23 ديسمبر، 2024 1:01 ص

حسن حميد في مدينة الله

حسن حميد في مدينة الله

عن الإتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في رام الله صدرت في مجلّدين هذا العام 2021 الأعمال الرّوائية الكاملة للأديب حسن حميد. وبهذا فقد وصلت روايات د. حميد إلى القرّاء من أبناء شعبه في وطنه فلسطين.
والأديب الدّكتور حسن حميد الذي شرّدت أسرته من “أكراد البقارة” قرب مدينة صفد في نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى عام 1948، وحلّت بها الرّحال في مخيّمات دمشق، حيث ولد في العام 1955. يعتبر واحدا من رموز الثّقافة الفلسطينيّة المعاصرة، وهو مبدع برز في القصّة والرّواية والأبحاث. وإذا كان اسم أديبنا الرّائع قد لمع في العالم العربيّ، فقد حجبت إصداراته عن أبناء شعبه الذين يعضّون على تراب وطنهم بالنّواجذ بسبب الحصار الثّقافيّ الذي فرضه المحتلون عليهم. من هنا تأتي أهمّيّة نشْر رواياته التي قام بها مشكورا الاتّحاد العامّ للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في رام الله، ضمن برنامجه بإعادة نشر الأعمال الكاملة لبعض الرّوّاد والرّموز الأدبيّة الفلسطينيّة.
سبق لي أن قرأت قبل سنوات رواية “جسر بنات يعقوب” للأديب حسن حميد، وها أنا أقرأ مجموعة رواياته كاملة، وسأتوقّف عند رواية “مدينة الله” التي صدرت طبعتها الأولى عام 2009 عن “المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر”.
وهذه الرّواية -كما هي روايات أديبنا السّابقة- تؤكّد من جديد أنّ كاتبنا مسكون بالمكان الفلسطينيّ، الذي شُرّد منه في النّكبة الأولى تسعمائة وخمسون أللف فلسطينيّ -حسب إحصاءات الأمم المتّحدة-، وأصبحوا الآن أكثر من ستّة ملايين شخص، عانوا ويلات التّشرّد والحرمان وشظف العيش. والأديب حسن حميد كفلسطينيّ أصيل مسكون بوطنه وطن الآباء والأجداد، لذا فقد كرّس مشروعه الثّقافيّ لهذا الفردوس المفقود.
وتأتي رواية “مدينة الله” في سياق المشروع الثّقافيّ لأديبنا، وقد استوقفني العنوان “مدينة الله” والمقصود بها مدينة القدس، فالقدس العاصمة السّياسيّة، الدّينيّة، الثّقافيّة، التّاريخيّة، الحضاريّة الاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ، وهي بمثابة القلب في الجسد الفلسطينيّ، وهذه المدينة العربيّة التي بناها الملك اليبوسي ملكي صادق قبل أكثر من ستّة آلاف عام واتّخذها عاصمة لمملكته، لا يمكن أن تكون إلا عربيّة فلسطينيّة، وكأنّي بأديبنا يقصد عندما اختار هذا العنوان لروايته عن المدينة المقدّسة ” مدينة الله التي وهبها للفلسطينيّين”، أو أوحى للفلسطينيّين لبنائها لتكون مدينتهم التي اختارها لتكون مهدا للدّيانات السّماويّة. وكأنّي بأديبنا يقصد أيضا أن يقول بأنّ القدس مدينة التّعدّديّة الثّقافيّة. ومن خلال الرّواية التي اختصر فيها الكاتب مراحل تاريخيّة مرّت بها المدينة نلاحظ أنّه رغم أطماع الغزاة والمحتلّين السّابقين والحاليّين فإنّهم كما قال محمود درويش “عابرون في مكان عابر”، فالمدينة مدينة عربيّة فلسطينيّة ولن تكون غير ذلك رغم الليل الدّامس الذي مرّت وتمرّ به.
الأسلوب: بلغة أدبيّة ساحرة اختار الأديب حسن حميد أسلوب الرّسائل لبناء روايته عن المدينة المقدّسة، وهي رسائل كتبها بطل الرّواية “فلاديمير” لأستاذه “جورجي إيفان” في بطرسبورغ، لكنّها لم تصله؛ لأنّ موظّفة البريد اليهوديّة وديعة عميخاي أحتفظت بالرّسائل، ومنعت وصولها إلى صاحبها، وبعد أربعين عاما وعندما أصيبت بمرض عضال أفرجت عنها وسلّمتها لبيت الشّرق في القدس. وبيت الشّرق هو مركز أبحاث أسّسه الرّاحل فيصل الحسيني، واتّخذه مقرّا غير معلن لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة.
