23 ديسمبر، 2024 3:13 ص

حروف وذاكرة – العودة

حروف وذاكرة – العودة

ليلتان في كركوك، النوم في صراع مع الكوابيس، تتصاعد صيحاتي التي أحاول بها طرد المسوخ التي تظهر كلما أغمضتُ عينَي. كان الجميع في توتر خاصة في غياب أي خبر عن أخي الكبير الذي تحرك مع وحدته قبل أسبوعين إلى الخط الأمامي في ( الأحمدي ). صباح اليوم الثالث لي في كركوك أقرر العودة إلى مقر وحدتي التي كانت ميداناً للغارات الأولى ليلة ١٦-١، تطلبُ مني أمي أن أبدأ العودة قبل الظهر لكي أتجنب الظلام، كما أنّ الغارات تشتد في الليل بحسب خبرتنا في حرب ثمان سنوات، والتي هي لا شيء مع ما شاهدنا من قصف في اليومين الماضيين.
بعد تناول وجبة خفيفة ، لبستُ ملابسي العسكرية وقمصلتي، وجدتُ في جيب القمصلة مفتاحاً، وسأبقى في تفكير دائم عن سبب وجود ذلك المفتاح في جيبي. حملتُ حقيبة صغيرة وضعتْ فيها أمي وجبةَ طعام تكفيني لغاية وصولي إلى وحدتي، ثم أصرّتْ أن ترافقني إلى گراج كركوك لتودعني من هناك ربما لكي تحتفظ بصورتي الآخيرة في عينيها. وگراج كركوك مجاور لمطار كركوك العسكري لذلك فأن مجيء غارة أو سقوط صاروخ في أي لحظة قادمة هي أمر أكيد وليس متوقعاً، وكان ذلك سبباً في عدم وجود أي باص أو ركاب في ساحة الگراج، حينذاك قررتْ أمي أن نؤجر سيارة خاصة، ولكن محاولاتنا كانت نتيجتها الفشل بعد معرفة الجهة التي أريد الذهاب إليها وهي معسكر التاجي، فذلك المكان لم تتوقف الغارات عليها ولا الصواريخ منذ ليلتين، ولكن مع إغراء الفلوس وافق سائق سيارة ميتسوبيشي رصاصية اللون أن يأخذني وأشترط خمسة وعشرين ديناراً كأجرة، بينما الأجرة الرسمية أقل من ذلك بكثير، وتعهد أن يضمن سلامة وصولي وأن تكون السيارة خاصة لي دون ركاب إضافيين.
أخذ ذلك السائق أجرته عملة واحدة من فئة ٢٥ دينار، وكان أول شيء فعله تنظيف أسنانه بطرف تلك العملة وأخرج شيئاً من فمه ونظر إليه ثم قذفه وقال ” يللا “، وودعتُ أمي، بينما تصاعد صوت إنذار غارة قادمة، فأسرع السائق بالخروج من تلك المنطقة المستهدفة. وبعد أمتار قليلة قال لي سأذهب إلى بيتي لأودع عائلتي، فقلتُ نعم لك ذلك، وذهبنا إلى بيته في حي الواسطي وودع بناته، وأنطلقتْ السيارة بنا بنا نحو معسكر التاجي، مع صوت مسجل سيارة مزعج جداً، فالسائق غير مهتم أبداً بما يجري ، كما أنّ القلق لا يعطيني فرصة لفتح أي حوار أو حتى الإعتراض على صوت المسجل ، حتى حين وصل السائق بالسيارة أمام منشأة صناعية مهمة وشاهد أثار القصف والدخان المتصاعد، قرر التوقف، ثم قال أنه عند وعده بضمان وصولي إلى وجهتي سالماً لكن له عائلة وبنات عليه أن يعود إليهم ، ونزل معي إلى الشارع في محاولة تنفيذ وعده عن طريق سائق آخر، حتى توقفت سيارة تويوتا كرونا زرقاء اللون يقودها ضابط برتبة ملازم أول طيار، وقال أنه ذاهب إلى معسكر التاجي، وكان وحدته الجوية ملاصقاً لوحدتي، فصعدتُ معه وودعتُ سائق ميتسوبيشي شاكراً له إلتزامه بوعده وكلمته! وكان المشوار مع السائق الجديد عسكرياً تماماً، حيث كان تحليل الغارات ودقتها هو موضوع كلامنا حتى وصلنا إلى وجهتنا.
وفي مدخل وحدتي العسكرية، صاح عليّ نائب ضابط ( م ) ” هلا… رايح وماخذ مفتاح السجن وياك ” ، حينها تذكرت ذلك المفتاح في جيبي، وأنني كنتُ ليلة بدء الحرب حارس بوابة السجن !