقول بعد زمن قراءتنا لدراسات الكتاب ، لاحظنا بأن الخطوات المبحثية لنصوص القاص محمد خضير ، كانت تأخذ منحى منهجي معزول عن منهجية التحليل النفسي للنص ، و إلى حد باتت المسالك تسلك دفة الملفوظات الوصفية في فلك نظريات التفسير الأدبي و ليس التعليل التحليلي ، بدليل ان الفارىء لفصل مبحث قصة ( شجرة الاسماء ) يشاهد بأن هناك حلقات دراسية تابعة لأفق المنهج الوصفي التفسيري ، و ليس إلى أفق أختيارات المنهج التحليلي ، فضلا عن هذا فأن القارىء لمبحث قصة ( الشفيع ) لربما يتفق معنا على ان هناك مغايرات في ادوات مباحث الكتاب ، و مغايرات أيضا في طرائق التواصل في انشاء استراتيجية منهجية موحدة و ثابتة من زمن مسار خصوصيات منهج دراسات الكتاب .
( قصدية القراءة و اختلاف المقاربة )
أول ما يفاجىء القارىء في فصول دراسات كتاب ( مملكة الحياة السوداء ) هو مدى الاختلاف ما بين ( قصدية القراءة ) و بين مصدرية ( اختلاف المقاربة ) أي بمعنى ما ان قصدية القراءة هي ( التحليل النفسي ) في حين عند الشروع في مسار المباحث القرائية ، نكتشف بأن مقاربات المنهج القرائي ، تتوزع في شتى اتجاهات ثقافية منهجية مختلفة ، و القارىء لفصل مبحث قصة ( نافذة على الساحة ) سوف يلاحظ ميول الدكتور سرمك ، إلى روي حكاية ملغزة و محيرة ، قد لا تملك الشخصية ذاتها في القصة ، كل اطرافها و اسرارها و تقلباتها النفسانية ، و على هذا يبقى مبحث سرمك ، في نوع ما من الغموض و الالتباس و التردد ، في سرد و حسم موضوعة هذه القصة التي راحت تحمل مختلف المجالات المنهجية و الدراسية المختلفة . و الامر ذاته يتكرر في مبحث قصة ( الاسماك ) و هذا المبحث بدوره لربما هو أكثر فصول مباحث كتاب سرمك ، ايغالا في حدود مقاصد قرائية متعددة و مختلفة الألوان الاحتمالية و الفرضية ، حيث راح من خلالها الدكتور سرمك ، يغوص في مستويات شروحية قد تبدو أحيانا بلا مبرر أو وجه اقناع حتى .
( حسين سرمك و أحكام العملية النقدية )
حسين سرمك مع نصوصه المقالية في الصحافة ، و مع جملة مؤلفاته المطبوعة ، يعيش حالة تفاعلية عظيمة ، يسودها الانتشار و التواصل اللذيذ مع الأدباء و رضا الأدباء و القراء
عنه بشكل دائم ، و هذه شاهدة كلنا نحمل لوائها لأسم و عنوان الدكتور حسين سرمك حسن . و لكن من جهات أخرى ، لو دققنا في أعمال هذا الناقد بشكل عام و مفهومي و معياري ، هل يا ترى سوف نجد فيها مسارات و فضاءات النقدية الحقيقية المرادة من وراء قراءة نصوص الآخرين ؟ و هل هذا هو الصحيح دائما في اجرائيات سرمك النقدية ؟ . لعلي في هذه الفقرة الأخيرة من مقالنا ، سوف أحاول بها مناشدة ناقدنا الدؤوب قائلا : هل ان المعايير و الاحكام النقدية لديك بحق النصوص هي متوفرة دائما على مساحة متساوية من التقويم أم ماذا تراها مع نفسك ؟ أننا شخصيا عندما نقرأ مقالاتك بحق النصوص لربما نجدها أحيانا ترزح داخل كفة واحدة من المدح و الثناء و مجارات عيوب النصوص بما يتلاءم و مواطن الايجاب في النصوص المتكاملة ؟ كما أننا أيضا نلاحظ بأن أغلب كتاباتك النقدية تجيد وصف محاسن أصحاب النصوص قبل ذكر محاسن النصوص ذاتها فما وجه و دليل هذه المقاربات لديك و ما هي منهجيتها بالضبط ؟ أم ان هذه من جهة هي خلاصات مناهج التحليل النفسي الفرويدية و كيف تعلمنا ان ننظر لكل النصوص و حتى الهشيم منها على اساس من انها ابداع و اصحابها ما هم ألا عباقرة و هم في الواقع سوى انصاف أدباء و انصاف نصوص ؟ . أتمنى من العزيز الدكتور سرمك ان يسامحني على هذا المقال و على هذه الاسئلة ، و يسامحني أيضا على أنني أوصل اليه أصوات الكثيرين من الأدباء و النقاد الذين قتلهم حيائهم و حبهم لهذا الناقد الطيب و المتسامح ، الذي طالما يحاول في كتاباته النقدية ان يكون شمعة منارة في دروب الادب و التحليل الأدبي . و إلى جانب كل هذا أجدني في هذا القول : سيدي العزيز حسين سرمك حسن ، أنا لست
ناقدا مثلك أو مثل منزلة أي ناقد عراقي آخر ، و ذلك لأني أشعر في بداية الطريق و المشوار الأدبي ، و لكن أنا في الواقع أعد نفسي قارىء نهم و متابع لكل مقالاتك الصحفية و مؤلفاتك التحليلية ، التي وجدت فيها مع الأسف حس التعاطف و المجاملة الشديدة ، التي تصل أحيانا إلى حد المبالغة و ضياع المقادير ، و ذلك في قولك على كل كاتب قصيدة منشورة في صحيفة ما ، بأنه مبدعا كبيرا أو لمجرد القول عن صاحب ديوان شعري جديد ، بأنه متفرد و غاية في الابداع و المغايرة : فإذن ما يصح القول أو ما يحق لنا القول بحق فؤاد التكرلي و عبد الخالق الركابي و محمد خضير و محمود البريكان و موسى كريدي أو لطفية الدليمي أو مؤيد عبد القادر و سامي مهدي ، لعلنا من الواجب ان نضع لهؤلاء إزاء من تسميهم ( مبدعين ؟ ) لمجرد نشر قصيدة أو ديوان شعري ، منزلة الرب العظيم و الملائكة و الالهة الاغريقية ، حيث بهذا نحن من قبلهم مطالبين بحقوق الصوم و الصلاة و الحج و دفع الفدية و تقديم القرابين .
( خلاصات )
و بعد هذه الرحلة القصيرة في عوالم إضاءة مباحث كتاب
( مملكة الحياة السوداء ) . أرجو من كل قلبي مخلصا أن لا يعد هذا المقال السريع بكل ما يحمل ، من أوجه نظر ، علامة استفهام بحق عوالم الناقد حسين سرمك الثقافية ، و ذلك لأن هذا الكاتب النقدي يعد مفصلا حيويا في خارطة الثقافة النقدية العراقية ، حيث من الصعب علينا تجاوزه ، أو القول عن أعماله التحليلية بأنها خالية الوفاض . و لكن تبقى مشكلة كتابات هذا الناقد ، أنها لم تولي الابداع النصوصي مساحة
خاصة من التقويم و التخصيص المعياري ، و كشف مواطن الصواب و الهفوات في الاثر الابداعي المدروس ، بقدر ما أنها راحت في كل ما قد قرأناه تمارس احتفالا مجيدا بشخوص أصحاب النصوص .