22 نوفمبر، 2024 12:44 م
Search
Close this search box.

حزن الصور

حزن الصور-قصة قصيرة
قطارات الصباح تتنوع في ركابها بين رحلة وأخرى حسب ساعات الحركة، في ساعة الذروة الصباحية الأولى يأتي قطار كل عشر دقائق ويرحل مكتظاً بالركاب، معظمهم طلبة المدارس لا يملؤونه بأجسادهم وحقائبهم فحسب، بل وبأصواتهم التي تتداخل كلماتها الفرنسية والإنجليزية مع كلمات متناثرة من العربية ولغات أخرى. أما هذا القطار، قطار الثامنة والربع، فإنه قطار الموظفين، أقل اكتظاظاً وأكثر هدوءاً. تنتظر على الرصيف فيعلنون شيئاً ما بالفرنسية، لا تفهم من الإعلان شيئاً، عبثاً تحاول تعلّمها، صرت تعرف كلمات وعبارات كثيرة عندما تراها على واجهات المحلات أو الإشارات في الشوارع، ولكن أذنك تأبى الدخول في هذه العملية الإدراكية، يبدو أنه لا بد من تعلّم حقيقي على مقاعد الدراسة لكي تتعلم لغة جديدة في هذا العمر. تسأل شاباً يقف بجانبك عن الإعلان، فيوضح أن القطار سيتأخر عن موعده دقيقتين. تضحك في سرك “إني مسامحكم بالدقيقتين وحتى بخمس دقائق، لا داعٍ للاعتذار عن هذا التأخير، دقيقتين، مش بيننا يا جماعة الخير”، وتشكر الشاب على التوضيح المهم.

يصل القطار كما وعد الإعلان، تنتقي مقعداً متأخراً في العربة لتتم قراءة صفحات في الرواية التي بدأتها قبل يومين. تنغمس في القراءة استمتاعاً، لا تدري كيف مرّ الوقت حين تنبهت لوقوف القطار في المحطة الرئيسية في المدينة، المحطة التي تقصدها.
سرب من النمل البشري الطويل يتوجه نحو المخرج عبر الدرج الكهربائي المتحرك، تفتقد التدافع، أليس بين الجميع شخص مستعجل يزيحك جانباً ويظهر أهميته وأن عمله المهم لا يحتمل التأجيل كما يفعلون هناك في بلدك، تفتقد هذا الأمر أحياناً كافتقادك لأبواق السيارات في شوارع المدينة، وافتقادك لعبارات “صباح الخير يا جار، أراك خارجاً مبكراً، إلى أين العزم يا جار؟” ومثيلاتها. تندمج في سرب النمل ويتحرك الدرج الكهربائي ليخرجكم من رصيف المحطة إلى المستوى الأرضي. الجو جيد هذا اليوم كما تقول النشرة الجوية على الشاشة قبالتك، أن يكون الجو هكذا في تشرين الثاني أمر رائع، إنه أفضل وداع لدرجات الحرارة فوق الصفر المئوي قبل أن يقتحم موسم الثلج حياة المدينة. تقرر أن تقطع المسافة إلى الجامعة مشياً في الشارع بدلاً من المضي في مسارك المعتاد في النفق الطويل تحت الأرض الذي يربط محطة القطارات بالمجمع التجاري الذي يؤدي الخروج منه إلى الشارع القصير الموصل لبوابة الجامعة الرئيسية. أعمال الصيانة ما زالت تعرقل سير المشاة والمركبات، لكن لا أحد يطلق بوق سيارته ولا أحد يعصي أمر إشارة المرور أو إشارة الشرطي. الشمس تظهر واضحة من بين العمارات الشاهقة، تتسلل بين الغيوم الخريفية لتلقي أشعتها على الشارع، منظر يستحق التصوير، تقرر أن تلتقط لها صورة لتضعها على صفحة الفيسبوك مع “صباح الخير” تحية لأصدقائك.
تدخل البوابة الرئيسية للحرم الجامعي، تتصبّح بتمثال السيد ماكغل مؤسس الجامعة يمسك بعصاه المغروسة في الأرض بشكل مائل للأمام، ومعتمراً قبعته، مندفعاً كأنه ما زال يمشي على هذه الأرض. فجأة يقفز سنجاب قربك ويلتقط ثمرة جوز بيديه ثم يقف على قدميه ينظر نحوك، ثم ينقلها إلى فمه، لا يمهلك حتى تفتح كاميرا “الموبايل” لتلتقط صورته، يهرب في اللحظة الأخيرة قبل أن تضغط زر التصوير. هكذا هو صنف السناجب، هذه المخلوقات اللطيفة، الواحد منها متحفز دائماً للهرب إن كان يحمل في فمه شيئاً من الطعام كأن البشر سيسرقون طعامه، تُكبِر فيهم هذه الصفة وتتمنى لو أن كل البشر يحافظون على حقوقهم بهذا الشكل، أو يسارع للقفز وتسلق أية شجرة قريبة ليقف على جذعها أو على أحد أغصانها وينظر إليك يتأملك بعينيه الصافيتين متفحصاً نيتك تجاهه وجاهزاً للابتعاد إن شك في نواياك.