و”فلاديمير”بطل الرّواية تزوّج من رشيدة مراد الفلسطينيّة، ومن خلالها تعرّف على المدينة المقدّسة، وعلى غيرها من الأماكن الفلسطينيّة، كما تعرّف على معاناة المقدسيّين بشكل خاص والشّعب الفلسطيني بشكل عام من عسف المحتلين والجرائم البشعة التي يرتكبونها. ويلاحظ ما جاء في الرّواية بوصف جنود الاحتلال بأنّهم يركبون البغال” بغّالة” وهذا الوصف ليس عفويّا، فالبغل لا يتّصف بالأصالة، وراكبه ليس فارسا ولا خيّالا، وهذا يتماشى مع المثل القائل” من قلّة الخيل شدّينا ع الحمير”، فـ “البغّالة” أصبحوا “فرسانا” لعدم وجود فرسان يردعونهم! وهؤلاء “البغّالة” طغوا وبغوا بحيث اعتدوا بالضّرب والإهانة على ركّاب سيّارة لأنّ سائقها قال لهم “مرحبا”، وفي صباح اليوم التّالي اعتدوا على ركّاب سيّارة لأنّ السّائق لم يقل لهم “مرحبا”! والمحتلون قلبوا حياة الفلسطينيين رأسا على عقب، فمثلا “أبو العبد” افتتح مقهى في قلندية الواقعة بين القدس ورام الله مع أنّه يحمل شاهادة بكالوريوس رياضيّات، وهذه إشارة إلى البطالة التي يعاني منها خريجو الجامعات في الوطن المحتل، وعشرات الآلاف منهم تحوّلوا إلى العمل الأسود في مطاردتهم لرغيف “الخبز المرّ” كي يواصلوا حياتهم، وهذه قضيّة لها تأثيراتها السّلبيّة على نواحي كثيرة في البناء الإجتماعيّ الفلسطينيّ.
وصف الكاتب الكثير من الأماكن في القدس مثل الصّخرة المشرّفة والمسجد الأقصى، كنيسة القيامة، درب الآلام، المغارة وغيرها. كما وصف بيوت القدس القديمة ونوافذ بيوتها. وقد توقّفت عند”المغارة”، وأعتقد أنّ الكاتب يقصد بها “مغارة سليمان” اللامتناهية في عمقها، والتي يقع مدخلها تحت سور القدس التّاريخي بين باب العمود وباب السّاهرة في الجهة الشّماليّة للمدينة القديمة الواقعة داخل سورها التّاريخيّ.
ملاحظة لها ما يبرّرها: لم يدخل الكاتب المدينة المقدّسة لظروف خارجة عن إرادته، بسبب الاحتلال الغاشم، لكنّ المدينة تسكنه مع أنّه لم يسكن فيها، وقد أظهر بعاطفة قويّة من خلال روايته مدى حبّه وتعلّقه بالمدينة، ولا غرابة في ذلك، فالقدس جنّة السّماوات والأرض، وهي عنوان عروبة فلسطين، وعدم معرفة الكاتب لجغرافيّة المدينة أوقعه في بعض الهفوات التي لا تؤثّر على البناء الرّوائي، وتمنّيت لو أنّ كاتبنا عرض روايته على مقدسيّ يعيش في المدينة قبل طباعتها، ومن هذه الهفوات، حديثة عن “الرّامة”، والرّامة بلدة فلسطينيّة في الجليل الأعلى وهي البلدة التي ولد وعاش فيها شاعرنا الكبير سميح القاسم، أمّا البلدة المقدسيّة فاسمها “الرّام”، وتقع شمال المدينة بين القدس ورام الله، وكذلك وصفه لما سمّاه “نبع سلوان” واسمها عين سلوان، وهي على بعد حوالي أربعمائة متر عن سور القدس من الجهة الجنوبيّة” وهذه العين لها مدخلان” بينهما نفق صخريّ يرتفع حوالي ثلاثة أمتار وبعرض حوالي متر واحد تنبع منه مياه العين، لتخرج من “العين التّحتا” كما يسميّها العامّة، ومنها كانت تروى أراضي حيّ البستان حيث كانت تزرع الخضار وتنمو أشجار التّين، وبعد أن استولى المحتلّون على العين ومياهها، أقام الأهالي بيوت سكن عليها، وصدر قرار احتلالي بمصادرتها لأنها تقع ضمن ما يسميّه المحتلون “الحوض المقدّس” ويزعمون أنّ ما يسمّى “مدينة داود” كانت قائمة عليه، ومن الهفوات التي وردت في الرّواية وجود أشجار أمام كنيسة القيامة وهذا غير صحيح أيضا، فأمام مدخل كنيسة القيامة ساحة صغيرة مساحتها أقلّ من مئة متر مربع تفصل بين الكنيسة ومسجد عمر.
وماذا بعد: تبقى الرّواية إضافة نوعيّة شكلا ومضمونا للرّواية الفلسطينيّة عن القدس، وهذه العجالة لا تغني عن قراءتها.