لقد أمسك حزب الدعوة الإسلامية بزمام قيادة حقبة ما بعد صدام، بإجماع سياسي، فقد توافق جميع الساسة على القيادي في الحزب يومذاك، إبراهيم الجعفري، وكان عضوا في مجلس الحكم، الذي أدار البلاد بعد سقوط نظام صدام، على أن يكون رئيسا للوزراء، مطلع عام 2005م على الرغم من أن كتلة الدعوة البرلمانية يومها ليست كبيرة، ولكن الجميع اتفقوا، عن قناعة أو استجابة للأمر الواقع، على أن حزب الدعوة الإسلامية هو الأقدر على العبور بالبلاد في هذه المرحلة الحرجة، إلى واقع أكثر أمانا، وإن كانت أشهر حكم الجعفري المعدودة تكاد تكون بلا إنجازات، يمكن أن يتوقف عندها المؤرخ أو المفكر أو المحلل السياسي، سوى مأساتين دمويتين وقعتا في عهده، هما حادثة جسر الائمة منتصف العام 2005، وتفجير مرقد الامام العسكري ع، مطلع العام2006، فقد وصل الجعفري إلى رئاسة الوزارة، الموقع الخطير، برصيد حزب الدعوة الإسلامية، الذي مثّل في الذاكرة العراقية صفحة نضالية رائعة كتبت بجهود عظيمة من قبل شهداء وعلماء ومفكرين ومثقفين وطلاب وعمال وكسبة وفلاحين، ولا أُخفي أن مدة حكم الجعفري لم تضف إلى رصيد الحزب شيئا، وإنما كانت عبئا عليه، ولكن عندما يكون الرصيد كبيرا لم يتأثر بما يصرف منه، بدليل أن الذي خلفه في هذا المنصب أيضا قيادي من حزب الدعوة الإسلامية، هو نوري المالكي، ما يدل على بقاء الحزب حتى ذلك الوقت في مكانته الرفيعة في ذاكرة العراقيين.
تسلم المالكي رئاسة الوزارة عام 2006 بعد الجعفري، وكان صاحب مشروع، متفهما لواقع العراق وتنوع الخلفيات الدينية والقومية والمذهبية للعراقيين، يهدف مشروعه إلى إعادة صياغة الهوية الوطنية العراقية، التي هشمها نظام صدام حسين، ليحولها إلى هويات طائفية، كان المشروع يتمحور حول ورقة المصالحة الوطنية، لتصحيح ما خربه نظام صدام، وهو مشروع رائد، كان له أن يرسم خارطة طريق لعراق جديد يقوم على التعددية والحريات، ولكنه أُعيق في أكثر من موقع ومن قبل أكثر من طراف، بعضهم رأى أنه مشروع سيضع حزب الدعوة الإسلامية في قلب الخارطة السياسية للعراق، وهذ لا يرضي كثيرين من الساسة، الذين اثبتت الممارسة ان لا خطوط حمراء أمام أطماعهم في الحكم، فلم يستطع المالكي أن يستمر، خاصة وان بعض الأطراف القريبة جدا منه لم تبد ما يدل على أنها مؤمنة بالمشروع، وكانت تسأل مَنْ يصالح مَنْ؟ وهو سؤال ساذج يعبر عن مستوى متدن من التفكير، يناقض تماما منهج الدعاة المؤسسين، وبالخصوص الشهيدين عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي رضوان الله تعالى عليهما، اللذين أوصلتهم بصيرة المؤمن إلى أن المشروع الطائفي في العراق وفي كل العالم الإسلامي، مشروع مشبوه، فكانا رحمهما الله دعاة لحزب إسلامي عابرا للطوائف، ولا أستغرب من البعث المجرم ذي النزعة النازية أن يقدم عام 1971 على إعدام الشهيد عبد الصاحب دخيل في وقت مبكر، وكأنه يقول اجهزوا على مشروعه قبل أن تتلقفه جماعات إسلامية أخرى، ولو تمكن لأعدم السبتي في ذلك الوقت أيضا، ولكنه أفلت من قبضة المخابرات وهاجر إلى لبنان، واستقر فيما بعد في الأردن، فأعادته المخابرات العراقية، التي كان يرأسها يومذاك المقبور برزان، بالتواطئ مع المخابرات الأردنية منتصف الثمانينيات ليعدم رحمه الله، وللإنصاف يجب أن نقول إن الشعب الأردني بنقاباته ومثقفية وقف ضد هذه الصفقة المشبوهة، ولكن النظامين العراقي والأردني مرراها، لأن صدام سادر في غيه، والنظام الأردني كان واقعا تحت ضعطه وابتزازه.
