يحتدم الجدل حصرا في الغالب بين الأطراف النافذة في العملية السياسية حول إقرار الموازنات العامة بنقاشات عقيمة دون طائل, وكل طرف يريد أن يغرف من بحر لا ينضب من المال العام, حتى أصبح سيناريو يتكرر كل عام ثم تمريرها على علاتها خشية تعطل مشاريع التنمية والأعمار المزعومة, , وفي موازنة “2014” كما جرت العادة, حكومة بغداد تضع موازناتها في حسابات بعضها خيالية وأخرى وهمية, وحكومة اربيل تريد فوق حصتها من الغنيمة لتمريرها, وبين بغداد والإقليم يتساءل المالك الشرعي لهذه الثروات, ما الذي جناه من هذه الموازنات الانفجارية, وأين هو من ثرواته التي استأمن عليها هؤلاء الساسة ؟
فلو احتسبنا إجمالي قيمة مبالغ الموازنات العامة المتحققة من عائدات النفط منذ عام “2003” ولغاية “2014” وطبعا المعلنة فقط من دون احتساب مبالغ النفط المهرب من أنابيب تعمل منذ عشر سنوات دون عدادات لحساب الأحزاب وشخصيات مقربة من أصحاب السلطة والنفوذ, ومن دون احتساب قيمة مبالغ عائدات بقية الثروات المهربة كالكبريت مثلا الذي كنا نرى شاحناته تتجه نحو الجنوب لتهريبه وألان تتجه نحوه موانئ تركيا لتصديره دون ان نرى له اثر في الموازنات العامة, ومن دون احتساب عائدات الوزارات التي تحولت إلى ارث حزبي وعائلي لمن يستأزرها, ومن دون أيضا احتساب قيمة مبالغ المنح والهبات الدولية, فإنها تكون قد بلغت ما يزيد عن “750 ” مليار دولار بالتمام والكمال, لو قسم هذا المبلغ على عدد سكان العراق البالغ “30” مليون نسمة, لنال الفرد الواحد من العراقيين برجالهم ونساءهم وكبارهم وصغارهم نصيب يبلغ “25” مليون دولار, ولنالت عائلة متوسطة العدد (أربعة أفراد مثلا) نصيب من عائدات النفط يبلغ “100” مليون دولار , دولار ينطح دولار, تستطيع العائلة بهذا المبلغ أن تبني إمبراطورية خاصة بها أشبه بإمبراطوريات مهراجات الهند أو دوقات أوربا في العصور الوسطى أو رغيد عيش النواب والمسؤولين, فتحمي نفسها بسيارات مدرعة, وتستأجر عناصر “بلاك ووتر” لحمايتها, ولانشات محطات كهرباء وماء وصرف صحي خاصة بها, وعلمت أبناءها بأفضل المدارس, وقومت أسنانها وعالجت بواسيرها في أفضل المستشفيات, واستثمار ما يتبقى من أموالها الطائلة بحسابات سرية في بنوك سويسرا, ولا حاجة لها للعمل بعد الآن, فلهذه العائلة إيراد سنوي مضاف من عائدات النفط يبلغ “17.3” مليون دولار وفق ما وصلت إليه قيمة آخر موازنة .
عائدات النفط هذه هي ملك الشعب (هكذا يقول الدستور), ولكن وباستثناء نخبة قليلة جدا من هذا الشعب أو من المحسوبين عليه, ممن شاءت الأقدار في أن يكونوا بموقع المسؤولية والمقربين منهم استأثروا بهذه العائدات دون وجه حق, فأن السواد الأعظم من العراقيين ترك ليفتك بهم الفقر والحرمان والبؤس, وينهش فيهم الجهل والتخلف, وتستامهم الأمراض والأوبئة, فالدولة في نظر من يحكم هذه البلاد هي ليست مؤسسة خيرية, وبهذا فان الشعب هو الذي تحول إلى مؤسسة خيرية يسعى لإشباع نهم هؤلاء الجياع دون يبان عليهم الشبع.
كان لحصول كل عراقي على عشر استحقاقه من ثرواته كفيل بإخفاء كل مظاهر العنف والإرهاب, وسيجزع تجار الحروب من تجنيد ضحاياهم من بين جموع العاطلين والمحرومين والضائعين بين الجهل والتجهيل والحؤول دون إيقاد نيران فتنهم, ولتعزز الولاء الوطني, فنيل الحقوق يستلزم الوفاء بالالتزامات, فلا حقوق دون واجبات ولا واجبات دون حقوق, ولتسارع الجميع لصيانة مكتسباتهم وحمايتها, وما كنا لنحتاج إلى جيش عرمرم وظيفته استنزاف المال العام دون طائل, وباختفاء هذه الأموال الطائلة نكون قد استنزفنا اكثر من “10%” من إجمالي احتياطاتنا النفطية وسيستنزف وبوتيرة متصاعدة المزيد من الاحتياطيات ما دام المال سائب ومالكه الشرعي يغفو في سباته لتستقر عائداته في حسابات سرية لمناضلي المواخير وعلب الليل.
رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين
[email protected]