قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ. سورة الأعراف
لعل هذا المشهد الحواري بين الله والشيطان ، قبل ان ينزل آدم على الارض ، اعمق تعبير عن رؤية الله لحرية التعبير وهو القادر على ان يلغي وجود الشيطان نفسه الذي تمرد على الله وناقشه وتقبل الله نقاشه بل منحه فرصة التحدي بينهما لاغواء الناس عن الصراط المستقيم او الايمان.
بين القدرة الكبرى لله على الغاء الآخر وقزمية الشيطان امام هذه القدرة لم يستخدم الله قدرته المطلقة لإلجام الشيطان من مناقشته بل منحه فرصة اغواء بني البشر ، مكتفياً بوعيد عذاب النار.
في يوم الصحافة العالمي ننظر الى مشهد الحريات الصحفية في العراق نظرة تشاؤمية للمستقبل في واقع يعاني منه الصحفيون والمدونون والاعلاميون الى ضغوطات كبيرة رسمية ومن قوى منفلته لخنق الرأي الآخر ومصادرته وان لم تنجح مثل هذه التهديدات الناعمة فان الاغتيال والتهجير والاختطاف مصير من ” يركب رأسه” في مواجهة قوى لاترى في آراء الآخرين المختلفين الا تهديداً لوجودها ، ووثقت تقارير محلية مقتل نحو 500 صحفي منذ 2003 بسبب آرائهم المختلفة والمتعارضة مع الآخر ” المعلوم المجهول !!”
فيما وثق مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) اختفاء 123 شخصا في الفترة ما بين 1 تشرين الأول 2019 و 21 آذار 2020، مما سهل العثور على 98 من العدد المذكور آنفاً، ولا يزال 25 آخرون في عداد المفقودين ، ابرزهم توفيق التميمي ومازن لطيف وهما من نشطاء احتجاجات تشرين على المستوى الاعلامي !!
واقع الحريات الصحفية هو المعيار الحقيقي لديمقراطية أي نظام سياسي بغض النظر عن المحتوى الايديولوجي الذي يحمله ويرّوج له ، وكل كلام عن حرية الصحافة خارج الخط البياني لهذه الحريات هو تضليل لنوعية النظام السياسي الحاكم.
ووصفت المبعوثة الأممية بلاسخرت مشهد الحريات الصحفية في العراق ببيان لها بالمناسبة “مواصلة الأمم المتحدة في جميع أنحاء العراق، توثيق حالات المضايقة والترهيب الجارية، وكذلك حالات الانتقام التي تتم سواءٌ بالوسائل القانونية أو بالعنف ضد أولئك الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير”! لافتة الى أن “إسكات الخطاب العام أو عرقلته أو إبعاده أو تقويضه يحقق أمرين (تشويه صورة الدولة وتقويض ثقة الجمهور) ويؤدي هذا بدوره إلى إحداث تأثير مضاعف، مما يُعيق إجراء حوارٍ مفتوح وعام ” ! مؤكدة حقيقة “حرية الصحافة محور حقوق الانسان”.
الكارثة ان المؤسسات الرسمية العراقية تعتبر وسائل الاعلام خصماً يتوجب اسكات صوته من خلال مجموعة قرارات وتعليمات ذات صيغة ملتبسة تحتمل التفسير القانوني بمعيارين حتى تتمكن من ” اصطياد ” الاعلاميين الذين يتجرأون على تجاوز الخطوط الحمر من وجهة النظر الرسمية ، وشهدنا اكثر من مذكرات اعتقال بناءً على شكاوى من اعلى المؤسسات الرسمية العراقية ! فضلا عن التقاعس في تشريع القوانين لحماية الصحفيين وحرية التعبير!
والاكثر كارثية ان جرائم اغتيال واختطاف وتهديد الصحفيين تمر دون عقاب او يجري تسويفها تحت يافطة ” ضد مجهول ” او التراخي عن محاكمة من يلقى القبض عليهم بالأدلة ، ان استخدام الآليات القضائية أخطر من حالات الاغتيال والاختطاف ، لأنها ستضع اصحاب الرأي الحر تحت سطوة معادلة الترهيب !!
ومحنة الصحافة والصحفيين في العراق ليس في مواجهة النظرة القاصرة للمؤسسات الرسمية والمسؤولين والشخصيات السياسية النافذة ، وانما ايضاً في المال السياسي المسيطر على معظم وسائل الاعلام الممولة من الاحزاب والشخصيات التي تستثمر الاعلام في صراعها السياسي، الوسائل التي تستخدم كأجندات سياسية حتى خارج السياقات المهنية للعمل الاعلامي والصحفي ، بما فيها عمليات وحملات التسقيط السياسية !
“جاء في المادة الثامنة من قانون حقوق الصحافيين أنه لا تجوز مساءلة الصحافي عما يبديه من آراء أو معلومات ، ومن يعتدي على الصحافي كمن يعتدي على الموظف أثناء أداء الواجب، وفق المادة 229 من قانون العقوبات ..، ولا تجوز مساءلة الصحافي أو إلقاء القبض عليه إلا بقرار قضائي، وأوجبت المادة العاشرة من القانون أعلاه إشعار نقابة الصحافيين والجهة التي يعمل بها الصحافي عن أي شكوى مرتبطة بعمله، ويجوز لنقيب الصحافيين أو رئيس المؤسسة التي يعمل بها الصحافي حضور الاستجواب تحقيقاً ومحاكمة”.
باستثنااء القاء القبض بقرار قضائي لاتوجد فقرة من فقرات هذه الحريات ” الطبيعية ” منفذة على ارض الواقع!
وبحسب تقارير منوعة فان فالجهات التي تمثل الدولة هي أكثر المنتهكين لحرية الصحافة فضلاً عن الجماعات الخارجة على القانون كالميليشيات وقوى الإرهاب. اما الحقوق غير المنظورة فهي ان نحو 90% من صحافيي العراق يعملون بلا عقود ولايكون مستغرباً ان يجري تسريحهم والقاءهم على ارصفة الشوارع ضمن المشهد العام لحرية الصحافة في العراق حتى هذا العام!