لم تكن تلك الأطراف المعارضة المالكي عائقا أمام مشروع المصالحة الوطنية فحسب، وإنما كان للمالكي نفسه دور في ذلك، لأنه أحاط نفسه بحاشية غير مؤهلة لإنجاز المشروع، فلم يوسع دائرة استشاراته، بأشراك فقهاء ومفكرين وساسة، ولم يستفد في الوقت نفسه من خبرات إسلامية أصيلة من كل المذاهب لتنضيج أسس يمكن البناء عليها، لأن مشروعا مثل هذا يجب أن يقوم أولا على تلاق مذهبي يمكن أن يوظف في خدمة مشروع سياسي وطني، يستطيع أن يستوعب الاختلافات أو يحسن إدارتها، وليس اطلاقا على تلاق سياسي، يمهد لحوار ومن ثم تلاق مذهبي، كما هو شأن مؤتمرات التقريب بين المذاهب، التي تمولها أجندات سياسية، لم تستطع أن تؤسس لأي شكل حقيقي من التقريب، وإنما انتجت مقولات وشكليات، لا أثر لها على سلوكيات المجتمع ناهيك عن أنها لم تقدم مادة معرفية، بدليل هذا السعار الطائفي الذي ينهك الكيان الإسلامي، ويحيله إلى لقمة سائغة لكل عدو وطامع، فأنا مؤمن بأن المذهبية على عكس الطائفية تماما، تعبر عن إيجابية تعدد الاجتهادات لتحقيق هدف واحد، فكانت الحلقة المقربة من المالكي ليست على بمستوى انجاز هذا المشروع الكبير الرائد، وحتى في الساحات الأخرى، المذهبية والسياسية، أخطأ المالكي الاختيار عندما اعتمد على شخصيات تنطلق من مصالحها الخاصة، تبدي استعدادا لتقديم يد سياسية، لكنها لا تمتلك رصيدا من الدين، فالمصالحة وإن كانت ذات مظهر سياسي، فإنها في الحقيقة دينية. إن اجتماع كل هذه المعوقات جعل المالكي يسير وللأسف في الطريق الخطأ، ولكن الإنصاف يقتضي أن نتذكر أنه ورث تركة من تناحر طائفي مقيت، احتدم بعد حادثتي الجسر وتفجير المراقد، وهما حادثتان شنيعتان مشبوهتان، كادتا تمحقان كيان العراق لولا لطف الله جلّ وعلا، ما شكّل عائقا كبيرا أمام المالكي، اضطره إلى أن يرمي بمشروعه على رفوف السياسية، ويستمر حاكما بلا مشروع يذكر، سوى ما كان يتحدث عنه من إزالة مظاهر التسلح خارج دائرة القوات المسلحة، والحفاظ على سيادة العراق وإخرج القوات الامريكية المحتلة، مكتفيا بأكبر إنجازاته، وهو الاتفاق على اخرج القوات الامريكية، وهو منجر كبير بدون شك، ولكن أي رئيس وزراء غيره كان سيقوم به، وكان بقاؤه في المنصب يتم برصيد الدعوة، الذي بدت عليه علامات النفاد، وراحت تقتطع منه أثمان باهظة بدل أخطاء الحكم، كل الحكم على الرغم من أن حزب الدعوة الإسلامية مشارك في الحكم وليس متفردا به، حتى نضب رصيد حزب الدعوة الإسلامية تماما آخر أيام ولاية المالكي، فآلت الأمور إلى صراع على السلطة، تفجر في قلب الدعوة بينه وبين العبادي، الذي وصل الى رئاسة الوزارة باتفاقه – المشوب بريبة – مع التكتل السياسي الحاكم الذي رفض التجديد للمالكي، وقد انعكس ذلك صراع الدائر في داخل سلبا على عهد العبادي، الحافل بانجازين كبيرين، أولهما استعادة الموصل ومدن أخرى من قبضة داعش، ما أعاد للجيش العراقي هيبته التي تأثرت كثيرا جرّاء ما حدث في الموصل، والآخر الوقوف بوجه أطماع البرزاني التي لا حدود لها في السيطرة على محافظة كركوك، وهي محافظة عيش مشترك للعرب والكرد والتركمان، كان لهذين الانجازين أن يضيفا لرصيد الدعوة في الحكم شيئا، ولكن الصراع السياسي المتفجر داخل الحزب، وتوظيف الخصوم والمنافسين حال دون ذلك، وقد عجّل أيضا تصريح العبادي حول موقفه من العقوبات المصرفية الامريكية على إيران في وضع حد لنهاية ولايته، فخرج حزب الدعوة الإسلامية من رئاسة الوزارة صفر اليدين، سوى ما حققه بعض المحازبين، أو راكبي الموجة، من مكاسب مالية أو سياسية.
إنه لمن المؤلم جدا، بل المبكي أن يقف حزب الدعوة الإسلامية اليوم بلا رصيد، وبلا غطاء، حتى المؤمنين به لا يستطيعون الدفاع عنه، فهذا الجيل الذي سئم من الطبقة السياسية الحاكمة، وهي إسلامية في معظمها، لا يمكن أن يخاطب بذكر مآثر الدعاة الأوائل، قد يصدق لأن كثيرين منه قرأوا عن السيد الشهيد الصدر، وهم بلا شك يقدرون موقفه الذي توج بشهادته، ولكنه، أي هذا الجيل، لا يمكن يثق بأحد، فهو يعيش الواقع، ولا يرى أنه معني في هذا الظرف الدقيق بالذهاب به إلى التاريخ، بل قد يجده نكوصا عن الواقع، والأكثر إيلاما أن الداعية اليوم لا يستطيع أن يرمم ما انهد من صرح حزب الدعوة الإسلامية، أو يصقل ما علاه غبار أخطاء متراكمة من صورته، فهو أمام صيرورة تاريخية تعيد ترتيب الواقع، وتسير الأمور بما لا تشتهي سفن السلف الصالح _ اضع خطين تحت الصالح _ من الدعاة المؤسسين، بسسب أخطاء ارتكبها الخلف من الدعاة الحاكمين.