دخل محمود جنداري مقر ونادي اتحاد الأدباء في نينوى متأبطا فتى قرويا ،وقدمه لنا نحن أصدقاء جنداري المنتظرين طلته بشغف لا يشبهه شيء،قال جنداري أقدم لكم القاص حسن مطلك،وجلس حسن خجولا ،كأنه قادم من سماوات أخرى، لم ننتبه كثيرا لصمته وانتباهته لنا ،لان جنداري كان قد استحوذ على مشاعرنا وشوقنا له لأنه جاء الى الموصل بعد غيبة طويلة من كركوك مقر عمله ،بزيارة خاطفة كما هو معتاد ،وساد المكان فوضى النقاش الأدبي والثقافي،بعد أن تحلق أدباء نينوى حول جنداري الى ساعة متأخرة من ليلة الخميس ،افترقنا بعدها ولم نر حسن مطلك ،ولم نعلم عنه شيئا حتى ظهور روايته المهمة (دابادا)،التي أحدثت بلبلة ثقافية ،وهزة روائية ،لم تحدثها أية رواية عراقية من قبل ،كيف الحصول على دابادا والكلام عنها يملأ المجلات والصحف ،وبشيء من الخوف والترقب لأنها رواية تتحدث عن الطفولة المعذبة لقروي بسيط وإرهاصاته وأمنياته أثناء الحرب وفشله في الحب وإدانة الواقع ومجابهته للانتصار عليه،وهكذا رحت ابحث عنها بصمت وشغف شديدين، حتى أعارني إياها صديقي الشاعر محمد مردان ،لذلك رحت اقرأ دابادا بيومين فقط وعرفت معنى كلمة دابادا ولثغة الأطفال ،وتعرفت على أبطال الرواية المحرومين والمقهورين اجتماعيا،لا أريد أن انصب نفسي ناقدا للرواية،ولكني أقول إنني وجدت رواية لم افهما أول مرة وربما يعود السبب الرئيسي إنها لا تشبه الروايات التقليدية والكلاسيكية(اكتشفتها متأخرة)،وعرفت فيما بعد أنني أمام روائي (كدت اركن روايته جانبا )إلا إن إصراري على القراءة لسبب أن حسن مطلك قروي مثلي (إحساس ساذج طبعا)،أكملت الرواية وعدت إليها ثانية وثالثة وما زلت أعود إليها بين الفينة والأخرى،وعندما عاد محمود جنداري الى الموصل،كلفني أن اسأل في دائرة الشؤون الثقافية عن روايته (عصر المدن) عند ذهابي الى بغداد وهكذا دخلت الى الآنسة نجله مسئولة استلام ومتابعة المجاميع القصصية والشعرية في الدائرة واستفسرت عن مجموعة جنداري عصر المدن إلا أنها أخبرتني بان الخبير أعادها إليها لتغيير اسم المجموعة وبعض التفاصيل والكلمات التي تخص الجنس وهكذا عدت الى جنداري وأخبرته بالتغييرات وهنا ضحك أبو فوزي ضحكته المجلجلة وقال (أغبياء ما يصير الهم جارة)،وسألته أبو فوزي وقلت له أنا اطلعت على المجموعة لدى نجله وقرأت شعرا لا قصة ،وقلت له إنها تشبه رواية دابادا لحسن مطلك اقصد من حيث البناء الفني المشبع بالشعر والسرد التاريخي والاجتماعي بطريقة غير مسبوقة في القصة والرواية، فهل نسمي هذا شعرا أم قصة أم رواية،فاخذ يشرح لي أن السرد الحديث لابد أن يكون مغايرا لكي يعبر نفق الرواية الكلاسيكية ويتغلب علية ،وهو نمط غير مألوف في السرد العربي سابقا،وجرنا الحديث الى حسن مطلك حتما وكان وقتها قد خرج محمود جنداري من الموت توا ،بتهمة قلب نظام الحكم مع حسن مطلك الذي مضى على إعدامه فترة طويلة نسبيا،فسألته في جلسة حميمية في بيت الفنان جاسم حيدر ذات نهار لاهب ،عن ما جرى له في تلك القضية،فقال،كنت وصديق لي جالسين في نادي بكركوك ودخل علينا حسن مطلك وكان من اعز أصدقائي على الإطلاق، وبعد أن أخذنا الليل من ياقتنا واختلط الكلام بالكلام أضعنا بوصلة العقل، قال لي حسن مطلك وحسبته يمزح كعادته فقال،أبو فوزي( أنت راح أسويك وزير الثقافة والإعلام إذا نجحت الثورة) ،فقلت له بمزاح (ها حسن سكرت لا تأكل……اسكت احسنلك)،وانتهى الكلام عند هذا الحد وبعد فشل العملية تم إلقاء القبض علي وحكم علي بالسجن لأنني لم اخبر الجهات بكلام حسم ذاك الذي جرى في النادي)،ولكنه وهو يسرد هذا الكلام عن حسن وأحسه يتقطع ألما وكانت الكلمات تخرج متلعثمة من شفاهه،ويقول حسن كان مشروع قاص خطير على القصة ويمتلك موهبة وثقافة لا حدود لها بين القصاصين العراقيين الشباب،في الحقيقة هذا جانب مضيء من سيرة الراحل المبدع حسن مطلك للأسف الشديد لم أنل فرصة التعرف الكامل معه كما هي علاقتي الحميمة جدا بالراحل الكبير محمود جنداري والراحل المبدع حارس القصة القصيرة العراقية حمد صالح،ولكن عزاءنا الوحيد أن حسن مطلك قد ترك بصمته الأدبية والإبداعية في جسد الثقافة العراقية والعربية ،بوصفه الراعي الأول للسرد العربي الحديث رغم قصر فترة حياته الإبداعية ،وسيظل لفترة طولية محل جدال ونقاش ملتبس كما هي حياته الاستثنائية الملتبسة ،حديث الشارع الثقافي والنقدي ،وما تركه من ارث إبداعي مميز سجل له علامة فارقة في السرد والأدب،تحية له في رحيله المبكر ،وباقة ورد عطرة على شاهدة قبره المضاءة بالقناديل والمحبة…….