جو احتفالي يعمّ المكان، زينة وأعلام موزعة حول الخيمة الكبيرة، السرادق، التي نصبت في ملعب كرة القدم قرب المكتبة الرئيسية تحضيراً للاحتفال بخريجي الفصل المنصرم. قرب الخيمة مجموعات من الخريجين الذين جاؤوا مبكرين، تتأمل المنظر وتعيش لحظة فرحهم كأنك واحد منهم. تتذكر لحظات التخرج التي عشتها وكانت مناسبة للاحتفال بالإنجاز الذي تم دون أن تفكر بالمنتظر من دروب وهموم العمل والحياة، أو بتجاهل متعمد ولو لوقت قصير لذلك التفكير وتلك الهموم، وتتذكر مناسبات التخرج التي حرمت منها وكنت ترغب في المشاركة فيها. سترى اليوم صديقين الذين حضرا من البلاد كما وعدا في رسائلهما الإلكترونية قبل أيام. تغبطهما على المشاركة، فهذه الاحتفالات فرح يستحق السفر من أبعد الأماكن، حتى وإن تطلب الأمر عبور المحيط للوصول إلى هنا ليصعدا المنصة من جهة ويخرجا من الجهة الأخرى برأسين تعلو كلاً منهما قبعة تقول “تخرجنا”، وتهون معه كذلك معاناة عبور جسر الكرامة الخالي من أية كرامة، جسر الأحزان يا فيروز، طارا كل هذه المسافات ليشاركا في هذا الحفل، ستقول لهما ألف مبروك.

خريجة ترتدي “روب” التخرج وتقف مع شاب، حبيبها أو خطيبها أو زوجها أو أخيها، يلتقطان صورة “سيلفي” على خلفية المبنى الرئيسي المواجه للبوابة، وحين تقترب منهما وتحييهما يطلبان منك أن تصورهما على خلفية المبنى الرئيسي فتوافق، يعطيك الشاب الموبايل ويعود ليقف إلى جانبها والبسمة تعلو ثغريهما. تعيد له الموبايل وتسألهما عن رأيهما بالصورة لتطمئن منهما إن كانت اللقطة قد أعجبتهما، فتعبر الصبية عن إعجابها بالصورة وتشكرك. تتذكر صور زمان وانتظار تظهير الصور قبل عصر الديجتال، كم كنت تنتظر لتعرف نتيجة الصور خشية من أنها “احترقت”. بعد مسافة قصيرة خريج آخر بروب التخرج الخاص بدرجة الدكتوراه يمشي بأبهة ويمسك بيد فتاة صغيرة، بنت أو حفيدة، المنظر يغري بالتقاط صورة أخرى تستحق التسجيل كصورة الشمس المتسللة من خلف العمارات الشاهقة، ثنائية جميلة ربما ترسلها إلى نشرة الجامعة إن وافق مع عبارات حول الأجيال، تضغط لكنه يتحرك في اللحظة الأخيرة كما فعل السنجاب، فهل يتآمر الناس والسنجاب هذا اليوم على رغبتك في التصوير.

تتأمل منظر الخيمة ومجموعات الخريجين الواقفين في محيطها فتتذكر أنك من بين أربع محطات تخرج في حياتك الدراسية الجامعية لم تشارك إلاّ في حفل تخريج واحد، وحتى هذا الحفل ضاعت صوره التي احتفظت بها، لم تضع بسبب إهمالك، لقد حافظت عليها كتذكار لأيام جميلة، لكنها أصبحت في ملفات المخابرات حين أخذوها جميعاً في الاعتقال الأول في حياتك، وبعد ذلك لم تشارك في أية احتفالات أخرى، حرمتك ظروف كثيرة من المشاركة فيها فلم تحصل على صور للتخرج. تتذكر تلك الصور وتحزن عليها، ولكنك تقرر ألاّ تبالغ في الحزن لأن الحزن صار يلزم لأمور كثيرة أكبر من ذلك. تتذكر الصديقين القادمين للاحتفال واللذين لا بد قد وصلا وينتظرانك في الدائرة، وتقرر أن تأخذ معهما الكثير من الصور وأن تبتسم في كل الصور حنيناً للصور التي ضاعت ونكاية باللذين سرقوها، وكذلك نكاية برقعة الحزن التي تتوسع كل يوم ويبدو أنه ما زال أمامها مساحات للتوسع.

أحدث المقالات