9 أبريل، 2024 7:47 م
Search
Close this search box.

حسن فتحي.. إنسان بنى للإنسانية

Facebook
Twitter
LinkedIn

هناك من يصل بإبداعه إلى مرتبةٍ تتضائل الكلمات أمامها فيتحول اسمه إلى قيمةٍ وأحياناً إلى نوعٍ من الإطراء لمن يمشي على خطاه،
ولا تقاس قيمة المرء بتداول اسمه أو عدد تسجيلات الإعجاب، بل تقدر بقيمة ما قدمه خلال مشواره وتقاس بتأثيره وبالفراغ الذي يتركه غيابه أو رحيله، وبالبصمة التي ميزته عن غيره متحدثةً عن نفسها بمنتهى الشفافية والصدق خاصةً عندما تكون هذه البصمة مشابهةً لبيئتها ووفيةً للأرض التي عاشت فيها وامتزجت بتركيبتها لتصنع شخصية ً فريدة كالمهندس المعماري المصري حسن فتحي..

فهو مبدع في الهندسة وهاوٍ للموسيقى كما أنه كاتبٌ مسرحي ومخترع أسلوبه أقرب إلى التصوف، ومطلعٌ على العديد من الثقافات فتنوعت تصاميمه المعمارية لكنها اتسمت بالرقي والأصالة كمحصلةٍ لتجربةٍ بدأت في طفولته المبكرة في مدينة الإسكندرية التي ولد فيها لأسرةٍ ميسورة في ال ٢٣ من آذار/مارس عام ١٩٠٠ وعاش فيها حتى الثامنة من عمره ثم انتقل إلى منطقة حلوان جنوب القاهرة، لينتقل بعد عدة تنقلات وأسفار إلى منزله في درب اللبانة في حي القلعة بمدينة القاهرة عام ١٩٦٣ حتى وفاته، كان شخصاً مرهف الحس كثير التأمل فتأثر بالريف وبحالة الفلاحين وهو في سن الثامنة عشرة وأراد أن يكون مهندساً زراعياً لكنه لم يجتز امتحان القبول، ودفعه ذلك إلى الحصول على دبلوم العمارة مما أصبح يعرف الآن بكلية الهندسة في جامعة القاهرة التي كانت تسمى جامعة الملك فؤاد الأول آنذاك..

وكان أول أعماله هو تصميمه لمدرسة طلخا الإبتدائية في ريف مصر عام ١٩٢٨ مما قربه من البيئة الريفية وعمارتها التي أسماها (عمارة الفقراء) وهو الإسم الذي سيرافقه طيلة حياته وحتى بعد رحيله.. وكانت مهمة تكليفه بتصميم دار للمسنين في محافظة المنيا جنوب مصر بمثابة خطوة نحو التغيير الذي طال مساره المهني عندما رفض أمر رئيسه المباشر بالتدخل في تصميمه للدار واستقال من عمله في ذلك الوقت، لينضم بعدها إلى هيئة تدريس كلية الفنون الجميلة والتي كان هو أول عضو ٍ مصري فيها عام ١٩٣٠ فاستمر مشواره كمدرسٍ فيها وترأسها عام ١٩٥٤ حتى عام ١٩٥٧..

لكن تم قبل ذلك تكليفه بتصميم قرية القرنة عام ١٩٤٦ في الأقصر والتي ستتحول إلى علامة فارقة في مسيرته كمعماري، فقد حققت هذه القرية شهرةً عالمية بسبب كتابه (عمارة الفقراء) الذي حكى قصة بناء مساكن بديلة لحوالي ٣٢٠٠ أسرة فيها بالقرب من السكك الحديدية والأراضي الزراعية بعد تهجير أبنائها من مناطق المقابر الفرعونية في البر الغربي، وذلك لحمايتها من النهب والسرقات بعد اكتشاف سرقة نقش صخري كامل من أحد القبور الملكية.. وقد بدأ بناؤها على مراحل أنشأ في بدايتها ٧٠ منزلاً مصنعاً من الخامات المحلية بحيث يميز كل منزل عن الآخر كي لا تختلط البيوت على ساكينها، وقد بدا تأثره بالعمارة الإسلامية جلياً من خلال تصاميمه واستخدامه للقباب، كما أنه خصص باباً ومنطقةً للماشية بشكل ٍ منفصل عن البيت الرئيسي لإعتياد الكثيرين تربيتها، كما كانت تصاميمه المعمارية مستمدة من العمارة الريفية النوبية (نسبةً إلى النوبة جنوب مصر) والبيوت والقصور في القاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعثماني وحافظ أيضاً على الروح الفرعونية فيها، إضافةً إلى بناء ٣ مدارس ومسجد وحمام سباحة ومسرح وقصر للثقافة حمل اسمه، وتمت الإشادة بهذا المشروع في المجلة المهنية البريطانية وتمت كتابة العديد من المقالات حول هذا المشروع بالعديد من اللغات..

