يجلس أمام شجرة محروقة، يتأملها تأمل الفنان، وحين عرف اني اكتشفت دمعته..
قال: منظر مؤلم، شجرة تعطينا الحياة، ونعطيها الموت..
ثم أكمل وهو يمسح دمعته: يخلقها الله تعالى ونقتلها نحن..!
كل الجيوش تدرب مقاتليها على تجاوز العاطفة، ونبذ المشاعر؛ لكي لا تؤثر على الأداء القتالي في شيء، وقادة هذا الحشد التضحوي يؤكدون دائماً على هذه المشاعر الرقيقة.
مقاتل يبكي شجرة محروقة، كيف به حين يرى إنساناً مذبوحاً تحت راية تكبير، ينظر بحزن لأطفال قرية المزرعة، وهي منطقة تقع جنوب بيجي بمسافة 4كم يسكنها الجيسات، وهم القيسية والجميلين، وقسم من عشائر العبيد، يرتاح كثيراً عندما يراهم يلعبون بدراجاتهم الهوائية او يلعبون لعبتهم المفضلة كرة القدم.. كنت أرى الدمع في عينيه دائماً، لكني أعجز أن أسمع صوت رأسه، وكان يكرر مقولته دائماً: لا أعتقد من يقتل هنا يموت..!!
المقرات الخلفية والبعيدة عن حائط الصد بــ(4كم) والقريبة جداً من قرية المزرعة، وهي تتكون من المطابخ والمخازن والآليات والمنفتحة على الساحة الكبيرة التي يلعب فيها الأطفال، فكان الطباخ حسن محمد حسن يراقب مرحهم الاسطوري، وسط هذه الظروف لا تعنيهم قساوة الحياة، فهم منشغلون بدراجاتهم الهوائية وبملعبهم الذي يتوسط قبور الشهداء، صار يعرف أسماءهم جميعاً دون أن يكلم أحداً منهم، ويشاهد لعبتهم لكنه يحذر التقرب منهم، فهو لا يعرف كيف ينظرون اليه والى المقاتلين المتطوعين الذين جاؤوا لتلبية نداء الدين الوطن.
سقط أحد الأطفال من دراجته بالقرب من المطبخ، فذهب إليه راكضاً، حمله من الأرض، وراح ينظر الى جرحه وركض ليأتي بضمادات ليسعف الجرح، ثم اتجه الى الدراجة ليفحصها، وهو منشغل بعمله، وإذا به يرى الاطفال محيطين به متعاطفين مع روحه الطيبة:- هل يؤذيك الجرح؟
:- لا.. لكني أشعر بالتعب، ولذلك سأذهب الى البيت…
:- لحظة لآتي لكم بالماء، فاحضر لهم الماء، شربوا وهم يبتسمون:- ما اسمك؟
:- أنا اسمي طه عمو..
:- عمو.. وانت ما اسمك؟
:- أنا اسمي حسن..
:- (حسن شنو؟)
:- حسن محمد حسن
:- أنت من أين؟
:- انا عراقي من محافظة كربلاء
:-(عجل) يقولون انكم صفويون..
:- هؤلاء كذابون؛ لأنهم هم ليسوا من العراق، وإلا هل يمكن لعراقي أن يؤذي اطفالاً جميلين مثلكم.
قال احد الاطفال ببراءة:- عمو حسن.. اترى ذلك القبر الذي امامك، انه قبر ابي.. وقال الطفل الآخر:- وذلك القبر الذي يقابله هو قبر ابي انا.. عرف المقاتل حسن من خلال حواراته ان هؤلاء الاطفال فيهم من اولاد عشيرة جميلة ابناء المزرعة سكنة المنطقة، ومجموعة من اولاد القرى المهجرة.. بدأت ملامح عصر جديد لتبني علاقة وطيدة بين اولاد المزرعة والمقاتل حسن.
:- مع السلامة عمو..
:- (الله معكم حبايبي نشوفكم الصبح).
بدأ المقاتل حسن ينصهر في هذه العلاقة الابوية، صعب عليه أن يمر يوم دون أن يراهم، وحين تتعرض القرية الى القصف أجده قلقاً، ينتظر حضورهم، ليطمئن على حال الاولاد، صرت اتقرب هذه الالفة بروح الفضول، وافرح كثيرا حين اراهم يحضرون ويسألون عن حسن..
:- عمو.. سيد.. اين حسن الكربلائي؟ وصاروا يستجيبون لدعواته ويدخلون المطبخ ويأكلون ويأتون بكتبهم ليعلمهم حسن، ويراجع معهم دروسهم، فالجميل انهم حريصون على مدرستهم ودراستهم، ويبذلون جهدا كبيرا للوصول الى المدرسة التي تقع في منطقة الحجاج التي تبعد عنهم مسافة (4كم).
اهتزت الأرض، ووشم البرق في السماء ضياءه، وتاه في حينها صوت القصف مع صوت الرعد الهائل.. قال لهم حسن:- اذهبوا الى بيوتكم.. اسرع الاطفال الى بيوتهم خوف الرعد والبرق والقصف، وهم ينادونه:- عمو حسن.. (ديرو بالكم على ارواحكم).. كان حسن الكربلائي كما يسمونه الاطفال لا يستطيع النوم والقرية قابعة تحت القصف، ولا يستطيع دخول القرية، فهذا أمر لا يتقبله مقاتلو الحشد الشعبي.
قلت له:- اهدأ حسن.. هذا صوت رعد وليس قصف.. وأسمع حسن يدعو:- اللهم احفظهم من الاذى يارب، اللهم بحق الحسين عزيز الزهراء (عليهما السلام) ابعد عنهم الشر.. صحت به:- ما بك حسن..؟
فأجابني:- قلبي مخنوق مقبوض على اطفال القرية، هل سيتحملون قذائف السماء برق ورعد ومطر غزير، أم يا ترى يتحملون قذائف رجال الشيطان، وهم يدكون المواضع الخلفية والقرى الامنة؛ لكونها رفضتهم، ومع اول خيوط الفجر رأيته واقفاً ينتظر متى يأتي الصبح ليطمئن على الاطفال.
اخبرته إحدى قذائف اهل الشر انك لن تراهم بعد الان، وانا احتضن جراح حسن الكربلائي، اخبرني بأن أبلغهم السلام، وأن اقول لهم: عمكم حسن يحبكم كثيراً.. قررت أن لا انقل جثمانهم الى مستشفى سامراء حتى يودعوا اطفال المزرعة، وما ان حضر الاطفال حتى صاروا يحتضنونه ويبكون، ويتوسلون بالمقاتلين أن يتركوه برهة عندهم، وبعدها أصروا وهم الصغار على حمل التابوت في سير جنائزي الى السيارة، وقرروا أن يجتمعوا لصلاة الظهر في جامع القرية لقراءة سورة الفاتحة على روح صديقهم وعمهم حسن الكربلائي.