وترك في عام ١٩٥٩ مصر لمدة عامين متجهاً إلى اليونان بسبب الروتين الذي كان يصطدم به ويعرقل تحقيق رؤيته الهندسية والفنية لمشاريعه، وخلال تلك الفترة قام بالتعامل مع مخططين دوليين في مشاريع تم تنفيذها في العراق وباكستان كما قدم أبحاثاً موسعة عن تطوير العديد من المدن في القارة الإفريقية وقدم أبحاثاً عن بدائل استخدام الوقود وعن انشاء بيوت منخفضة التكلفة من مواد البناء المتواجدة في البيئة بشكلٍ يسير وطبيعي ومتوائم معها، كما كان يأخذ عوامل عديدة بعين الإعتبار مثل حالة الطقس واعتبارات متعلقة بالصحة العامة ومتصلة بطبيعة المكان الذي يتم البناء فيه عند تنفيذ أي مشروع في أي بلد مع احترام ثقافته، وكان للنجاح الذي حققه مشروع قرية القرنة أصداءٌ تواصلت على مدار سنوات فمكنته من تقلد مناصب دولية رفيعة كمنصبه في الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم عام ١٩٦٩ والتي تنازل عن بعضها ليكمل رسالته الأساسية في نشر فكره المعماري على نطاق ٍ أوسع مما أهله لنيل لقب (معماري الفقراء) في بريطانيا عام ١٩٧٣، وعمل كثيراً مع منظمة الأمم المتحدة في عددٍ كبير من بلدان العالم وبرغم أنه شغل العديد من المواقع الهامة إلا أنه لم يكن متفرغاً لها وكان يغادرها بإستمرار ليحقق المزيد ويستطيع تعميم تجربته ليستفيد منها أكبر عدد ممكن من الناس والفقراء بشكل ٍ خاص في مختلف الدول، فكان يستخدم المنصب دائماً لخدمة الآخرين وخدمة فكرته ومشروعه بعيداً عن الإستفادة الشخصية..

وكحصيلةٍ لمشاريعه فقد قام بتنفيذ أكثر من ١٦٠ مشروع ونفذ بناء الكثير من المنشآت المعمارية المختلفة على امتداد التراب المصري، كما نفذ الكثير أيضاً في باكستان والهند وفلسطين والعراق والجزائر والنيجر واليونان، وصدر له العديد من المؤلفات ضمن تخصصه وبعدة لغات، وكان من أقواله الشهيرة (هناك ٨٠٠ مليون نسمة من فقراء العالم الثالث محكوم عليهم بالموت المبكر بسبب سوء السكن.. هؤلاء هم زبائني)، وكان شديد الحرص على جعل الحرارة داخل المنازلحسن فتحي.. إنسان بنى للإنسانية التي يصممها مناسبةً لساكنيها على مدار العام وبإختلاف أحوال الطقس من خلال طريقة بنائه والخامات المتوفرة لأي بيئة، بحيث تنبع منها ولا تساهم في تلويثها معتبراً أن زيادة درجات الحرارة داخل البيوت الحديثة ذنبٌ كبير يتسبب في تعب الناس، وكان يعتبر أن ذكاء المعماري يكمن في تعامله مع المواد الموجودة في البيئة التي تشبه المكان وطبيعته بسلبياته وايجابياته، كما نال أكثر من ٦ مناصب شرفية رفيعة المستوى لجمعياتٍ كبرى بين مصر وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية سواءاً كان عضواً فيها أو رئيساً لها..

أما التكريمات التي حصل عليها داخل مصر فكانت ٦ خلال مسيرته بين ميداليات ذهبية وجوائز الدولة التشجيعية والتي كان أول من يحصل عليها من المعماريين المصريين إضافة إلى وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وخارج مصر نال ٧ جوائز بين باكستان وإيطاليا و ميداليات ذهبية من فرنسا وبريطانيا والسويد التي كان أول من ينال فيها جائزة رايت ليفليهود وتسمى أيضا ً بجائزة نوبل البديلة..وكان آخر تكريم له هو من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية..

فعاش حياته في خدمة الفقراء الذين التصق اسمهم به وسعى لخدمتهم حول العالم محاولاً أن يضمن لهم مسكناً كريماً يقدم لهم حياةً أكثر راحة وبإمكاناتٍ محدودة، إيماناً منه بحق البشر في الحياة ومشاركة الجمال من خلال فلسفة ٍ إنسانية متصوفة وصادقة ونقية تقدم لمسات الفن للجميع وتجعلهم يعيشونه فعلياً ويتذوقون حلاوته دون أن يفقدوا انتمائهم لأرضهم وبيئتهم وهويتهم، وظل متواضعاً قريباً من البسطاء يسامرهم ويتحدث معهم ويقضي وقته في التفكير والتأمل والقراءة دون أن تغيره الجوائز والتكريمات والمناصب الرفيعة ودون أن يخدعه تصفيقٌ أو بريقٌ عابر، ومن خلال بيوته وتصاميمه ظل حسن فتحي رقماً صعباً وحالةً لا تتكرر ولا تغيب رغم رحيله منذ عام ١٩٨٩، لأنه قدم للفقراء حياةً فكان تخليد اسمه وذكراه بين محبيه أقل ما يمكن لأنه استحق لقب الإنسان والفنان بكل جدارة..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب